وداعاً عائشة الشنا... لن نُطفئ الشعلة!

لا يمكن أن يتظاهر المجتمع بالعفة بينما يُنجب في السرّ، ويود ألا يأتي النهار على ما فعله بالليل. لذا اختارت عائشة الشنا أصعب مجالات مساعدة النّساء وأكثرها فِخاخاً: رعاية الأمهات اللّواتي حملنَ خارج سرير الزوجية. أنقذت أمومتهنّ وأطفالهنّ من أسوأ المصائر التي حجزها المجتمع لهنّ ولهم.
2022-10-06

عائشة بلحاج

صحافية وباحثة في حقوق الإنسان، من المغرب


شارك
عائشة تحتضن اطفالاً متخلى عنهم

"هناك شمعةٌ في قلب كل إنسان، يكفي أن يُشعلها، لينير قلوب الآخرين". يمكن لجملة عائشة الشّنا هذه أن تُكتب على شاهد قبرها، بعد رحيلها عن ثمانين عاماً، قضت منها ستّين سنة في خدمة الإنسانية. لذا لن نستغرب ما أثاره رحيلها من مشاعرٍ غامرة وغير اعتياديّة، رافقت حضورها في الفضاء العام قيد حياتها، مُدافعة بشغف وأمومة عن حقّ أمهات وأطفال لا تربطها بهم سوى تبنّيها لسوء حظّهم في الحياة، وتحويله إلى احتضان مادي ومعنوي. هذا ما فعلته عائشة الشنا، واحدة من أعظم النساء التي لم تكن حياتها سهلة أبداً، لكنها لم تحبطها بل كانت سبباً في اتقاد شعلة التطوع من أجل الآخرين.

لا يتمكّن الجميع من مواجهة ظروفهم الصعبة بقوّة تمنحهم القدرة على مساعدة آلاف غيرهم، وتغيير حياتهم. لكن عائشة، وفوق ذلك، اختارت أصعب مجالات مساعدة النّساء وأكثرها فِخاخاً: رعاية الأمهات اللّواتي حملنَ خارج سرير الزوجية. أنقذت أمومتهنّ وأطفالهنّ من أسوأ المصائر التي حجزها المجتمع لهنّ ولهم. مدّت عائشة ذراعيها للنّساء اللواتي رفضهنّ الآخرون، وكانت أحنّ عليهنّ ممن ولّدَهنّ. تتحدّث بحُرقة أمٍّ عن أطفال متخلّىً عنهم في الشّوارع وعربات النفايات، ككائنات غير مرغوبة، جاءت من دون استئذان، في وضع خارج حدود الشّرع والعرف. وبدلاً من مدّ يد العطف إلى هؤلاء، لأنّهم لم يختاروا المجيء بل جِيء بهم على حين غفلة، عبر علاقة عابرة أو اغتصاب أو وعد بالزواج لفتاة رماها أهلها إلى الشّارع حالما اكتُشف سرها، لفظهم المجتمع جميعاً.

"حين تلفظ الأُسر والمجتمع هذه الفئة، كيف سيكون مصيرها؟" تتساءل عائشة الشنا. ستكبر لتدمر المجتمع نفسه بمزيج من الحقد والعنف والقسوة، وهو كلّ ما منحه إيّاهم الآخرون. وستشكل خطراً على المجتمع الذي رماهم خارجاً، والذي يرفض حل الإجهاض مهما كان السبب. فأين يذهب هؤلاء؟ لا يمكن أن يتظاهر المجتمع بالعفة بينما يُنجب في السرّ، ويود ألا يأتي النهار على ما فعله بالليل.

من اليُتم إلى الأمومة

وُلدت عائشة الشنا عام 1941 في الدّار البيضاء خلال فترة الاستعمار الفرنسي. ثم انتقلت إلى مراكش، لتقضي طفولتها المبكّرة هناك. توفي والدها وهي في الثالثة من عمرها، لتترمّل والدتها في عمر العشرين بعدما توفيت أختها بمرض السل. في سن الدراسة، أدخلتها أمها المدرسة العربية ولكن المحيط الاجتماعي قرر تبنيها وإلحاقها بالمدرسة الفرنسية التي اعتُبرت آنذاك أجود من المدرسة المحلية. تذكُر عائشة بامتنان كبير ما فعله المجتمع الصّغير حولها، حين اعتنى بها وحضَن يُتمها المبكّر. حتى بعد أن تزوّجت والدتها للمرة الثانية فقيهاً محافظاً، وعائشة لا تتجاوز عمر السبع سنين، تابع نمط حياتها وحماها عن قرب من تقلبات زوج الأم. عندما أتمّت الشنا الثانية عشرة من عمرها، أجبرها زوج أمها على ترك المدرسة، وألبسها النقاب.

