المعارضة المصرية والحوار الوطني.. حدود المناورة والمقامرة

حلّ تفسير واحد في الصدارة شعبياً: هذا الحوار هدفه الإيحاء بأضواء مبهرة على الطريق دون نية فعلية عقلانية للاستنارة. الهدف هو مخاطبة الخارج لا إصلاح الداخل، خاصة في ظل اقتراب موعد انعقاد مؤتمر عالمي للمناخ في مصر في تشرين الثاني /نوفمبر 2022، والرغبة في التخفف من حجم كبير من الانتقادات الدولية لملف حقوق الانسان والحريات في البلاد.
2022-09-19

منى سليم

كاتبة وصحافية من مصر


شارك
علاء شاشيت - سوريا

"?Talk about what? Talk to whom"

بهذا الاختصار الدال، كانت ردود الشهيد الأديب الفلسطيني غسان كنفاني على محاوره من إذاعة أمريكية حول القبول بمبدأ الحوار مع العدو بهدف ما أسماه "إيجاد فرصة للعيش المشترك"، وهي الكلمات التي أجدها واضحة في ذهني الآن بينما أتابع كغيري مآل هذا الملف الأكثر إثارة للجدل الآن في الساحة السياسية المصرية، أي الدعوة لـ"حوار وطني".

فأربعة أشهر كاملة قد مرت على تلك المقولة التي أطلقها رئيس الجمهورية في أجواء إفطار رمضاني، وكانت فترة طويلة أكثر مما يبدو عليه مداها الزمني، وذلك في ضوء حجم الارتقاب الكئيب لملف العفو عن السجناء أولاً، وحجم التلاطم العنيف في السياسات الاقتصادية المرهقة لكاهل المواطن ثانياً، وأخيراً، حجم الارتباك والاصطدام معاً في إدارة قوى المعارضة لعلاقتها بالسلطة وفيما بينها في تلك الفترة.

فكيف يمكن تفسير نقطة البدء؟ وما الذي يحدد نقطة الانتهاء؟ وما هو الحد الفاصل الذي يميز ما بين معاني المناورة والمقامرة في ممارسات كل من السلطة والمعارضة ؟

السلطة.. لماذا الدعوة الآن؟

لم يقل "عبد الفتاح السيسي" ما ينتظره كل مصري من أجل صلاح الأحوال، لم يقدِّم -على سبيل المثال لا الحصر - نقداً يشي بنقد نهج السياسات الاقتصادية الحالية والتي انتهت بأن تصف مديرة صندوق النقد الدولي ذاته الوضع الاقتصادي المصري بـ "المتدهور"، وتقول إن هناك عدداً كبيراً من المواطنين معرضون لأوضاع معيشية صعبة.

لم يرجع السبب في ذلك التدهور لممارسات السلطة الحالية على مدار 7 سنوات وعلى رأسها الإنفاق بالاستدانة على مشروعات لم تلاقِ في أغلبها تأييداً شعبياً بل يتم اتهامها باستنزاف الموارد العامة، كالعاصمة الإدارية.. وهناك سواها من المشاريع التي لا يمكن بحال اعتبارها من أولويات بلد منهك كمصر. بل على العكس، استمر الرجل وعلى مدار الأربعة أشهر، في كل لقاءٍ يوجِّه فيه كلمة عامة، بإلقاء اللوم على الخروج الشعبي في "25 يناير 2011" باعتباره السبب الرئيسي في تراجع موقف مصر الائتماني بشكلٍ حاد، وأن كل ما تلاه وحتى اللحظة الراهنة هو محاولة لتدارك آثار الخطأ.

مقالات ذات صلة

لم يعلن وفق صلاحياته الإفراج عن عشرات الآلاف من المحكوم عليهم في قضايا سياسية أو يطرح تصوراً حول مشروع قانون "عفو عام"، وينحى في ذلك منحى تجارب عالمية رائدة كتلك التي شهدتها إيرلندا وإسبانيا وإيطاليا وجنوب إفريقيا وبلدان من أمريكا الوسطى والجنوبية، في سياسات العفو عمن سبق اتهامهم في قضايا استمرت الدولة في وصفها بالعنف والإرهاب، وكان ذلك وفق اتفاقيات لوقف هذه الموجات من المواجهات.

