جاء خطاب رئيس الجمهورية قيس سعيّد عشية نشر الدستور الجديد مساء 17 آب /اغسطس 2022 ليؤكّد خط القطيعة الذي اختاره مع النخب ومنظومة الحكم السابقة التي قادتها وتحكمت فيها "حركة النهضة" الإسلامية طوال ما يسميها بمعية أنصاره "العشرية السوداء" في إحالة غير عفوية للعشرية السوداء التي عرفتها الجزائر، فضلاً عن تكراره مرّة أخرى إيمانه الكامل بقداسة الرسالة التاريخية التي تعهّد بها لبناء جمهورية جديدة ''هي جمهورية الشعب" الفعلية هذه المرة، متجاهلاً بذلك عقوداً طويلة من تاريخ تونس السياسي والاجتماعي ونضال مجتمعها من أجل الحرية والعدالة.
هكذا يمضي الرئيس قدماً في ما يسميّه معركة تطهير البلاد وتحقيق العدل الاجتماعي باعتبارهما أهم المعارك اليوم. فمعركة الحريات حُسمت في رأيه أو هي على الأرجح لا تمثل اليوم أولوية وطنية.
لذا صار ضرورياً تناول هذا المنعطف الدستوري ليس فقط في جوانبه السيّاسية والقانونية بل في علاقته بالاستحقاقات الاجتماعية المرتقبة، أي بقضايا التنمية وخلق فرص العمل والحد من الفوارق وتحقيق الرفاه الموعود. وهو تناوُل يطرح منذ البداية إشكالية العلاقة بين القانون والمجتمع، أي العلاقة بين معيارية القاعدة القانونية وعمومتيها من جهة، وتناقضات والتباسات وتبدّلات الجسم الاجتماعي.
وفي حين تبقى قناعات الرئيس مؤمنة بأن القانون نازلاً من فوق إلى أسفل هو الذي يغيّر وضع الناس، ننطلق نحن في مقاربتنا من وضع دور الفاعلين الاجتماعيين والصراع الاجتماعي في مقام أول لفهم كيف يغيّر الناس أوضاعهم ويصنعون وجودهم الاجتماعي.
تونس: قُضي الأمر الذي فيه تُستَفتون..
31-07-2022
سيكون السؤال الأدقّ هنا هل يكفي تغيير القانون (وفي هذه الحالة الدستور كنص مرجعي) لتغيير بنية العلاقات الاجتماعية وآليات إنتاج الثروة وإعادة توزيعها بشكل عادل ضامن لكرامة الجميع؟ أم أن الصراع الاجتماعي هو الذي يغيّر - بموجب تحوّل في ميزان القوى - بنية العلاقات وبالتالي العلاقة بالقانون ذاته؟
لهذا النقاش جذور نظرية في حقول فلسفة القانون والعلوم الاجتماعية، وهو يضع وجهاً لوجه من يؤمنون بالضبط الفوقي للجسم الاجتماعي عبر عمومية وصرامة القاعدة القانونية، ومن يؤمنون بدور الصّراع في تغيير مسارات الممكن، حيث لا عدل في القانون وأمام القانون بين الأفراد والجماعات والفئات إلا إذا تعادلت القوى. وهو ما يعّد تجديداً دائماً للقيم وقواعد العيش بموجب قوانين الصراع والحركة (1).
لتوضيح هذا النهج النقدي عند تحليل وظيفة القانون وعلاقته بالمجتمع، لا مفرّ من نظرة بديلة للمدرسة الوضعية في القانون، والتي تعتبره نظاماً مغلقاً مكتفياً بذاته ومستقلاً تماماً في ما يتعلق بكل من المجتمع والسياسة والاقتصاد والأخلاق. فهو يكتسب سلطته على الافراد والمجتمع من طبيعته المجردّة، بينما ترى مقاربات تهتمّ بسوسيولوجيا القانون في ربط القانون بالمجتمع تمثلاً وفاعليةً أحد مداخل الفهم الاجتماعي والتاريخي لدوره وحدوده، مما يعني فهم القانون كظاهرة متجذرة في التاريخ والمجتمع. فمعياريّته ليست مطلقة مسبقاً، بخلاف ما ذهبت إليه نظريات التجريد القانوني الخالص.