لكن أم عائشة التي تعلمت منها كيف تكون أماً مقاتلة، هرّبتها من البيت لتحمي مستقبلها. أخذتها إلى محطة الحافلات في ساحة "جامع الفنا" بمراكش، وأركبتها حافلة أوصلتها إلى بيت خالتها في الدار البيضاء. كان فعلاً جريئاً للغاية، في مرحلة أمنية صعبة من تاريخ الصراع بين الحركة الوطنية والاستعمار. في الدار البيضاء، أكملت عائشة تعليمها في مدرسة فرنسية للغات. بعد ثلاث سنوات لحقت والدتها بها، بعد طلاقها. وباعت مصاغها لترعى ابنتها حتى تكمل دراستها. غادرت عائشة المدرسة في السادسة عشر من عمرها، لتعيل نفسها ووالدتها عبر العمل في مستشفى كسكرتيرة لبرامج أبحاث عن الأمراض المعدية.

خلال هذه الفترة ومع ضغط المسؤولية وصغر سنها، تعرضت عائشة لأول انهيار عصبي. كانت على وشك فقدان عملها بسبب ذلك. لكن مرة أخرى، امتدت أيدٍ كثيرة لمساندتها للحفاظ على عملها، رغم مرضها. ثم قُدّمت لعائشة منحة لدراسة التمريض من إحدى السيدات التي آمنت بها، وساعدتها لتجاوز عائق عدم امتلاكها لشهادة الباكالوريا، وللتمويل الكافي لضمان تكاليف الحياة لها ولوالدتها. بعد حصولها على دبلوم الدولة في التمريض عام 1960، عملت الشنا في وحدة التعليم بوزارة الصحة، ثم انتهى بها المطاف لتعمل منسقة لبرامج التربية الصحية.

تفسِّر عائشة اتجاهها للعمل المدني ومساعدة كلّ من تستطيع مساعدته، بأنها تذكر من رحمها في طفولتها، وأشفق على يتمها. لذا تحثّ على الرحمة بالأطفال قائلة: أنا أردّ للمجتمع الخير الذي أعطاني إياه حين عشتُ ظروفاً شبيهة.

بداية الرّحلة التي لن تنتهي

شرعت عائشة الشنا في أولى أعمالها التطوّعية عام 1959، في جمعية "العصبة المغربية لحماية الطفولة"، فيما بدأت نشاطها في التخطيط العائلي عام 1965. لكنها لم تتخصّص في مساعدة الحوامل المُتخلّى عنهنّ وضحايا الاغتصاب إلّا عام 1985 حين أسّست جمعية "التضامن النسوي" وهي منظمة تعمل على مساعدة النساء في وضعية اجتماعية حرجة على الخروج من عنق الزجاجة، والاعتماد على أنفسهنّ عبر تكوينهنّ في مهنٍ لا تتطلّب شهادات دراسية، مثل الطبخ والحياكة والمحاسبة وغيرها من المهارات، بهدف إعادة إدماجهنّ (وأطفالهنّ) في المجتمع، خاصة اللّواتي ينتمين لأسرٍ بسيطة الدّخل والتعليم. كانت الإقامة في بيت الجمعية مفتوحةً أمام هؤلاء الأمهات بشكل غير محدود، ثم صارت محددة في ثلاث سنوات كحد أقصى. بعدها، تعتمد الأمهات على أنفسهنّ كلّياً ليُفسحنّ المجال لأمهات أخريات.

أدخلتها أمها المدرسة المحلية ولكن المحيط الاجتماعي قرر تبنيها وإلحاقها بالمدرسة الفرنسية التي اعتُبرت آنذاك أجود. تذكُر عائشة بامتنان كبير ما فعله المجتمع الصّغير حولها، حين اعتنى بها وحضَن يُتمها المبكّر. لكنها عندما أتمّت الثانية عشرة، أجبرها زوج أمها على ترك المدرسة، وألبسها النقاب. فهرّبتها أمها لتحمي مستقبلها، وأركبتها حافلة أوصلتها إلى بيت خالتها في الدار البيضاء.

