في منشور مؤقت عبر تطبيق "انستغرام"، ودّعت الأم المطلقة هدى محمد (اسم مستعار) ابنها الوحيد الذي بلغ لتوه عمر 9 سنوات. نشرت صورتهما معاً في آخر ساعات قبل سفره إلى الخارج ليصبح تحت حضانة أبيه، وذلك بعد بلوغه السن التي حددتها القوانين المستمدة من أحكام الشريعة والمطبقة في محاكم غزة الدينية، ولانتهاء الحق المستفاد بين "الوصاية" و"الحضانة" بشروط محددة لكلٍ من الأم والطفل، دوناً عن "الولاية" التي تمنح حصراً للأب.
من منطلق الثقافة القائمة فيما يتعلق بالقوانين - وبموجب الأمر 303 لقانون العائلة الفلسطيني لسنة 1954، والقانون العثماني المستمد من مذهب أبي حنيفة النعمان لعام 1917 - تضع تلك القوانين المرأة كخادمة، ودورها لا يطال التربية. فحضانة الأم لأبنائها مرتبطة باستغناء الصغير عن خدمة النساء، فيما تفقد الأم المطلقة حقها بالحضانة عند ما حددته القوانين بسن 7 سنوات للطفل و9 سنوات للطفلة.
انتهاكات مركبة
"أنا أم، ومنذ ثمانية أشهر لم أتمكن من رؤية أطفالي الذين تعلقت روحي بهم" تقول المواطنة الأربعينية سعاد، وتضيف: "على الرغم من الكثير من المشاكل مع طليقي وتعرضي للظلم والإهانة خلال فترة الزواج، أنجبت ابنتيّ وولديّ. وحينما فاض الكيل بالظلم، رفض شريكي السابق استمراري في حياته، وبعدما تركتُ بيت الزوجية بلا رجعة وقررتُ الانفصال، ساومني على أن أتنازل عن كامل حقوقي بعد الطلاق، بما في ذلك حضانة أطفالي، مقابل حصولي على الطلاق".
وضعت المادة 4 من قانون الطفل الفلسطيني رقم (7) لسنة 2004 مصلحة الطفل الفضلى كأولوية في حالة انفصال الوالدين، حيث تضمنت وجوب مراعاة المصلحة الفضلى للطفل المنفصل عن والديه أو أحدهما، وإعطائه الحق في الاحتفاظ بعلاقات شخصية واتصالات مباشرة مع كلا والديه وبصورة منتظمة.
جرائم قتل النساء في فلسطين وتباطؤ القانون
20-07-2020
إلا أن المدى الواسع للصلاحيات الممنوحة للقضاة، بالإضافة لإجراءات التقاضي طويلة الأمد، يعرقلان ويؤخران الوصول للعدالة المنصفة عبر المحاكم الدينية التي يحركها قضاة قد يميل قلب أحدهم لأحد الأطراف في إصدار الأحكام في منازعات الزواج، وفق المحامية فايقة مدوخ، التي قالت إن القانون الفلسطيني يمنح الطرفين حق تقديم إثباتات ودلائل لإقناع القاضي بسقوط حق الحضانة عن أحدهما والتحفظ على الأولاد.
في وقت لاحق تمكنت سُعاد من الحصول على قرار قضائي بحضانة ابنتها بالقوة الإجبارية، لعدم بلوغها السن القانونية، إلا أنها لم تتمكن بعد من الحصول على حق حضانة الأولاد، أو استضافتهم بالحد الأدنى، نتيجة لما حددته المادة (391) من قانون الأحوال الشخصية المطبق في القطاع: "واجهتُ صعوبات كبيرة في المحاكم وطالت مدة الانتظار كثيراً"، تقول بحسرة.
يتعامل بعض الرجال مع الحضانة كنوع من الانتقام من الزوجة التي تطلب الطلاق، وهذا إلى جانب استغلال الأولاد. قد يستخدمهم الأب كأداة ابتزاز في النزاع الزوجي، لإجبار المرأة على التنازل عن حقوقها المادية والمعنوية من أجل الحصول على الطلاق. وفي حال ثبوت أن البيئة غير آمنة لتربية طفل انتهت سن حضانته للأم كما تحددها القوانين، فإن الإجراء القضائي المتخذ في هذه الحالة، هو "نقل رعاية" الأطفال إلى الأم، وليس نقل الحضانة لها لأن حضانتها انتهت.