وينتج عن هذا النقد حتماً توتّر معرفي بين شروط القراءة الاجتماعية المفتوحة للقانون والقراءة القانونية المغلقة له، ويمتد هذا التوّتر إلى المجال السياسي العملي ليصبح تقابلاً بين إرادة التحكم في المجتمع بواسطة القانون وإرادة التحرّر بالتّمرد أو بوسائل العمل السياسي لتغيير القانون حتى يكون أكثر ملاءمة لتحوّلات المجتمع وأكثر عدلاً.
كسرت ثورة 2011 الحلقة المفرغة التي استقرت فيها علاقة الدولة القوية بالمجتمع المدني الضعيف منذ سنة 2000 والتي أغلقت الباب أمام كلّ تغيير ديمقراطي توافقي. وهي بقدر ما نجحت في إسقاط رأس النظام بعد هروب بن علي، وفي حلّ منظومة الحكم السابقة وإلغاء دستور 1959، فإنها صدمت البناء الاقتصادي والاجتماعي وفاجأت الجميع.
استند خطاب الرئيس هذه المرّة، بعد رفض مبهم لنظرية الفصل بين السلطات العائدة إلى "مونتسكيو"، إلى فقيه القانون "هانس كلسن" ونظرية الهرم التراتبي، لتبرير علوية كلّ قاعدة قانونية تستمد مشروعيتها من قاعدة أعلى، وواعداً في خاتمة هذا المسار الدستوري الجديد الشعب بالرفاه. تلك هي في نظرنا ورطة الرئيس النظرية والعملية في آن.
جدل تونسي غير عقيم حول الشعبوية
19-07-2022
أدرك "هانس كلسن" - مرجعية الرئيس المعلنة هذه المرة - فعلاً هذا البعد المتخارج للقانون كمعيار أساسي لصلاحيته، وهو ما أدى به إلى طريق مسدود. فنظريته الشكلية للقانون تجعله غافلاً عن القيم التي تحرّكه والوقائع التي تحكمه والقوى الاجتماعية التي تتصارع حوله. فالتفكير في شروط دولة الرفاه والدولة الاجتماعية يفترض الابتعاد عن "كلسن" وتبني فلسفة قانون مغايرة (2). وما يضاعف قناعاتنا بهذه الفلسفة القانونية المغايرة هي الطبيعة المتحركة لمرحلة ما بعد التّسلطية التي تعيشها تونس منذ 2011.
"لا بدّ أن يتغيّر كلّ شيء حتى لا يتغير أي شيء"
أصبحت هذه المقولة لرواية "الفهد" (3) التي تناولت انهيار الطبقة الأرستقراطية الصقليّة، أكثر شهرة بعد استخدام غرامشي لها في تحليله لحدود الثورة السلبية التي عرفتها إيطاليا، مما منحها راهنيّة جديدة وجعلها مرجعاً لفهم حدود التغيير السياسي حين لا يطال الأسس الاجتماعية والاقتصادية للهيمنة والنفوذ. لذلك نعود إليها لرسم حقيقة مأزق الانتقال الديمقراطي اليوم في تونس.
لقد مثّلت بداية السبعينات من القرن العشرين منعطفاً هاماً في تاريخ الصراع الاجتماعي في تونس المعاصرة، وذلك على المستويين السياسي والاقتصادي، إذ عرف عقدي السبعينات والثمانينات من القرن الفائت أهم المواجهات الاجتماعية بدءاً من التصدي للحركة الطلابية ورفض استقلالية منظمتها النقابية، "الاتحاد العام لطلبة تونس" سنة 1972، والمواجهة مع "الاتحاد العام التونسي للشغل" سنة 1978، ثم انتفاضة الخبز سنة 1984. ومن أهم دروس هذه المواجهات الاجتماعية هو تواصل الصراع على مدى عقدين حول دور الدولة (هل هي تسلطية / أبوية / غنائمية أم ديمقراطية / اجتماعية؟) وهو صراع امتد موضوعياً إلى طبيعة ودور المجتمع المدني (هل هو تعددي ومستقل أم تابع وخاضع؟).