لكن قبل هذه المرحلة، عملت عائشة على إدماج الأمهات وأطفالهنّ في عائلاتهنّ، حتى يحظين بظروف حياة أفضل. على الرغم من صعوبة قبول الأسر المغربية احتضان ابن غير شرعي، إضافة إلى الابنة التي أقامت علاقة خارج إطار الزواج حيث تَطرد الأسر بناتها بمجرّد أن يُكتشف حملهنّ، سعت "جمعية التضامن النسوي" إلى إقناع الآباء بالاعتراف بأولادهم الذين أُنقذوا من الانتماء للمجهول، ونجحت في بعض الحالات. عن هذا تقول عائشة: هل يُعقل أن يُمنح الطفل اسماً مستعاراً وأبوه موجود في البلاد؟ وتحكي عن أطفال تم الاكتفاء بوضع (x) في خانة اسم الأب والأم. وآخرين وُضعت العلامة في خانة الأب فقط بما أن الأم موجودة. وهناك من الأطفال من وُضع له كاسم عائلي: لقيط. كيف ستكون الصحة النفسية لهؤلاء الأطفال المتخلّى عنهم؟

تحكي عائشة الشنا عن أوّل امرأة لفتت انتباهها إلى وضعها الحرج، وكان ذلك في السّبعينيات من القرن الماضي. تُرجع الفضل في ذلك إلى أمومتها التي ساعدتها على فهم وضعية الأمهات المُجبرات على التخلّي عن أبنائهنّ. كانت قد أنجبت أوّل أبنائها للتو، وتوجّهت إلى المستشفى حيث ستشهد حالة أم اضطُرّت للتخلي عن رضيعها غير الشّرعي للمُساعِدة الاجتماعية، لأنّ أهلها أجبروها على ذلك. وأخذت عائشة على نفسها عهداً ببذل جهدها للحيلولة دون ترك الأمهات في وضعية صعبة كهذا الموقف، خاصة مع صدور نص قانون لاحق على منع تبني الأطفال من العوائل التي تكفلهم، مما أدّى إلى توقّف الأسر التي حُرمت من الإنجاب عن احتضان الأطفال، ما دام من غير الممكن منحهم الاسم العائلي. فترك هؤلاء الأطفال رهن الحياة بلا هوية ولا أسر، وهو ما رفع عدد الأطفال المتخلى عنهم.

في السّبعينيات الفائتة، خلال "سنوات الرصاص" وهو زمن عصيب من تاريخ المغرب، بدأت عائشة في إنتاج البرامج التلفزيونية والإذاعية المختصّة بصحة المرأة. من ضمن تلك البرامج أول عمل تلفزيوني عن التربية الصحية، حاولت من خلاله اختراق المنظومة الاجتماعية المحافظة، فجعلت النساء يتطرقنَ إلى ما هو غير مسموح به، مستغلة فرصة البث المباشر لتفادي مقص الرقيب. وكانت عائشة من أوائل من تحدث علناً عن العلاقة بين مستوى العيش وعدد الأطفال في الأسرة.

العطاء أمام تقاطع نيران

من خلال عملها في مجالات شائكة في مجتمع محافظ، مثل تنظيم الأسرة ووضع الأمهات العازبات، والأطفال غير الشّرعيين، وضحايا زنا المحارم، تلقّت عائشة انتقادات متوالية من الأوساط المحافظة، وبعض الفقهاء الذين هاجموها على منابر المساجد، وبعض السياسيين كذلك، بدعوى أنّ عملها يجعل من فساد الأخلاق والعلاقات الجنسية أمراً مشروعاً. وتغاضوا عن كونها تسعى إلى إصلاح واقع موجود، لم تكن هي سبباً فيه ولم تشجعه... بل بالعكس كانت عائشة طوال خرجاتها الإعلامية ضد العلاقات الجنسية خارج الزواج نظراً للمخاطر التي تنجم عنها، والتي تراها بعينيها كل يوم. لكنها لم تفقد أملها في إحداث فارق. فمع عجز القضاء أمام المشرّع، لم يبقَ سوى المجتمع المدني.

تفسِّر عائشة اتجاهها للعمل المدني ومساعدة كلّ من تستطيع مساعدته، بأنها تذكر من رحَمها في طفولتها، وأشفق على يتمها. لذا تحثّ على الرحمة بالأطفال قائلة: أنا أردّ للمجتمع الخير الذي أعطاني إياه حين عشتُ ظروفاً شبيهة.