محاكم دينية
في الشريعة الإسلامية، لم يُحدد القرآن الكريم سن الحضانة للأطفال، كما أن الادّعاء الذي تستند إليه التشريعات في بنود القوانين ذات العلاقة ويحدد أنه يكون عند سن التمييز (7 سنوات)، هو اجتهاد فقهاء، وليس تأصيلاً شرعياً. وهذا يتسبب في التشدد في تلك المعوقات وعدم التعامل معها بشكل تفصيلي وواضح ويسهل فهمه، وهو، إلى جانب الغموض في القانون، ووجود سلطة تقديرية للقاضي دون وضوح في أين تبدأ وأين تنتهي، يعزز من الموقف السلبي تجاه المرأة، وبالتالي ينتزع منها أطفالها في حال الخلاف الأسري والطلاق.
وضعت المادة 4 من قانون الطفل الفلسطيني رقم (7) لسنة 2004 مصلحة الطفل الفضلى كأولوية في حالة انفصال الوالدين، حيث تضمنت وجوب مراعاة مصلحته وإعطائه الحق في الاحتفاظ بعلاقات شخصية واتصالات مباشرة مع كلا والديه وبصورة منتظمة. إلا أن المدى الواسع للصلاحيات الممنوحة للقضاة، وإجراءات التقاضي طويلة الأمد يعرقلان ويؤخران الوصول للعدالة.
المرجعية الدينية للقانون الفلسطيني واحدة، باعتبارها مرجعية إسلامية. ولكن نتيجة لتعدد المصادر الفقهية التي تستمد منها المواد القانونية في كل مسألة قضائية، والتي تستوحي أحكامها من أكثر من مصدر، وبالتالي أكثر من مذهب فقهي، تسبب تضارباً في مواد القوانين ذات العلاقة. السلطة التقديرية للقضاة غير محددة المعالم، يفترض بها أن تعمل على سد الفجوات الناتجة عن التضارب في القوانين والتي نشأت بسبب الغموض والتعدد في تفسير النصوص القانونية.
عندما طردت "حماس" الشياطين من غزّة
14-04-2016
يقر قانون الطفل الفلسطيني حق الطفل المنفصل عن والديه أو أحدهما في تلقي الرعاية الأسرية حتى سن 18 عاماً. بيد أنه يجري الاستناد للحكم في الدعاوى القضائية على ما جاء في قانون العائلة الذي حدد سن الحضانة باستغناء الطفل عن خدمة النساء، وكذلك العمل بقانون الأحوال الشخصية لسنة 1976، فيما يتعلق بدعاوى الأم المطلقة التي لم تحبس نفسها عن الزواج، لمنعها من استمرار حضانتها على الأطفال لحين بلوغهم، دون تحديد سن البلوغ. ولكن بالاستناد لتعريف سن البلوغ كما ورد في قانون الأحوال الشخصية، نصت المادة 495 على أن "بلوغ الغلام بالاحتلام والإنزال والإحبال وبلوغ البنت بالحيض والحبل والاحتلام فإن لم تظهر هذه العلامات يحكم ببلوغهما إذا بلغا من السن خمسة عشرة سنة".
وهم العدالة البطيئة
لا يوجد قانون يمنح الأم والطفل حقهما المتبادل بالحضانة، وإذا ما تمكنت الأم المطلقة من الحصول على ذلك فإنه يتم بعد التوصل لاتفاقية إرشاد أسري تنظمها وحدات مراكز مجتمعية غير حكومية ما بين الأم والأب، بعد تسوية مالية بشأن النفقة على الأولاد. وبعد توقيع الاتفاق، يُصادق عليه من رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي في غزة، ولا يجوز إلغاء الاتفاقية إلّا بالآلية نفسها.
يتعامل بعض الرجال مع الحضانة كنوع من الانتقام من الزوجة التي تطلب الطلاق، وهذا إلى جانب استغلال الأولاد. قد يستخدمهم الأب كأداة ابتزاز في النزاع الزوجي لإجبار المرأة على التنازل عن حقوقها المادية والمعنوية من أجل الحصول على الطلاق
إلى جانب انتهاكات الاحتلال الإسرائيلي بحق المرأة الفلسطينية، تشهد البيئة القانونية التي تتعلق بالمرأة حاجة ماسّة للتقويم والتحسين. بعض القوانين من زمن العثمانيين لا زالت تطبق في غزة. والقوى الاجتماعية في المدينة، على الرغم من مسيرتها الطويلة في النضال ضد الاحتلال، عاجزة عن التفاعل مع المؤسسة التشريعية والقضائية لتطوير اللوائح القانونية وفقاً لمقتضيات الحقوق. ولذلك يستمر القصور في القوانين والتعميمات المعمول بها في مؤسسات المجتمع، وتنتج الأضرار وتضيع الحقوق نتيجة الفجوات التمييزية بحق النساء والأطفال.