ثورة 2011 كسرت الحلقة المفرغة التي استقرت فيها علاقة الدولة القوية بالمجتمع المدني الضعيف منذ سنة 2000 والتي أغلقت الباب أمام كلّ تغيير ديمقراطي توافقي. وهي بقدر ما نجحت في إسقاط رأس النظام بعد هروب بن علي، وفي حلّ منظومة الحكم السابقة وإلغاء دستور 1959، فإنها صدمت البناء الاقتصادي والاجتماعي وفاجأت الجميع.
بتوصيف أدق ذهلت قطاعات واسعة من البرجوازية العليا والوازنة في اقتصاد البلاد لهروب بن علي، فسقوطه يعني سقوط الأسس التي قامت عليها الرأسمالية التونسية كـ"رأسمالية قُرْب" نشأت في حضن الدولة ثم في حماية القصر والعائلة الحاكمة، مما مكّنها من تسهيلات بنكية ونصيب وافر من الصفقات العمومية وسيطرة على أنشطة اقتصادية مربحة كالسّياحة والتجارة والصناعات الغذائية..
وهو ما جعل مصالح جزء هام من هذه البرجوازية ومن نظام الحكم متداخلين. فهي برجوازية لا تتخيّل مواصلة دورة الاقتصاد المربح في ظل اقتصاد تنافسي مفتوح ودون حماية الدولة. فلقد استمر على امتداد عقود وتكرّس في زمن حكم بن علي ضرب من التوافق بين النخبة الاقتصادية والدولة وقصر قرطاج والعائلة الحاكمة الجديدة، من أجل ديمومة نظام اقتصادي تسوده الامتيازات. وحتى وإن تغيرت جزئياً عناصر هذا التوافق بعد 2011، فقد بقيت مقومات الهيمنة والمنافع المتبادلة على حالها.
من جهتها لم تكن رؤوس الأموال الأجنبية المستثمَرة في تونس معنية بالديمقراطية ودولة القانون بل تكيفت مع نظام تسلطي مركزي يضمن منافعها الجبائية وتحويل أرباحها. وسعت بعد 2011 إلى تأمين مصالحها وتجاوز العاصفة. من جهتها عمل بارونات التهريب على إدامة الاستفادة من السيولة المالية التي يوفرها الاقتصاد الموازي.
مثّلت بداية السبعينات من القرن العشرين منعطفاً هاماً في تاريخ الصراع الاجتماعي في تونس المعاصرة، وذلك على المستويين السياسي والاقتصادي، إذ عرف عقدي السبعينات والثمانينات من القرن الفائت أهم المواجهات الاجتماعية بدءاً من التصدي للحركة الطلابية ورفض استقلالية منظمتها النقابية، "الاتحاد العام لطلبة تونس" سنة 1972، والمواجهة مع "الاتحاد العام التونسي للشغل" سنة 1978، ثم انتفاضة الخبز سنة 1984.
لقد كان ولاء البرجوازية المتنفذة للنظام التسلطي وعدم انخراطها في معركة الحريات حاسماً في تماسك النظام السياسي وشرطاً لنمو ثروات المجمّعات المالية والاقتصادية الكبرى في القطاع المصرفي والسياحي والصناعات الغذائية والمساحات التجارية الكبرى..
انهيار رأس النظام السياسي الشريك / الحامي دفع إلى بحث هذه البرجوازيات عن سند جديد. أي كان لا بد أن يتغير كلّ شيء ولا يتغير أي شيء يمس مصالحها، فكانت حركتها في اتجاهات شتى نحو الإسلاميين والعلمانيين وحتى اليساريين والمجتمع المدني والنقابات والنوادي الرياضية ووسائل الإعلام. واتجه بعض رموزها إلى اقتحام حلبة التنافس السياسي وخوض تجارب حزبية وبرلمانية وحتى التطلع للترشح لرئاسة الجمهورية. وسعت إلى بناء جسور تفاهم جديدة ونجحت في عهد الرئيس الرّاحل الباجي قائد السبسي في تمرير قانون المصالحة، كما خضعت للابتزاز وأذعنت له خوفاً.