تتمثل الحلول التي سعت عائشة الشنا للبحث عنها لتسيير حياة الأطفال المتخلّى عنهم، في التوجه إلى الآباء مباشرة واستمالتهم وإقناعهم بالاعتراف بأبنائهم بشكل قانوني عبر الزواج. في الدرجة الثانية، محاولة إقناع الأب بالاعتراف بالابن عبر آلية "الاستلحاق" التي يمكن من خلالها نسب الابن إلى أبيه، حتى وإن لم يتزوّج أمه. لكنها حلول ما بعد حدوث المشكلة، تقول عائشة. لذا تبقى التربية الجنسية في نظرها حلا جذريّاً لتفادي حدوث حالة حمل خارج الزواج خصوصاً مع تغيّر طبيعة النساء اللواتي يلجأن إلى الجمعية، إذ لم يعدن خادمات مغتصبات، أو فتيات بسيطات غُرّر بهنّ بوعود زواج، بل صار كثير منهنّ الآن فتيات متعلمات وطالبات جامعيات دخلنَ في علاقات جنسية، بعقد عرفي أو بدونه، ووجدن أنفسهنّ وحيدات أمام واقع صادم.

اللافت أن عائشة لم تناصر الإجهاض في أي مرحلة، بل اعتبرته إثماً في حق الأم التي غالباً ما ترغب في الاحتفاظ بابنها أو ابنتها، حتى في حالة الحمل نتيجة الاغتصاب! تحكي عائشة عن امرأة قرّرت الاحتفاظ بالجنين، على الرغم من أنه كان نتيجة تعرضها لاغتصاب ثلاثي. لا تقف عائشة مع اللجوء إلى الإجهاض إلا في حالات استثنائية. فليس "من السهل أن تنزع من الأم قطعة من لحمها... وما من امرأة تتخلى عن طفلها أو تنساه أبداً"، كما أن "الأطفال ضحايا لأنّهم لم يُسألوا في المجيء إلى الحياة، ولا يمكن حرمانهم من الحياة لأسباب خارجة عن إرادتهم".

حازت عائشة الشنا عام 2009 على جائزة (the Opus Prize) التي يبلغ قدرها مليون دولار، مكافأةً على عملها مع النساء المحتاجات للرعاية. وكانت أول عربية ومسلمة تفوز بهذه الجائزة. وخصصت مبلغ الجائزة ليكون ضماناً لاستمرارية مؤسستها حتى بعد وفاتها، مع الإشارة إلى أنها لطالما سعت لتعتمد أولئك الأمهات على أنفسهنّ عبر مهن مختلفة.

تبقى التربية الجنسية في نظرها حلاً جذريّاً لتفادي حدوث الحمل خارج الزواج، خصوصاً مع تغيّر طبيعة النساء اللواتي يلجأن إلى الجمعية، إذ لم يعدن خادمات مغتصَبات، أو فتيات بسيطات غُرّر بهنّ بوعود زواج، بل صار كثير منهنّ الآن فتيات متعلمات وطالبات جامعيات دخلن في علاقات جنسية، بعقد عرفي أو بدونه، ووجدن أنفسهنّ وحيدات أمام واقع صادم.

نشرت عائشة الشنا كتابين باللغة الفرنسية. الأول، "البؤس"، عام 1996. سردت فيه عشرين قصة لنساء عملت معهنّ، واحتضنتهنّ، مفضّلة استعمال مصطلحي "النساء المُتخلّى عنهنّ" أو "النساء في وضعية صعبة"، بدل "الأمهات العازبات". ورعت أطفالهنّ بصفتهم "أطفالا متخلى عنهم". عن "البؤس"، كتبت فاطمة المرنيسي: "أخاف عائشة الشنا لأنني وأنا أقرأ كتابها انتبهتُ إلى أن انشغالي الأهم وأنا أكتب، هو كيف أغوي قارئي وأنال إعجابه. فيما عائشة الشنا تكتب لتزعج وتثير الأعصاب، ولتزجّ بنا وسط مغرب الحقائق المريعة التي لا تُحتَمل". وتُرجم الكتاب لاحقاً إلى اللّغة العربية، وكان من أكثر الكتب مبيعاً لفترة طويلة.

الكتاب الثاني لعائشة الشنا، بعنوان: "بصوت عال" صدر عام 2013. وضم شهاداتٍ عن تجارب "أمهات عازبات" شابات لفظتهنّ أسرهنّ، وكنّ "ضحايا مجتمع قاس في أحكامه"، وتكفلت بهنّ جمعية التضامن النسائي، حسب ما جاء في مقدمة الكتاب.

