حدث أن لاحظ المزارع الغزّي سلمان النباهين مشكلة في جذور شجرات الزيتون في بستانه في مخيم البريج للاجئين في قطاع غزّة. وفي محاولة لفهم سبب عدم تجذرها بشكل صحيح، حفر رفقة ابنه حول جذور إحدى الشجرات. ثمّ ضرب فأس الابن شيئاً صلباً وغير مألوف، وهنا كانت المفاجأة. لقد اكتشف الاثنان أرضية فسيفسائية مزخرفة من العصر البيزنطي تُظهر مجموعة متنوعة من الطيور الملونة وحيوانات أخرى، بالإضافة إلى ملامح من الحياة الاجتماعية في عصرها.
"إنه كنز، بل أغلى من كنز. وهو ليس ملكي شخصياً، بل هو ملك لكل فلسطيني". هذا ما قاله سلمان النباهين، شارحاً أن أبناءه بحثوا على الانترنت ليحاولوا فهم الحقبة التي تنتمي إليها الأرضية الأثرية، حيث وجدوا أنها بيزنطية الأصل، وهذا ما أكّده مسؤولون في وزارة السياحة والآثار الفلسطينية كذلك، التي قال بيانها إنّ "الاكتشاف الأثري لا يزال في مراحله الأولى وننتظر معرفة المزيد...".
ينظّف النباهين الفسيفسياء بنفسه شبراً بشبر، ويبذل مجهوداً كي يحافظ على القطعة الفنية الملفِتة في درجة جودتها وحفظها بعد كل تلك السنين. وهي على كل حال ليست المرة الأولى التي يجد فيها أحد سكان القطاع آثاراً بالصدفة، فغزّة غنيّة كلّ الغنى بآثار من مرّوا بها، فراعنةً وإغريق ورومان وبيزنطيين ومسلمين. تلك البقعة مدينةٌ من مدن العالم القديم، وكانت مركزاً تجارياً هاماً ومرسى للسفن ومقراً للتبادلات الاقتصادية والثقافية، منفتحة على الدنيا، وهي كذلك بطبعها! مدينة بحرية لا يمكن لها أن تنغلق أو تُكمّم، رغم ما يدّعيه الحصار الإسرائيلي من شراسة وديمومة. وهي عند المفترق تماماً بين القارة الافريقية والآسيوية، بمدى بحري يصلها بأوروبا التي أرسلت إلى المنطقة إمبراطورية رومانية، والتي غزت بحروبها الصليبية، فمرّ من مرّ وبقي من بقي.
ليس من المستغرب أبداً إذاً أن يجد الغزيون وبشكل مستمرّ على مرّ السنوات، تحفاً وأثريات بالغة الأهمية والمكانة التاريخية تحت كل حجر يقلبونه، وفي البحر كذلك، كما في حالة تمثال الإله الإغريقي أبولون الذي اكتشفه صياد في بحر غزة في عام 2013، وقُدّر عمره بأكثر من 2500 سنة ( وفيلم "غزّة مونامور" مستوحى من تلك القصة). كما أنّ هذا العام شهد اكتشاف تمثال لرأس الإلهة الكنعانية أنات في خان يونس جنوبي القطاع، يعود إلى العصر البرونزي ويقدر عمره بـ4500 عام!
فهذه الـ"غزة" ليست كما يحبّ الاحتلال وحلفاؤه الترويج، صحراء قاحلة لم يقطنها البشر، ومخزناً "للإرهابيين" الذين تحاصرهم دولة الاحتلال وتقصفهم وتمنع عنهم السفر والتنقل والانفتاح على العالم. بل هي مدينة بشر تركوا فيها الأثر تلو الأثر، وحضارات متعاقبة وصولاً إلى هؤلاء الذين يسكنونها اليوم، ويعملون بما تتيح لهم أرضهم وبحرهم، منهم صيادي سمك ومزارعين ومعلمين وحرفيين ومهندسين وأطباء، ومصممي أزياء كذلك.
تخرج هذه الآثار من تحت التراب أو الماء، تطل برأسها قائلة للغزيّ أنها تراه، وأنها صلته بعراقة سحيقة في الزمن، وأنها تكسر الحصار فتصله بعوالم بعيدة في الزمان، لا في المكان.
******
يجدر الذكر أن الاحتلال الإسرائيلي لا يوفر في مجمل فلسطين فرصة للاستيلاء على الآثار، متذرعاً بامتلاكه "العلماء والباحثين" والمتاحف، فيما ينكر حق الفلسطينيين بموجودات أثرية تخص أرضهم. أمّا في غزّة، بعيداً عن أيديهم، فيتصدّى الناس أنفسهم وبعض جامعي التحف لمهمة جمع الأثريات والبحث حول جذورها وافتتاح متاحف متواضعة في البيوت. لكنّ غياب الاهتمام الرسمي الفلسطيني أو ضعفه يؤدي في بعض الأحيان إلى ضياع بعض القطع أو السطو عليها، أحياناً ممن هم في مواقع السلطة أنفسهم.