لم يقدِّم طرحاً واضحاً حول ضرورة مراجعة دور الجيش في الاقتصاد بعد أن أصبحت الانتقادات الموجهة ضده علنية ودولية تأتي على لسان منصات الإقراض قبل غيرها من الأجهزة الداخلية والهيئات. لم يطرح الحاجة لوقفة من أجل مناقشة وطنية حول القضايا السيادية الخطرة وعلى رأسها "سد النهضة" الذي أنشأته أثيوبيا فوق مجرى النيل ويهدد حق مصر في المياه.

لم يقل شيئاً من هذا لكنه قدم خطاباً (1) يعتمد روح الاحتمال والتلميح، فأعلن إلى جانب الدعوة للحوار الوطني عن عدة قرارات أخرى منها التعهد بإعلان خطة واضحة يتم الالتزام بها لخفض الدين العام كنسبة من الدخل القومي وكذا عجز الموازنة على مدار الأربع سنوات القادمة، إطلاق مبادرة دعم وتوطين الصناعات الوطنية للاعتماد على المنتج المحلي، طرح بعض الشركات التابعة للدولة والجيش للتداول على أسهمها في البورصة، إعادة تفعيل عمل لجنة العفو الرئاسي.

مرّت أربعة أشهر على المقولة التي أطلقها رئيس الجمهورية في أجواء إفطار رمضاني، وكانت فترة طويلة في ضوء حجم الارتقاب الكئيب لملف العفو عن السجناء أولاً، وحجم التلاطم العنيف في السياسات الاقتصادية المرهِقة لكاهل المواطن ثانياً، وأخيراً، حجم الارتباك والاصطدام معاً في إدارة قوى المعارضة لعلاقتها بالسلطة وفيما بينها في تلك الفترة.

لم يُرجِع الرئيس السبب في التدهور القائم الى ممارسات السلطة الحالية وعلى رأسها الإنفاق بالاستدانة على مشروعات لم تلاقِ في أغلبها تأييداً شعبياً وتستنفد الموارد العامة، كالعاصمة الإدارية. بل على العكس، استمر الرجل وعلى مدار الأربعة أشهر، بإلقاء اللوم على الخروج الشعبي في "25 يناير 2011" باعتباره السبب الرئيسي في تراجع موقف مصر الائتماني بشكلٍ حاد. 

كان المشهد اللافت هو اهتمامه بتوجيه الترحيب لعدد من قيادات أحزاب المعارضة التي حضرت اللقاء وتحديد اسم حمدين صباحي، المرشح الرئاسي السابق، وعلى هامش ذلك طالب وفد المعارضة بالإفراج عن السجناء السياسيين. وفي هذا السياق دون غيره، انطلق التفاعل حول ملف "الحوار الوطني".

ما أعقب ذلك لم يصبُّ إيجابياً في اتجاه السؤال الأصيل.. لماذا هذا الحوار الآن؟

فعلى الصعيد الداخلي، شهدت تلك الفترة سلسلة من قرارات الإيغال في النهج نفسه المتبع اقتصادياً. وتُفاوِض السلطة من أجل الحصول على قرضٍ جديدٍ بقيمة قد تصل الى 20 مليار دولار لمواجهة الارتفاع المتزايد في خدمة الديون المستحقة والتي بلغت قيمتها 145 مليار دولار في إعلان الحساب الختامي للموزانة العامة الأخيرة. وعليه، اتُخذت عدة إجراءات تتعلق بيع أصول عامة، وإطلاق ما يسمى بوثيقة "ملكية الدولة"، وتصفية جزء جديد من شركات الصناعات الاستراتيجية وعرض أخرى للبيع، وقبل كل ذلك وبعده الانهيار السريع الذي يلاقيه الجنيه المصري في مواجهة الدولار، بعد قرار البنك المركزي خفض قيمته لجذب السيولة والعملة الصعبة وسط إجراءات طرحها للحد من أثر الأزمات الاقتصادية العالمية والمحلية.

على الصعيد الخارجي، كان الاهتمام المبالغ به يتركز على التأكيد على استئناف العمل داخل مصر لانطلاق حوار وطني واسع وسط إجراءات لتشجيع الاستثمار الأجنبي، هذا بينما تواردت الأخبار من الصحف العالمية عن عقد صفقة شراء لطيارة رئاسية جديدة ونادرة بقيمة 240 مليون دولار، وأنباء أخرى عن مشاورات حول عقد صفقة شراء غواصات فرنسية بقيمة 5 مليار يورو... واللا-تقدم في أي من الملفات الحرجة كالمفاوضات حول إنشاء "سد النهضة" أو غيره من ملفات الأمن القومي.

