امتدت هذه المدينة في التاريخ، منذ بواكيره واستمر تجمعها العمراني وعطاؤها الحضاري بلا انقطاع أو خفوت حتى الآن. أحاطت الأساطير والثقافة الشعبية الشفهية باسمها المركب فقيل إنه جرت على أرضها معارك كثيرة حتى صار "الدم نهور". وعلى الرغم من أنه قد جرت بالفعل معارك كثيرة على أرض المدينة وسالت دماء غزيرة على امتداد تاريخها المكتوب، إلا أننا ندرك الآن أن التسمية جرت في سياق مختلف للغاية. فطبقاً للمعتقدات المصرية القديمة فإن إله الأرض "جب" هو الذي قسم مصر إلى قسمين. فكانت الدلتا من نصيب "هوريس" وكانت الصعيد من نصيب "سيت" كما ذكر "ألكسندر موريت" أستاذ المصريات في كتابه "مصر الفرعونية" (1). وعلى أثر المعركة الدموية بين هوريس وسيت نزل إله الحكمة "تحوت" إلى الأرض فضمد جراحها وصار هوريس هو رب الناس. ومن ثم سيطرت عبادة هوريس على أقاليم الدلتا وتركزت في دمنهور أي "مدينة الإله هور" أو هوريس في اللغة القديمة.
وقد تتبعّ العلامة "غوتيه" أصل المدينة في النصوص الهيروغليفية وما طرأ عليها في العصر القبطي وما آلت إليه في العصر العربي فقال أنها في الأصل dmi-n-hor وقد وجدت في قائمة بطليموس السادس في "أدفو". ولما كان "هوريس" هو إله النور طبقاً للمعتقد، فقد صارت دمنهور هي مدينة النور ومدينة النصر كما يفهم من كتابات الموتى وصور النقوش على المعابد القديمة.
وعلى الرغم من مزج العبادة الإغريقية الوافدة بالعبادة المصرية الأصيلة فيما بعد، فإن آثار "هوريس" ظلت بارزة المعالم عدة قرون ولم يستطع البطالمة أو الرومان طمسها بل إنهم أُعجبوا بها وأكثروا من وصفها بشتى التعابير. وتركزت في المدينة التي حملت اسمه منذ خمسة وستين قرناً من الزمان على الأقل.
لا زالت دمنهور الحالية، وخاصة الجزء القديم منها، وتحديداً في المنطقة التي تضم مسجد التوبة وحي القلعة، تقع في أعلى نقطة من المدينة في ما يشبه التل. ويَروج بين الأهالي أنها ترقد فوق أطلال المدينة القديمة والتي تحوي الكثير من الآثار المتراكمة التي مرت عبر حقب تاريخية عديدة، كانت دمنهور خلالها مدينة كبيرة ومؤثرة.
في عام 578 هجري زارها ابن جبير وقال "إنها بلد مسور في بسيط من الأرض أفيح. والقرى فيه يميناً وشمالاً لا تحصى كثرةً". وزارها ابن بطوطة في القرن السابع الهجري وقال عنها أنها "أم مدن البحيرة بأسرها".
وبعيداً عن فخ التعصب لدمنهور وعن أسر النوستالجيا، فقد فتنتْني دمنهور منذ أول سنين عمري حتى صار من المستعصي على تفكيري أن اعيش في سواها. امتلكتني شوارعها ومعالمها كأنها كائنات حية تحاورني وأحاورها.
أحاطت الأساطير والثقافة الشعبية الشفهية باسمها المُركّب فقيل إنه جرت على أرضها معارك كثيرة حتى صار "الدم نهور". وعلى الرغم من أنه قد جرت بالفعل معارك كثيرة على أرض المدينة وسالت دماء غزيرة على امتداد تاريخها المكتوب، إلا أننا ندرك الآن أن التسمية جرت في سياق مختلف للغاية.
انتصرت دمنهور على قوات نابليون في خمس معارك متتالية بقيادة "ابو عبد الله المغربي" قبل أن يستشهد هذا القائد أخيراً ويأمر نابليون بإحراق المدينة بتمامها. فحُرق الناس أحياء في بيوتهم وفي الطرقات، وأرسل قائد كتيبة إبادة دمنهور رسالته لقيادته: أصبحت دمنهور كومة من الرماد، ما تركنا فيها حجراً فوق حجر، وقتلنا من أهلها نحو ما يزيد عن ألف وخمسمئة شخص.
الآن، وفي مصر، ربما لا تعني المدينة شيئاً لغير أبنائها. ففي دورات المد والجزر التي يصنعها التاريخ بلا هوادة، قبعت دمنهور أخيراً كواحدة من مدن مصر المنسية، وقد لا تعني لهؤلاء العابرين بالقطارات أكثر من أنها آخر مدينة كبيرة سوف يتوقف عندها القطار قبل الوصول إلى الإسكندرية.