من أين لك هذه القوة يا عائشة؟

منذ سنوات، قدمت فاطمة المرنيسي شهادة قوية عن عائشة الشنا: "أخاف من عائشة الشنا، لأنها لا تقول سوى الحقيقة، مهما كانت صادمة. في مغرب يتخذ فيه قليل من الناس من قول الحقيقة مهنة ومصدر عيش. فنحن نقضي وقتنا في قول كل شيء إلا الحقيقة". وبينما تخصصت المرنيسي في كسر التّابوهات الثقافية والاجتماعية من النّاحية النظرية، كانت عائشة تحمل الأطفال والأمهات المنبوذين من المجتمع والقانون، وتجعل منهم قضية رأي عام.

بعد أكثر من 60 سنة من العمل الاجتماعي مع النساء، نظر الجميع إلى عائشة الشنا كامرأة شديدة القوة والتحمل. لكن الحقيقة أنها كانت في غاية الهشاشة والحساسية مثل أي واحدة منا. وعانت انهيارات عصبية كثيرة، بعضها بسبب طبيعتها الحساسة، والآخر نتيجة ما كانت تتعرض له من تنمّر وسب، واتهامها بتشجيع الفساد الأخلاقي والعلاقات الجنسية خارج الزواج. فلا شيء يقوم به المرء ولا يأكل من حياته وطاقته. لا يتعلق الأمر بالجهد في العمل فقط، بل بتحمل الحالات التي تراها كل يوم، وكثير منها صادم. الحقيقة أن عائشة كانت بقدر قوة وضعف أي شخص آخر. لكنها كانت تقف على قدميها مرة أخرى، وتواصل مسارها، بتحفيزٍ من عدد كبير من مشجعيها.

عن كتاب "البؤس" الذي نشرته عائشة، كتبت فاطمة المرنيسي: "أخاف عائشة الشنا لأنني وأنا أقرأ كتابها انتبهتُ إلى أن انشغالي الأهم وأنا أكتب، هو كيف أغوي قارئي وأنال إعجابه. فيما عائشة الشنا تكتب لتزعج وتثير الأعصاب، ولتزجّ بنا وسط مغرب الحقائق المريعة التي لا تُحتَمل".

تقول عنها فاطمة المرنيسي: "أخاف من عائشة الشنا، لأنها لا تقول سوى الحقيقة، مهما كانت صادمة، في مغرب يتخذ فيه قليل من الناس من قول الحقيقة مهنة ومصدر عيش. فنحن نقضي وقتنا في قول كل شيء إلا الحقيقة". 

حيثما ذهبت عائشة كانت تحمل في جعبتها قصصاً لا تنتهي، عن كثير من الحالات التي ساهمت في إنقاذ حياتها، سواء من الأمهات أو الأطفال، وعادت لتشكرها بعد سنوات أو عقود. فتحكي عن طبيبة تقدمت إليها بعد ثلاثين سنة، لتعبر عن امتنانها لأنها حمتها من مصير مجهول بعد مساعدتها على البقاء مع والدتها، على الرغم من أن والدها واصل رفضه لها.

مقالات ذات صلة

لكن عائشة على الرغم من عملها في وسط عنيف، لم تكن عنيفة على الإطلاق. بل كانت تسعى من أجل حلول تراعي كل الأطراف. وخلال عملها كله، كانت حاضرة دوماً في البيت الذي يضمّ الأمهات، فتحمل الأطفال، وتستمع للأمهات وترشدهنّ، أو تجدها في ندوات وبرامج تكسر وحدها أحد أهم التّابوهات في المجتمع. وتتلقى اللوم وحدها على ما يحاول المجتمع إخفاءه، ولم يسامحها على تعريته.

عاشت عائشة حياة مليئة بالحب والعطاء، وتوفيّت بتاريخ 25 أيلول/ سبتمبر 2022 بعد رحلة طويلة في مواجهة السّرطان، الذي كانت تصفه بالعدو الذي تصالحت معه، إلى أن رحلت أخيراً تاركة إرثاً جباراً، وبصمة لا تُمحى في تاريخ النّسوية. 

مقالات من المغرب

المغرب... مَن أثقلَ جيوب العيد؟

يبدو المشهد مثاليّاً، ولا شيء ينغصّه. فالملابس جديدة، والوجوه هانئة، كأن الحياة بهية والجو بديع. بل تتلوّن الجلابيب أكثر كل سنة، وتبدو أغلى تكلفة وأرفع جودة. فهل صار المغاربة أغنى،...

للكاتب نفسه

المغرب... مَن أثقلَ جيوب العيد؟

يبدو المشهد مثاليّاً، ولا شيء ينغصّه. فالملابس جديدة، والوجوه هانئة، كأن الحياة بهية والجو بديع. بل تتلوّن الجلابيب أكثر كل سنة، وتبدو أغلى تكلفة وأرفع جودة. فهل صار المغاربة أغنى،...