بعد 10 سنوات، فشلت البرجوازية التونسية كقوة اقتصادية في بلورة مشروع سياسي ليبرالي بالمعنيين الاقتصادي والسياسي، وفي التحوّل إلى لاعب سياسي مباشر ودائم من خلال دعم ''نداء تونس '' ثم ''تحيا تونس'' أو من خلال بناء حزبي جديد قوي كـ ''آفاق تونس'' أو ''البديل التونسي''.
لا دوراً مرتقباً قريباً للبرجوازية العليا في تونس في أن تكون قوة إصلاح ديمقراطي، بالنظر إلى مجالات نشاطها الاقتصادي وطبيعتها الريعية/ فهي لم تكن فئة مقهورة تحت حكم بن علي حتى تنتفض ضده أو تنعتق بنفسها بعده بل كانت مستفيدة معه ومنه. وهي ليست متحمّسة لفتح لا التنافس الاقتصادي الشفاف ولا التنافس السياسي الديمقراطي .
الطبقة الوسطى والمجتمع التحتي: أية علاقة بالديمقراطية؟
تستند عدّة قراءات سوسيولوجية إلى حجم الطبقة الوسطى سواء لفهم عوامل استقرار النظام السابق أو لفهم مسار الحركة الثورية. فسواء اعتبرناها واجهة دعاية '' للمعجزة التونسية '' كما كان يُروّج لها، أو عاملاً مرجِّحاً في سقوط التسلطية بعد التحاقها التدريجي بمسار الانتفاضة، ثم في بناء الديمقراطية، فإن وزنها ودورها اليوم في ظلّ الوضع الجديد صارا على المحك.
ذهل قطاع كبير من البرجوازية العليا والوازنة في اقتصاد البلاد لهروب بن علي، فسقوطه يعني سقوط الأسس التي قامت عليها "رأسمالية القُرْب" التونسية التي نشأت في حضن الدولة وفي حماية القصر والعائلة الحاكمة، مما مكّنها من تسهيلات بنكية ونصيب وافر من الصفقات العمومية وسيطرة على أنشطة اقتصادية مربحة، وجعل مصالح جزء هام منها ومن نظام الحكم متداخلين.
نسجل بداية ما نجحت فيه فئات واسعة من الطبقة الوسطى من موظفي الدولة وصغار الكسبة وأصحاب المهن الحرة في دفع مخاض الثورة وتوسيع مجالاتها الجغرافية والطبقية، ثم في إذكاء التنافس السياسي والحيوية المدنية بعد 2011، وفي تشكيل ملامح حياة سياسية تعددية وديمقراطية تلعب فيها هذه الطبقة الوسطى، من سكان المدن خاصة، دوراً بارزاً في جعل الصّراع السّياسي ممكناً بالنظر إلى تطلعها لديمقراطية مستقرة ولما ينتج عنها من صراعات إيديولوجية وثقافية بين محافظين وتحررّيين، وسياسية بين ليبراليين ويساريين.
وقد ظل هذا التشكل هشاً، وسرعان ما تفكك لأسباب تنظيمية داخلية ولضعف الحاضنة المجتمعية الدّاعمة له واستعصاء بناء قواعد انتخابية وفية ومتماهية مع من يمثلها. وطغى الإحساس بأن أزمة استقرار الديمقراطية ليست عرضية بل تاريخية، لتعود مقولة "الاستثناء العربي" الجوهرانية للصعود مجدّداً: ''نحن شعب لا يستحق الحرية ولا يتملك ثقافة الديمقراطية'' وما نحتاجه هو حكم رجل قوي، مما دفع الآلاف إلى هجرة الحقل السياسي ولو بمرارة.
ما نقف عنده اليوم بالعودة إلى عدّة دراسات (4) هو التراجع الفعلي لهذه الطبقة حيث تراجع حجمها بنسبة 20 في المئة لتمر من 70 في المئة من مجمل السكان سنة 2010 إلى 50 في المئة سنة 2018. وتعرف الشريحة الدنيا من هذه الطبقة الوسطي انزلاقا نحو الأسفل أي نحو الفقر بنسبة 21 في المئة بعد أزمة كوفيد بسبب تعطلّ الأنشطة الاقتصادية وزيادة عدد المعطلين والتضخم.