هكذا حل تفسير واحد في محل الصدارة شعبياً: هذا الحوار هدفه الإيحاء بأضواء مبهرة على الطريق دون نية فعلية عقلانية للاستنارة. الهدف هو مخاطبة الخارج لا إصلاح الداخل، خاصة في ظل اقتراب موعد انعقاد مؤتمر عالمي للمناخ في مصر في تشرين الثاني /نوفمبر 2022، والرغبة في التخفف من حجم كبير من الانتقادات الدولية لملف حقوق الانسان والحريات في البلاد.

وفي حال صح هذا التفسير الذاهب باتجاه "المناورة"، فكيف تضمن السلطة حدود ذلك، وألا يلقي بها في اتجاه "مقامرة"، فتلاقي من جديد موجات الانتقاد الدولية، وتواجه داخلياً آثار ضج المواطن من حمل مزيد من الأعباء الاقتصادية؟

المعارضة .. إلى متى الاستمرار؟

قبل أربعة أشهر، كانت المعارضة المصرية، من داخل حدود الدولة على مستوى الجغرافيا والاعتراف بالشرعية، تعتصم بصلابة موقفها على مستوى المبدأ، ولكن عينها في اللحظة ذاتها على "قشة الغريق" للبحث عن مخرج حالي بما أنها لم تملك بعد السبيل لتغيير سلمي شامل.

وهو مخرج من المفترض به نظرياً ـ وفي ضوء تفاعلات السنوات السبع السابقة ـ أن يصب في اتجاه تحقيق الصالح العام لا المصالح الضيقة الشخصية المباشرة، عبر البحث عن إمكانات قبول تلك السلطة، اختياراً أو اضطراراً، جزئياً لا كلياً، باتباع نهج جديد بما يخص السياسات الاقتصادية يمكنه تخفيف عبء المعيشة اليومية وإنقاذ الاقتصاد الوطني، وعبر البحث عن سُبل إنهاء تلك المأساة المستمرة في ملاحقة أصحاب الرأي بتحرير من هم داخل المعتقلات، وإغلاق احتمالات الزج بآخرين، وكذلك عبر سلسلة من القوانين والممارسات تصب في اتجاه فتح المجال العام أمام مباشرة الحقوق السياسية والإعلامية كضمانة رئيسية ووحيدة للتعبير الصحيح عن مختلف الآراء وتفاعلها وتطويرها باتجاه تحقيق المصلحة العامة الشعبية.

تُفاوِض السلطة من أجل الحصول على قرضٍ جديدٍ بقيمة 20 مليار دولار لمواجهة الارتفاع المتزايد في خدمة الديون المستحقة والتي بلغت قيمتها 145 مليار دولار. اتُخذت عدة إجراءات تتعلق بيع أصول عامة، وإطلاق ما يسمى بوثيقة "ملكية الدولة"، وتصفية جزء جديد من شركات الصناعات الاستراتيجية وعرض أخرى للبيع، والانهيار السريع الذي يلاقيه الجنيه المصري في مواجهة الدولار. 

لكن كيف يمكن لمن يعتصم بأعالي جبل فكرته المعارِضة أن يبحث وهو هناك، بالأعلى، عن قشة هشة تحرّكها أمواج بحر السلطة هناك بالأسفل؟

ليس المقصود هنا إطلاق تعبيرات مجازية فضفاضة أو تصدير أحكامٍ، ولكن لعل السؤال "كيف؟" هو مختصر ما أسفرت عنه تفاعلات الأربعة أشهر الماضية.

فلم يستطع الجمع الذي يمثل المعارضة فى مصر حتى الآن تقديم إجابة مكتملة المنطق لتلك المعادلة الصعبة، أو خلق طرح يحقق الوفاق بين أجزاء تلك الصورة غير المتلائمة التي نجتهد في تقديم تشريح زمني وموضوعي لها وفق ما يلي:

1- الانطلاقة الأولى

فعلى مستوى الدعوة ذاتها، هناك في صفوف السياسة من التزم بصمت كامل أو شبه كامل، ونأى عن الصورة دون التورط في قول مباشر: نحاور أو لا نحاور. من بين هؤلاء المرشح الرئاسي السابق بصفته اليسارية الماركسية، الحقوقي "خالد علي"، الذي اكتفى بطرح المحدِّدات القانونية التي يمكن وفقاً لها التعامل بجدية مع ملف الإفراج عن السجناء، وهي الإفراج عن كل من مر عامان على حبسه احتياطياً ولم تتم إحالته لمحاكمة موضوعية، ولكل من صدرت ضده أحكام في قضايا لم تنته بأعمال عنف أفضت للقتل، ومن قضى أكثر من نصف المدة.