مدينة الجمال والإلفة
أحفظ مدينتي عن ظهر قلب. أعرفها في كل حالاتها وأوقاتها وتجلياتها. عرفتها دوماً في تلك الصباحات الباكرة وهي لا زالت تتنفس نداها قبل فتح المحلات وازدحام الطرقات. في ذلك الوقت حيث لا يزال ضباب شفيف يغبش طرقاتها النابضة في كل بقعة بمكامن الذكريات. في تلك الساعة التي تبدو فيها الشوارع أطول من المعتاد، خالية، مطمئنة، تكاد تسمع صوت همساتها وهي ترتل البسملة وقصار السور.
في كل يوم، حتى في تلك الأيام التي يستبد بيّ التعب أو يعصف بيّ الحزن، أجد نفسي أصافح تلك الطرقات، أترنم بواحدة من تلك الأغنيات التي تعشش بداخلي: حاول تفتكرني، العيون السود، يا مسافر وحدك، في الليل لما خلى، راجعين يا هوا.. أقطع ذلك الطريق من بيتي إلى قلب المدينة فيما أرتشف هذا الليل الحميم على مهل وأستمع إلى صوته الذي ينسكب في قلبي هادئاً مطمئناً، وأنا أتساءل في كل مرة عن سر هذا السحر المراوغ لليل المدينة. أخترق شوارعها التي صنعتني تفاصيلها المرهفة. في زمن مضى كان يستقبلني صوت الشيخ مصطفي اسماعيل وهو يندفق كالعطر من أفواه المحلات. كل المحلات ضبطت الراديو على موجه البرنامج العام كي تستمع إلى قراَن الساعة الثامنة. تتدفق الآيات على امتداد الطريق، لا تفوتني اَية واحدة على امتداد التلاوة التي تنتهي في تمام الثامنة والنصف قبل أن يرتفع اللحن المميز لموجز الأنباء. صار هذا الإستماع الجماعي جزء من الماضي مع انفراط العقد وتناثر الحبات.
كل هذه الأماكن التي أعبرها الآن كانت قناطر لعبور التاريخ وشاهداً حياً على تلك اللحظات المفصلية التي شكلت مصر منذ القدم.
مدينة ثائرة على الدوام
شهدت دمنهور أعنف المعارك بين قوات محمد بك الألفي وقوات محمد علي قبل أن تصل حملة "فريزر" الفاشلة إلى مصر في آذار/ مارس 1807 وتندحر تماماً عند مدينة رشيد. كي يأتي محمد علي مهرولاً من الصعيد مطارداً للمماليك وهو يظن أن قد انفلت عرشه مولياً إلى الأبد. جاء إلى دمنهور أخيراً وتنفس الصعداء وأرسل إلى الإنجليز للمفاوضة على شروط الصلح وتوقيع "معاهدة دمنهور" التي غادرت بعدها الحملة في 19 أيلول/ سبتمبر من العام نفسه ليصبح اليوم عيداً وطنياً للمحافظة.
الآن وفي مصر، ربما لا تعني المدينة شيئاً لغير أبنائها. ففي دورات المد والجزر التي يصنعها التاريخ بلا هوادة، قبعت دمنهور أخيراً كواحدة من مدن مصر المنسية، وقد لا تعني لهؤلاء العابرين بالقطارات أكثر من أنها آخر مدينة كبيرة سوف يتوقف عندها القطار قبل الوصول إلى الإسكندرية.
وبالقرب من هذه الأماكن أو فوقها مباشرة، تصدت دمنهور للحملة الفرنسية كأول مدينة في مصر تثور ضد الاحتلال. فكما ذكر "ادوار جوان" (2) أن الأهالي كانوا يتربصون لجنود الحملة فيأخذونهم من أطراف الجيش فينكلون بهم ثم يقتلونهم ومنهم الجنرال "ميرور" أحد أهم ضباط الحملة وأكثرهم تأثيراً والجنرال "دينانو" مساعد أركان حرب الحملة، والذي وقع أسيراً في دمنهور ولم تفلح جهود الجنرال نابليون في تحريره أو دفع فدية نظير الإفراج عنه.
من هو "حامد"؟
16-09-2021
انتصرت دمنهور على قوات نابليون في خمس معارك متتالية تحت قيادة "ابو عبد الله المغربي" قبل أن يستشهد هذا القائد أخيراً ويأمر نابليون بإحراق المدينة بتمامها. فحرق الناس أحياء في بيوتهم وفي الطرقات، وأرسل قائد كتيبة إبادة دمنهور لأحد القادة رسالة قائلاً: أصبحت دمنهور كومة من الرماد، ما تركنا فيها حجراً فوق حجر، وقتلنا من أهلها نحو ما يزيد عن ألف وخمسمئة شخص.