يعدّ الأجر المتوسطي المرجعي المعادل ل900 د (300 يورو) هو مقياس تصنيف الفئات المنتمية للطبقة الوسطى. وتفيد أن مليون و820 ألف أسرة يصنفون اليوم ضمن هذه الخانة في حين تشير دراسة (5) منظمة "أليرت" أن الدّخل الشهري الأدنى للعيش الكريم لأسرة من أربعة أفراد تعيش في تونس العاصمة لا يقل عن 2400 د (800 يورو). وحين نضيف إلى معطى الدّخل الممتلكات والثروات وحتى الشهادة العلمية وطرق العيش والاستهلاك... نتبين أن موقع هذه الطبقة، على الرغم من غموض تخومها، حاسم في تصوّر مشهد سياسي مستقبلي يرتبط بقدرتها على تعبئة موارد مقاومة اجتماعية والدفاع عن مكاسبها عبر النقابات والمنظمات المهنية، وقدرتها على دعم قوى سياسية صاعدة وجديدة، تمثل قوة وسطية ممكنة.
كان ولاء البرجوازية المتنفذة للنظام التسلطي وعدم انخراطها في معركة الحريات حاسماً في تماسك النظام السياسي وشرطاً لنمو ثروات المجمّعات المالية والاقتصادية الكبرى في القطاع المصرفي والسياحي والصناعات الغذائية والمساحات التجارية الكبرى..
متاهة البحث عن الذات والفعل طالت أيضاً الفئات الهشة والضعيفة فكانت حيناً ضحية فقرها وأملها وحتى ضيق نظرها، فسايرت الإسلاميين أملاً في حكّام يخافون الله، وسايرت العلمانيين تمسكاً بتلابيب مكاسب الدولة الوطنية الرّاعية وإرثها البورقيبي، وخوفاً من زحف الجماعات السلفية والعنيفة. وانتهى جزء منها إلى فخّ المال السياسي حين وظفه حزب "قلب تونس" ومرّشحه للرئاسة نبيل القروي سنة 2019 سلاحاً لشراء أصوات ''الغلابة''، قبل أن يتحولوا بزخم لافت نحو ترشح قيس سعيّد في الدّور الثاني ثم نحو مشروعه المعلن منذ 25 تموز/يوليو (جويلية) 2021 لوضع حدّ لحكم الإسلاميين.
نرصد ضمن هذه الفئات شرائح اجتماعية هشة كالنساء العاملات في القطاع الفِلاحي والعمال الوقتيين في قطاع البناء والحراسة و''البرباشة'' ممن يقتاتون من بيع ما يجمعونه من قوارير البلاستيك في مصبات القمامة وشوارع المدن الكبرى، والمعطلين عن العمل وسكان أحزمة الفقر في المدن وفقراء الريف من فلاحين صغار ومعدمين..
كلّ هؤلاء اللامرئيين وفاقدي السند اليوم يشكّلون خزانات ألم وغضب قد لا تبقى محايدة وسلبية طويلاً. فتفكّك الرابطة الاجتماعية التي يضمنها العمل ومكملاته - المتمثلة في الحماية الاجتماعية التي تكفل للعامل مكانة ودوراً معترفاً بهما، والتي كانت قاعدة لتنامي رابطة المواطَنة وعامل إدماج وصعود اجتماعي - قد أنتجت واقعاً جديداً للعلاقات الاجتماعية وصعّدت إلى مسرح الحياة شرائح متعددة من المغتربين والمقصيين وفاقدي الحماية، وبالتالي صيغاً مغايرة للفعل وردّ الفعل أكثر ملاءمة لهذا التحوّل العالمي والذي طبع المجتمع التونسي اليوم بسبب تراجع دور الدّولة والمبادلات غير المتكافئة التي عززتها العولمة.
وهو تحوّل يهم رؤية اليسار الجديد لهذه الطبقات الشعبية التي تختلف عن مقولة الطبقة العاملة ("في ذاتها ولذاتها") ويبرز صعوبة بناء سردية نقد وانعتاق تجمع كلّ هذا الشّتات.