وهناك المجموعات الشبابية، جماعات الضغط السابقة التي قضت ملاحقة السلطة على تواجدها، فذهب الاتجاه العام للغالبية من هؤلاء جميعاً للتعبير ـ عبر صفحات على وسائل التواصل الاجتماعي ـ عن الاحتفاء الحذر.

وكان هناك أيضاً بعض الأقلام العاقلة التي سعت لصياغة أفكار متواترة، تباينت بين الترحيب الحذر والتحذير المشدد.

أما الكتلة الرئيسية التي يأتي دورها من باب "الفاعل" لا "المعلِّق"، فهي أحزاب الحركة المدنية، التي تضم 10 أحزاب تصنّف نفسها باعتبارها معارضة من الداخل، فاختارت مبدأ "القبول وفق شروط" أعلنت عنها في بيان شهير بتاريخ 8 أيار/مايو الفائت، وضع عدة بنود، جاء الإفراج عن المعتقلين باعتباره "مقدمة لا بد منها"، أما باقيها فيدور حول ضمان تشكيل جهة مستقلة تدير الحوار بين وجهتي نظر السلطة والمعارضة في القضايا الملحة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، بهدف الخروج برؤى قابلة للتنفيذ على المدى القصير (كـ"روشتة عاجلة") والطويل ("سياسات دائمة")، يتم إطلاع الشعب عليها أولاً وإشراك المؤسسات النيابية والمعنية بها ثانياً، وليس فقط رفعها كتوصيات لرئيس الجمهورية.

وعليه، لم يكن هناك من أعلن "لا" بصورة قاطعة مباشرِة من منطلق منهجي، وذلك في دلالة تعكس حجم التأذي المعتمِل داخل المشهد المصري، حيث المواطِن مطحون، والمعارضة محاصرة، وسلطة ذات سطوة كبرى امتدت على مدار السنوات فاستطاعت فرض كلمتها، وحين دعت إلى الحوار، اختار من لا زالوا يتمسكون بـ"حق الكلام" التفاوض الحذر. ثم وعلى مدار الأشهر وفى ظل التفاعلات، تفاوتت بين تلك المجموعات تقديرات الفعل، ودرجات رد الفعل في القضايا التي طرحتها المعارضة بنفسها كمقياس يُلزمها قبل غيرها.

2 - الكرة التي تتدحرج

على مستوى السجناء السياسيين أولاً، ووفق أشكال الرصد المتعددة (2)، فإن عدد من خرجوا بفضل التفاوض بين السلطة والمعارضة ويتم إعلان أسمائهم عبر آلية العفو الرئاسي، هو ما لا يزيد عن 250 اسماً، بينما يقول ممثلو السلطة ومن بينهم نقيب الصحافيين الحالي ومنسق الحوار الوطني، ضياء رشوان، أن العدد قد تجاوز 800 سجيناً سياسياً، في إشارة إلى مجمل من تم التفاوض حولهم إضافةً إلى من تم إخلاء سبيلهم بشكل اعتيادي من سراي النيابة العامة وبعض الدوائر القضائية.

وبالتأكيد، لا يٌقاس هذا السعي فقط على مستوى الكم، فهناك قياس يتعلق بالكيف، حيث أسماء تلاقي ما يشبه الحظر غير المعلن على قرار إطلاق سراحها. وقد تمّ تحرير بعض هؤلاء الاشخاص، ولا زالت الوعود مستمرة بما يخص البعض الآخر، ومن بينهم الشباب أحمد دومة وعلاء عبد الفتاح وزياد العليمي ومحمد الباقر ومحمد القصاص، وكذلك سعيٌ آخر يتعلق ب"عبد المنعم أبو الفتوح"، المرشح الرئاسي السابق الذي يعاني من حالة صحية سيئة وخطرة، والمسؤول البارز السابق "هشام جنينة" الذي انتقد مستويات الفساد في مصر بينما كان يترأس أعلى جهاز مختص بمكافحته.