وفيما كانت ثورة عام 1919 تندلع في كل مناحي مصر، كانت دمنهور تتصدر المشهد وتقطع خطوط السكة الحديد وبقية طرق المواصلات بين الإسكندرية وسائر الأقاليم احتجاجاً على تفشي انتهاكات المحتل البريطاني وغطرسته.
راج بين "الدماهرة" منذ أن وعيت، أن دمنهور مدينة ثائرة مستعصية على الترويض. بدا ذلك جلياً في الانتخابات المتتابعة والتي كانت المدينة ترسل فيها بمعارضين شرسين للنظام إلى داخل البرلمان. وراج أيضاً بمشاهدات وخبرات متتابعة أن الاقليم أصبح مستهدفاً من قِبل النظام بالتهميش والإهمال، وصار من جملة الموروثات الشعبية أن النظام يرسل بأسوأ رجاله كي يتولوا زمام المحافظة، للدرجة التي لا يتذكر فيها أهالي دمنهور، وعلى مدى أكثر من مئة عام إلا اثنين فقط من الحكام كان لهما تأثيراً حقيقياً مباشراً في تحولات التنمية داخل المدينة والمحافظة، وهما عبد السلام الشاذلي باشا (مدير البحيرة عام 1929) ومحمد وجيه أباظة (محافظ لمحافظة البحيرة من عام 1960 وحتى عام 1968). ومن ثَمّ فلم يكن مثيراً للدهشة أن تصبح دمنهور من أوائل المدن التي احتضنت حركة "كفاية" ضد التوريث والتمديد للرئيس الراحل حسني مبارك. ومن أوائل المدن التي انطلق فيها نفير "ثورة يناير" 2011 ضد هذا النظام وحسمت المعركة فيها بشكل مبكر للغاية. فمنذ يوم 29 كانون الثاني/ يناير صارت المدينة تحت سيطرة الأهالي وجلست متأهبة حتى جاءت لحظة خلع مبارك الحتمية أخيراً.
ينتابني شعور أن هؤلاء الذين تحلقوا معاً في "ميدان الساعة"، "ميدان تحرير دمنهور" مطالبين حسني مبارك ونظامه بالرحيل كانوا أحفاد "السيد زهير" بطل "أنا الشعب" رائعة الأديب "محمد فريد أبو حديد" (3)، المثقف الرومانسي العصامي الذي ظل ثائراً ضد كل صور الاستبداد والقهر.
مدينة صناعية
كانت دمنهور واحدة من أكثر المدن تصنيعاً، حيث احتلت مكانة رائدة في صناعة حلج الأقطان على مستوى العالم، لكنها عانت من فروق طبقية قاسية، قسمت المدينة بين إقطاعيين يمتلكون الثروة من محالج القطن وآلاف الأفدنة الزراعية التي أحاطت بالمدينة، وبين طبقة كادحة ينتمي إليها ذلك المثقف الحالم والذي انحاز إلى كافة صور المقاومة والثورة على الظلم والتهميش، ودفع الثمن في كل مرة.
راج بين "الدماهرة" منذ أن وعيتُ، أن دمنهور مدينة ثائرة مستعصية على الترويض. ومن ذلك أنه وفيما كانت ثورة عام 1919 تندلع في كل مناحي مصر، كانت دمنهور تتصدر المشهد وتقطع خطوط السكة الحديد وبقية طرق المواصلات بين الإسكندرية وسائر الأقاليم احتجاجاً على تفشي انتهاكات المحتل البريطاني وغطرسته.
أصبحت دمنهور من أوائل المدن التي احتضنت حركة "كفاية" ضد التوريث والتمديد للرئيس الراحل حسني مبارك . ومن أوائل المدن التي انطلق فيها نفير "ثورة يناير" 2011 ضد هذا النظام وحسمت المعركة فيها بشكل مبكر للغاية. فمنذ يوم 29 كانون الثاني/ يناير صارت المدينة تحت سيطرة الأهالي وجلست متأهبة حتى جاءت لحظة خلع مبارك الحتمية أخيراً.
امتدت أحداث رواية "أنا الشعب" في أربعينات القرن الماضي وتقاطعت في كثير من حوادثها مع ما ذكره "الدكتور عبد الوهاب المسيري" عن نشأته في دمنهور في كتابه الذي يحمل مذكراته "رحلتي الفكرية في البذور والجذور والثمر" (4) والذي طاف بعين الطائر فوق دمنهور ديموغرافياً واجتماعياً وثقافياً وفكرياً. وليس من قبيل المصادفة أن ألمح بعض الأحداث المتطابقة بين ما كتبه "أبو حديد" في نسيج روايته وبين ما ذكره المسيري في مذكراته، التي وضع فيها يدي على شيفرة ذلك السحر الذي ارتبط بتلك المباني التي ظل أغلبها قائماً حتى وقت قريب. كنتُ أدهش في طفولتي وأنا أرى تلك الواجهات المستديرة والشرفات الحية التي تحمل عناصر نباتية وحيوانية متعددة في غاية التفصيل والدقة. لطالما فتنتني تلك التفاصيل المرهفة واستوقفتني أتأملها طويلاً.