لقد عاصرنا في تونس منذ 2011 جدلية تشكّل وتفكّك المشهد السياسي لمرات عدة، وهي حركة لا يمكن تصنيفها داخل خانات الأفكار والمواقف، بل هي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بعالم الاقتصاد ومن ورائه بالمجتمع وتناقضاته الطبقية. وإذا كان لا بدّ من فهم مختلف لأزمة التحّول الديمقراطي فبالإمكان القول أنها لا تُختزل في ما هو بنيوي بالمعنى الأنثروبولوجي كما تنظّر الرؤية الاستشراقية الكولونيالية، وليست فقط نتاج التآمر الخارجي، بل هي تكمن في العمق في معضلتين: الأولى هي خضوع السياسي للاقتصادي، أي ارتباط منافع الأوليغارشية الريعيّة وبيروقراطية الدولة العميقة بعودة التسلطية والثورة المضادة، والثانية هي الضعف السياسي لقوى التغيير لربط التحرر الديمقراطي بالعدالة الاجتماعية .
والآن ماذا يستطيع قيس سعيّد؟
تناوُل خطاب الرئيس من جهة شغفه بالتجريد القانوني وأبويته المفرطة لا يكفي لتنزيل سياسته على أرض الواقع. فهو حين يعلن أن الرفاه ممكن بفضل الدستور الجديد لا يقدّم الطريق إلى ذلك، إذ يخاطب شعباً متخيلاً وينفي ويتجاهل المجتمع الحقيقي وما يشقه من تناقضات. منتقدوه ركزوا في خضم الجدل حول الدستور، وخاصة على الصلاحيات الواسعة التي منحها لنفسه، وعلى ضربه لمكسب الدولة المدنية، ثم طعنوا في شرعية الدستور الجديد تشكيكاً في نتائجه وتأكيداً على ضعف نسبة التأييد الشعبي.
بالإمكان القول إن مشروع قيس سعيّد، بقدر ما يستند إلى القوى الصلبة في الدولة فهو مستفيد من الأرض الرخوة التي يقف عليها منتقدوه، وهو توازن غير قابل للاستمرار لأن دولة الرئيس تريد أن تكون دولة رفاه دون رؤية ومال وتخطيط، وشعب الرئيس لن يكفيه خطاب أجوف لا يحفظ كرامة العيش اليومية، والمعارضة السياسية الضعيفة اليوم قد تتقاطع غداً مع انفجارات الغضب المحتملة.
اللامرئيين وفاقدي السند اليوم يشكّلون خزانات ألم وغضب قد لا تبقى محايدة وسلبية طويلاً. فتفكّك الرابطة الاجتماعية التي يضْمنها العمل ومكمِّلاته، المتمثلة في الحماية الاجتماعية التي تكفل للعامل مكانة ودوراً معترفاً بهما، والتي كانت قاعدة لتنامي رابطة المواطَنة وعامل إدماج وصعود اجتماعي - قد أنتجت واقعاً جديداً للعلاقات الاجتماعية، وبالتالي صيغاً مغايرة للفعل وردّ الفعل أكثر ملاءمة لهذا التحوّل العالمي
فهل سيحتاج مشروع الرئيس إلى السند الطبقي نفسه الذي قام عليه النظام السابق، أي الأوليغارشية المهيمنة التي تتمسك باقتصاد مغلق، أم سيضطر لمواجهتها؟ وكيف ستكون هكذا مواجهة؟ من جهة أخرى هل سيبقى ''شعب الرئيس'' صامتاً ومنتظراً؟
لقد انطلقنا منذ البداية من فرضية أسبقية الاجتماعي على القانوني في فهمنا لمسار التحولات السياسية المتعاقبة ولدحض فرضية الرئيس بأن دستوره بوابة للتغيير التاريخي. وفي هذا المسار نفسه ننطلق هنا من خريطة اللامساواة الاجتماعية والطبقية لعرض سيناريوهات ممكنة.