الكتلة الرئيسية هي أحزاب "الحركة المدنية" التي تضم 10 أحزاب تصنّف نفسها كمعارضة من الداخل، واختارت مبدأ "القبول وفق شروط" أعلنت عنها في بيان بتاريخ 8 أيار/مايو الفائت، وضع عدة بنود، جاء الإفراج عن المعتقلين باعتباره "مقدمة لا بد منها"، أما باقيها فيدور حول ضمان تشكيل جهة مستقلة تدير الحوار بين السلطة والمعارضة في القضايا الملحة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً... 

شهد "حزب الكرامة" الناصري هزة كبيرة باستقالة رئيسه "أحمد الطنطاوي"، وهي الخطوة التي صاحبها اهتمام واسع من قبل الرأي العام السياسي بذلك، باعتباره الحزب الأكثر حضوراً في تمثيل المعارضة في التفاوض مع السلطة في تلك الجولة، واعتبار المستقيل على مدار سنوات هو المعارض الأشد حدة وانتقاداً للسلطة الحالية من داخل مصر. 

في تصريحات إعلامية متتالية، قالت قيادات في المعارضة المصرية أنهم تقدموا بأسماء الآلاف ممن لم يتورطوا في أعمال عنف، وهو ما رآه آخرون فخاً محكماً، حيث تحولت لجنة العفو الرئاسي والمفاوضين من المناداة بتطبيق قواعد حقوقية عامة إلى جهة تقييم وإصدار أحكام خاصة "عمن يستحق ومن لا يستحق" تجاه كل اسم يخرج للحرية، إلا إنها تواجه تساؤلات لا تخلو من الحدة عن حق باقي السجناء.

وعما إذا كانت أحزاب المعارضة ممثلة بـ "الحركة المدنية" ستكتفي بتحرير أسماء من ينتمون للتيار المدني وعشرات من آلاف من المجهولين ممن ساقتهم الظروف إلى السجون، أم ستذهب للإصرار العملي وليس فقط إلى المطالبة بباقي السجناء غير المدانين في أعمال عنف انتهت بحالات قتل، وذلك كحد أدنى، بالنظر لمدى سلامة إجراءات التحري والتقاضي في مصر، وأغلبهم بطبيعة الحال ينتمون لجماعة "الإخوان المسلمين" التي تصنفها الدولة المصرية منذ 7 سنوات كـ "منظمة إرهابية".

وبين هذا وذاك خرج تقرير حقوقي، ليس الأول من نوعه، يحصر تجديد حبس 13 ألف سجينٍ أمام دائرة قضائية واحدة في مصر على مدار الأشهر الستة الأخيرة وحدها دون باقي جهات التحقيق.

وأما على مستوى التصدي للسياسات الاقتصادية، فقد قابلته قوى المعارضة بانتقادات واضحة عبر البيانات والتصريحات لكن دون أن ينتج عن هذا قرار جماعي بتعليق المشاركة أو طرح اشتراطات على ضوئه..

أما على مستوى التمثيل المتوازن والإدارة المستقلة لحالة الحوار، فكأنها الهوة التي تتجه الكرة باتجاهها، فتحولت التفاصيل رويداً رويداً إلى مدخل للاختلاف الداخلي.

وعليه، شهد "حزب الكرامة" الناصري هزة كبيرة باستقالة رئيسه "أحمد الطنطاوي"، وهي الخطوة التي صاحبها اهتمام واسع من قبل الرأي العام السياسي بذلك، باعتباره الحزب الأكثر حضوراً في تمثيل المعارضة في التفاوض مع السلطة في تلك الجولة، واعتبار المستقيل على مدار سنوات هو المعارض الأشد حدة وانتقاداً للسلطة الحالية من داخل مصر، فأعلن سفره بهدف الدراسة لفترة وجيزة، وأنه قد فضّل ترك منصبه مختلِفاً ولكن محترِماً للحزب ومواقفه وبشكل خاص لمؤسسه، حمدين صباحي، الذي أكد هو الآخر المعنى ذاته على صفحته الإلكترونية.

في حوارٍ صحافي لاحق على قناة "بي بي سي" عربية، تأكدت صورة الاختلاف حول قراءة حجم ما أنجزته المعارضة في إدارة التفاوض مع السلطة وقدرة ذلك التفاوض على تحقيق شرط الجدية، ومن ثمّ جدوى الاستمرار في هذا الحوار. وقال الطنطاوي: "دائماً على استعداد لحوارٍ بين متكافئين، لا تابع ومتبوع".