كتب المسيري: "في دمنهور كانت هناك مجموعة من المباني على الطراز العربي ومنها واحدة من أهم المسارح في مصر، لم يكن يضاهيها في روعتها إلا دار الأوبرا القديمة. ويبدو أن الشاذلي باشا مدير البحيرة قرر أن يترك بصمته على المدينة فترك هذه المباني، والتي جاءت على طراز "الآر نوفو" (Art Nouveau) وهو معمار رومانسي يحاول التحرر من الطرز التقليدية في البناء ويحاكي خطوط الطبيعة والتي تأخذ أشكال الزهور والبراعم والأجنحة وخمائل العنب وغيرها من الأشكال الرقيقة. وكان للخط أولوية على كل العناصر المعمارية الأخرى والتي كان عليها أن تتبع الخط في تموجاته وتعرجاته" ..
عصر القبح
الآن وفيما يتوحش كل شيء، أتأمل تلك المباني التي درجت إلى الحياة وهي قائمة كي تشكل عالم طفولتي وصباي، وهم يهدمونها بعناد البغال وسطوة البلطجية. يهدمون غرفها الفسيحة وأسقفها العالية وواجهاتها التي تنطق بالجمال والروعة. يهدمون تلك الاستدارات اللينة الحية والتصميمات البديعة الطيبة كي تحل محلها أبراج شرسة متطاولة بغرور أصحابها وسطوتهم وقدرتهم على محو الجمال وتوليد القبح..
ومع كل مبنى يُهدم الآن يهدم جزء من تاريخ مدينتي وألقها ويهدم جزء من روحي وتتم محاصرتي بالتدريج في تلك المساحات الضيقة التي لا زالت تحفظ الهوى والهوية. تلك التي تقودني قدماي إليها دوماً بغير إرادة.
في تلك الأحياء القديمة، وقبل أن تسحقها مطرقة الهدم كي تمحو إلى الأبد دمنهور العتيقة فلا تترك لهذه الأجيال أي أثر من الماضي، أتأمل تلك اللافتات الخشبية البارزة التي ما زالت تزين هامات محلات الخشب والغلال وغيرها، والتي كُتبت يدوياً بخط الثلث أو الفارسي أو كلاهما معاً في معزوفة من الفن الرفيع شاهدة على عصر ممتد من الذوق والرهافة.
لن أنسى ما حييت عندما وصلت مطرقة الهدم أخيراً إلى ذلك البيت العتيق الذي كان يضم "مطبعة حلبي" (أقدم مطابع المدينة) وقام العمال بنزع لافتتها البديعة والتي كتبت بخط الثلث البارز باللون الأبيض على خلفية خضراء داكنة: مطبعة حلبي الكبرى.
كنت أتأمل اللافتة التي وضعت بجوار الهدم مستكينة مهملة، تنعي عصراً كاملاً من الجمال والفن.. قبل أن توضع في النهاية على عربة كارو كي تستقر في أحد مخازن الأنقاض.
كانت دمنهور واحدة من أكثر المدن تصنيعاً، حيث احتلت مكانة رائدة في صناعة حلج الأقطان على مستوى العالم، لكنها عانت من فروق طبقية قاسية، قسمت المدينة بين إقطاعيين يمتلكون الثروة من محالج القطن وآلاف الأفدنة الزراعية التي أحاطت بالمدينة، وبين طبقة كادحة موجودة بشكل واسع.
أدرك بطبيعة الحال أن القديم لا بد أن يصل إلى نهايتة المحتومة ذات يوم. لا بد من هدمه كي يحل محله جديد، فتلك هي طبائع الأشياء. ولكن ما يؤلمني أن الجديد لا يأتي ابداً بهذا الجمال الراحل وتلك الجاذبية المغتالة. يأتي متوحشاً متجهماً كي يعزز قيم المال وعنجهية الثروة ومراكمة الأرباح.. قبل ان تذهب دمنهور الطيبة الجميلة إلى مخازن الأنقاض.
1- Au temps des Pharaons Alexandre Moret, 1908, Librairie Armand Colin. https://bit.ly/3g067Fg
2- مصر في القرن التاسع عشر، تأليف ادوار جوان تعريب محمد مسعود، الطبعة الأولى بالقاهرة سنة 1921
3- يمكن تحميل الكتاب مجاناً بشكل قانوني: https://www.hindawi.org/books/16419535/
4- أصدرت دار الشروق طبعة جديدة منه.