المجتمع التونسي اليوم مفتت ولا تقف كلّ طبقاته من مشروع دولة الرئيس الموقف نفسه، ولا تنخرط معه أو ضده من المنطلقات نفسها بل من منطلقات متباينة، مما يجعل سوق السياسة منظوراً إليه كصدى للصراع الاجتماعي لا معارك لطواحين الريّح في قادم الأيام حامية الوطيس. ولن يكفي التحليق الدستوري فوقها للسيطرة عليها.
وتجليات التفاوت الاجتماعي في تونس تتخذ أوجهاً جبائية من خلال التهرب والحيف الجبائي، ومجالية بين الجهات وداخل المدن بين الأحياء المترفة والأحياء الفقيرة. وهي تتعمق من خلال ضعف التغطية والحماية الاجتماعيتين لبعض الفئات وارتفاع معدلات التضخم التي تنزل بثقلها على الأكثر هشاشة.
الدستور بين مطرقة صندوق النقد وسندان الغليان الاجتماعي
دستور الرئيس لا يعدّ دستوراً لدولة اجتماعية بالمعنى الدقيق على الرغم مما تضمنه من فصول توحي بذلك. غير أن ما يهمنا هو ما يفرضه الواقع العنيد الذي يضع الحكومة بعد زوال زبد الخطاب الشعبوي أمام وصفة صندوق النقد الدولي الصارمة والدّاعية إلى سياسة تقشفية تحد من النفقات العامة، ورفع الدّعم عن المواد الأساسية والمحروقات وجرعة أخرى من خصخصة المؤسسات والخدمات العمومية، أي الوصفة التي تجعل دّولة الرئيس لا تمتلك إمكانات سياستها المعلنة.
كلمة السرّ لحقيقة التوجهات الاجتماعية نجدها في الفصل 69، التي تعطي الأولوية لقاعدة النجاعة الاقتصادية والتوازنات الكبرى: ''مقترحات القوانين والتنقيح لا تكون مقبولة إذا كان من شأنها الإخلال بالتوازنات المالية للدولة''. هكذا تقف الديمقراطية عند حدود الاقتصادي الذي يغادر مجال التداول وتحدده عقلانية حسابية كمية تجعله فوق السياسة.
وتقدَّم وصفة صندوق النقد كترياق لا مفر منه لإنقاذ هذه التوازنات المالية، وهو وضع يذكّرنا بماضٍ غير بعيد، حين لجأت تونس للصندوق سنة 1984 في وضع شبيه بالحالي على مستوى نسب التضخم، ثم بين 2013 و2020 في مرحلة تحوّل سياسي صعبة بعد الثورة، كانت فيها التجربة التونسية محلّ احتفاء دولي.
القطاع العمومي في تونس: ثلاثون تهدم ثلاثين..
22-03-2018
بالعودة إلى مرحلة الثمانينات من القرن العشرين التي خضعت فيها تونس إلى قوة الضغط الأيديولوجي النيوليبرالي لدخول العولمة الصاعدة، انخفض حينها عجز الميزانية التونسية بشكل فعّال وانخفض التضخم من أعلى مستوى له تقريباً (بنسبة 10 في المئة عام 1987) إلى ما يزيد قليلاً عن 3 في المئة عام 1993، مقابل ذلك انخفض متوسط الدخل بنسبة 11 في المئة بين عامي 1983 و1993 (6).
هل يعيد التاريخ نفسه؟ التنبؤ بما قد يجري غير ممكن لأن السيناريوات عدّة، نلخصها في ثلاث:
أولها نجاح الحاكم الجديد في استيعاب ضغوطات صندوق النقد وفي الضغط من جهته على أصحاب الثروات أي البرجوازية العليا لتحسين موارد الدّولة وعدم تحميل الضعفاء والشرائح الوسطى كامل وزر المرحلة، ومدخله في ذلك جباية عادلة واقتصاد شفاف يفك كماشة الريع الخانقة، وهو في مثل هذا السيناريو سيكون وفياً لناخبيه وقادراً على إنقاذ شعبيته.