وعلى الرغم من مساحات الاستحسان الواسعة لكلماته لدى قطاعات عدة، إلا أنه ووجه بانتقادات أخرى بعضها جاء من صفوف المعارضة نفسها، بل من داخل حزبه، لخروجٍ وصفوه بالمبكر وعدم الانتظار حتى لحظة القرار الجماعي للحركة المدنية حين تتم الدعوة رسمياً لبدء أولى جلسات الحوار. وهناك بالطبع من دافع عن موقفه بالقول إنه يرى أن الكرة قد تدحرجت ولم يعد من الممكن إيقافها أو أن البديل كان سيكون انشقاقاً أكبر بين صفوف المعارضة... وهو ما قد تكشف عنه الأيام.

من ناحية أخرى، وقبل مرور أقل من شهر على هذا المشهد، وفى تصعيد آخر قوي، خرج "حمدين صباحي" نفسه على رأس مؤتمر صحافي للحركة المدنية، وقال ممثلاً لموقفها: "هناك التفاف من جانب السلطة على ما تمّ الاتفاق عليه، ونحن اخترنا سياسة الحوار كبديل للانفجار، وإذا فشل هذا السعي الآن فنحن نُشْهِد الشعب أننا حاولنا ولكن السلطة هي وحدها من تتحمل عبء ذلك".

لم يستطع الجمع الذي يمثل المعارضة فى مصر حتى الآن تقديم إجابة مكتمِلة المنطق لتلك المعادلة الصعبة، أو خلق طرح يحقق الوفاق بين أجزاء تلك الصورة غير المتلائمة. 

لم تعلن الحركة انسحاباً أو تعليقاً ولكن اكتفت باللهجة الحادة لتعبر عما أسمته "الحرص على الاستمرار، ولكن في ظل ضوابط تحقق المصلحة الشعبية"، وشملت الكلمة إشارات مباشرة ومحددة من جديد للقضايا الثلاث، السياسات الاقتصادية والمعتقلين والمحاصصة في إدارة الحوار بين السلطة والمعارضة.

3 - التصويب الذي لم يبدأ

يستحق ما أعقب هذا المشهد العام الأخير التأمل والقلق. فعلى الرغم مما يبدو من ميل عام زاد من توحيد صفوف المعارضة ـ على اختلافها ـ باتجاه الغضب ورفض ما يدور، إلا أن تحركات جديدة قد بدأت، وقد تُحدِث تغييراً ما غير معلومة حدوده حتى الآن.

ففي ردود الفعل المباشرة على موقف المعارضة، هاجمت القنوات الإعلامية الموالية للسلطة المعارضة بشكلٍ جارف واتهمتها أنها بلا وزن ولا تمثّل إلا نفسها، وإدارة الحوار مستمرة بمشاركة غيرها من الأحزاب في مصر.

ومن ناحية أخرى، أعلنت السلطة ممثلة بـ "مجلس أمناء الحوار"، تشكيلاً جديداً في تسمية اللجان المقترحة داخل الحوار المنتظر والقائمين عليه، وحصلت المعارضة هذه المرة على نسبة معقولة من الأسماء المحسوبة على صفوفها، ولم تعلّق الحركة المدنية بشكل رسمي على ذلك حتى الآن.

ومن ناحيةٍ ثالثة أعلنت الجهات الرسمية إخلاء سبيل عشرات من السجناء السياسيين (73سجيناً) مع التبشير بدفعات أخرى في وقت قريب، وهو ما تمّ تلقّيه بدرجات استحسان تفاوت شكل التعبير عنها، ووصلت حد "شكر الرئيس" والمطالبة بالإفراج عن المزيد.

نعم، لم يُعِدْ المشهد الأخير الصورة للمربع صفر، لكنه بكل تأكيد يؤهلها إما للتقدم للأمام والقفز الى مربعات متتالية أو الخروج بها من المسار والسقوط المدوي، وذلك على حسب تفسير كل طرف لمعاني التقدم والسقوط.

لكنه على كل حال يعني بالتأكيد أن لحظة التصويب النهائي على الهدف أو تصويبه لم تتم بعد، ومن ثم يمكننا وقبيل الوصول للحظة المرتقبة، تسجيل بعض النقاط تحت عنوان: حتى الآن!

-حتى الآن، لم يبدأ الحوار بعد بما يعني أن هناك ثمة فرصة سانحة للفعل وتلقي رد الفعل بين السلطة والمعارضة.

-حتى الآن، لا زالت هناك كتلة متماسكة من المعارضة المصرية من الداخل هي "الحركة المدنية"، لم تصبها انقسامات كبرى بعد.

-حتى الآن، وعدا التواجد الشبابي غير الواسع للشباب داخل أحزاب المعارضة ـ لم تتم دعوة رموز شبابية ارتبطت وجوهها ب"ثورة يناير" للمشاركة والاستماع داخل اجتماعات الحركة المدنية.

تُلاقي أسماء ما يشبه الحظر على قرار إطلاق سراحها. هناك وعود مستمرة تخص الشباب أحمد دومة وعلاء عبد الفتاح وزياد العليمي ومحمد الباقر ومحمد القصاص، وكذلك سعيٌ يتعلق ب"عبد المنعم أبو الفتوح"، المرشح الرئاسي السابق الذي يعاني من حالة صحية خطرة، والمسؤول البارز السابق "هشام جنينة" الذي انتقد مستويات الفساد في مصر بينما كان يترأس أعلى جهاز مختص بمكافحته. 

-حتى الآن، لم تعقد الحركة مشاورات أوسع مع قطاعات أخرى وأصوات فكرية غير ممثلة في صفوفها، على الرغم من تعريفها لنفسها بكونها معارضة من داخل مصر تلتزم بالدستور الحالي.

-حتى الآن، لم تعلِن أن المحاصصة وحدها ليست ضمانة، بل على العكس قد تكون مدخلاً لتوريطها للمشاركة الشكلية بما لا يتفق مع مبدئها.

-حتى الآن، لم تطلب المعارضة من السلطة، وبشكل مباشر من رئيس الجمهورية، أي تعهدات علنية واضحة قبيل دخول الحوار، تتعلق أولاً بالاعتراف بفداحة نتائج النهج الاقتصادي والانطلاق من حاجته للمراجعة والاستماع للآراء المختلفة حول ذلك، وثانياً الاتفاق حول ضرورة انتهاء مجريات الحوار لتشريع قانون ينظّم إجراءات العفو العام عن السجناء السياسيين بما يسمح بإغلاق حقيقي وموضوعي لهذا الملف، كدليل دامغ وحيد على صدق السلطة في البدء بمرحلة جديدة تحت العنوان الشهير الذي تروج له: "الجمهورية الجديدة".

-حتى الآن لا زالت الصورة غير ثابتة، تحتاج تحركات عدة وباتجاهات واضحة من جانب كل من السلطة والمعارضة لحسم المسافة بين حدود المناورة والمقامرة. 

______________________

1-  https://www.mobtada.com/egypt/1166441/     
2 - ومن بينها ما إجتهدنا في تقديمه عبر صفحات "السفير العربي": الوارد والخارج.. قراءة في قوائم الإفراج عن السجناء السياسيين في مصر وكذلك يسعى وتصعد باتجاه.. "هنالك" 

مقالات من مصر

ثمانون: من يقوى على ذلك؟

إليكم الدكتورة ليلى سويف، عالمة الرياضيات المصرية بالأصالة، البريطانية بالولادة، على صقيع رصيف وزارة الخارجية في لندن، تُعدُّ بالطباشير – ككل المساجين - أيام اضرابها.

في مصر يمكنك فقط الاختيار بين سجن صغير وآخر أكبر

إيمان عوف 2024-12-09

تحوّل القانون رقم (73) لسنة 2021، الذي يتيح فصل الموظفين المتعاطين للمخدرات، إلى أداة لملاحقة العمال والنشطاء النقابيين العماليين، والنشطاء السياسيين والصحافيين. وعلى الرغم من اعتراض النقابات والجهات الحقوقية على...

للكاتب نفسه

عيش.. حرية.. إلغاء الاتفاقية!

منى سليم 2024-03-29

هل يستقيم ألا تغيِّر الحرب على غزة موازين الأرض؟ أو لا يصير الى صياغة برنامج سياسي مصري ينطلق من إلغاء هذه معاهدة كامب ديفيد، وأن يكون ذلك ركيزة للتغيير الجذري...