مشروع قيس سعيّد، بقدر ما يستند إلى القوى الصلبة في الدولة فهو مستفيد من الأرض الرخوة التي يقف عليها منتقدوه، وهو توازن غير قابل للاستمرار لأن دولة الرئيس تريد أن تكون دولة رفاه دون رؤية ومال وتخطيط، وشعب الرئيس لن يكفيه خطاب أجوف لا يحفظ كرامة العيش اليومية، والمعارضة السياسية الضعيفة اليوم قد تتقاطع غداً مع انفجارات الغضب المحتملة.
وصفة صندوق النقد الدولي الصارمة والدّاعية إلى سياسة تقشفية تحد من النفقات العامة، ورفع الدّعم عن المواد الأساسية والمحروقات وجرعة أخرى من خصخصة المؤسسات والخدمات العمومية، هذه الوصفة تجعل دّولة الرئيس لا تمتلك إمكانات سياستها المعلنة.
ثانياً عجز دولة سعيّد على الرغم من دستورها الجديد عن المس بمناطق النفوذ المالي والدّولة العميقة، وقبول ضغوطات سياسة التقشف. منهج هذا الخيار هو مواصلة الانشغال بالتوازنات المالية باعتماد مسار قائم على إصلاح الأطر التشريعية والترتيبية والتنظيمية والمؤسساتية، وتقديم مزيد من الإعفاءات والامتيازات الجبائية والمالية قصد تحفيز المبادرة الفردية وتحسين مناخ الأعمال، والاكتفاء بترقب النتائج التي ستحصل في منطق السوق وسلوك الأفراد . تحميل الأجراء والفئات الهشة تبعات هذا الانتظار، ومواصلة مغالطتهم بخطاب فضفاض، قد يضطر نظام الحكم لتشديد القمع.
ثالثاً تُقْدم الدّولة على تطبيق إصلاحاتها دون نتائج فعلية على الاقتصاد والمجتمع، وتفشل في قمع المجتمع المنتفض مما يولّد عزلة الرئيس تدريجيا في الدّاخل والخارج ويوفر شروط تغيير موازين القوى سلمياً وهو ما يعني دخول البلاد مرحلة سياسية جديدة قد تعيدها إلى المسار الديمقراطي وتسقط رأس النظام. وفي مثل هذه الحالة تدخل تونس مرحلة ما بعد سعيّد، يتوقف نجاحها على توافق وطني لإدارة مرحلة انتقالية جديدة .
خلاصة القول، لن ينقل الدستور الجديد تونس آلياً إلى ضفة أخرى من التاريخ، ليس فقط بسبب الأزمة السياسية التي ولّدها الاستفتاء وحالة الانقسام التي صار عليها المجتمع السياسي، بل لأننا منذ البدء لا نسلّم للقانون المحض بقوة الفعل في الواقع الحي ونستند - وهو الأهم - إلى تواصل مؤشرات استئناف دورة الاحتجاج للمجتمع التحتي وللفئات الوسطى والطلب المتزايد على الدولة. وهي حالة عالمية لا تُستثنى منها تونس اليوم فيما هي تغالب الصعاب لصون ديمقراطيتها الناشئة.
1- قياسا بما يسميه المؤّرخ الإنجليزي هوبزباوم ''اختلاق التقاليد''
2- Alain Supiot- Grandeur et misère de l’État social - Leçon inaugurale au Collège de France prononcée le 29 novembre 2012
3- 1958 , Le Guépard Giuseppe Tomasi di Lampedusa . تحولت الرواية إلى فيلم سينمائي سنة 1963
4- الأرقام الورادة هنا استقيناها من ثلاث دراسات يمكن الرجوع إليها لمزيد من التفاصيل :
-Les inégalités en Tunisie , Rapport de FTDES (sous la direction de Azzam mahjoub ) 2022
-ITES ( Institut tunisien des études stratégiques ) enquête sur la classe moyenne 2018
قدمت نتائج هذه الدراسة خلال ندوة بتاريخ 18 كانون الاول/ ديسمبر 2018
5- "أليرت أنتارناسونال" ميزانية الكرامة في تونس https://bit.ly/3UpJ4Du
6- Fadil Aliriza /’impact et l’influence des institutions financière internationales sur le Moyen Orient et l’Afrique du nord, Friedrich-Ebert-Stiftung , 2020