أداة القياس الأهم في هذه القضية هي ملاءمة القواعد الإجرائية، ومدى كفاءة القضاة، كما يقول الباحث القانوني محمد عودة، حيث التطبيق الحَرفي لبنود ومواد قانون العائلة الفلسطيني، دون الاستناد إلى روح القانون يؤدي في كثير من الحالات إلى إطالة أمد التقاضي، وتأخير وصول الحقوق إلى أصحابها، أو ما يُطلق عليه بالأوساط القانونية "العدالة البطيئة"، على حساب استمرار ضياع الحق.
آلية التقاضي، أو وسيلة الحصول على الحق الموضوعي، تمر بعدة خطوات تستغرق وقتاً يطول، بدءاً من تقديم دعوى قضائية وإثبات وقائعها، وتبليغ الخصم، والادعاء، والرد عليه ودفع الرسم القضائي. وهذه المسألة - منذ التوجه للقضاء بغية الحصول على الحق بموجب حكم قضائي -بحاجة إلى قانون وإجراءات قضائية، كما يُبرز تطبيق تلك الخطوات الخلل في الإجراءات وعدم ملاءمة القواعد للظروف بالنسبة لقضية تترك وراءها ندوباً حادة، ومعاناة نفسية للأم، إلى جانب الضرر الحاصل في مصلحة الطفل الفضلى في هذه الحالة.
جائحة ثقيلة على النساء والأطفال
في 2020، نتيجة لجائحة كورونا وفرض الإجراءات الوقائية والإغلاق لفترات مختلفة، انخفضت معاملات قضايا الطلاق إلى ما نسبته 15.6 في المئة من مجمل عقود الزواج في ذلك العام، وهي كانت نحو 17 في المئة في العامين السابقين، وذلك ما أثار انقساماً في الرأي العام المحلي في غزة. حيث النظرة السلبية المسبقة تجاه فكرة الطلاق باعتباره عيباً "لا نريده أن يلحق بنسائنا"، دون الالتفات إلى أن تلك النسب ليست إلا حقوقاً مسلوبة ومعاملات عالقة، وعنف متواصل بحق أطفال ونساء. في العام التالي، بعد إلغاء العمل بالإجراءات الوقائية ضد وباء كورونا، ارتفعت نسبة الطلاق إلى 23.6 في المئة، بزيادة نحو ألف حالة طلاق.
أحياناً تضطر الأم لرفض الاحتفاظ بالأطفال لأنها فقيرة وغير قادرة على الإنفاق، بينما يتعنت الأب في الإنفاق. وبحسب شهادات موثقة عن حاضنات لأطفالهنّ، فهناك آباء يمضون شهوراً دون أن ينفقوا على أبنائهم، ويقاتلون في الوقت نفسه للتدخل في حياتهم، والتحكم في خيارات البنت على وجه الخصوص.
تسببت جائحة كورونا بآلام نفسية لكثير من الأمهات المطلقات اللاتي حُرمن من مشاهدة أبنائهنّ، بسبب إغلاق مراكز المشاهدة لفترة طويلة خلال فترة الجائحة دون توافر حلول بديلة والتي كان من بينها مراكز مجتمعية. ويعني ذلك أن الأم المطلقة ترى أبناءها ليس في منزلها، وإنما في "مركز مشاهدة"، ليس بإمكانها أن تصطحب ولداً أو بنتاً لشراء ثياب أو لعبة أو آيس كريم. وحتى وقت قريب قبل الجائحة، كانت مراكز الشرطة في محافظات وأحياء القطاع تعتبر مراكزاً للمشاهدة، وذلك ما قد يترك آثاراً نفسية سلبية على الأطفال.
نضالات مستمرة
حتى عام 2009، كان حق الأم الأرملة بحضانة أولادها، لا يتمتع بسند قانوني، وحصلت الأم الأرملة فقط على حضانة أطفالها دون التقيد بسنّ محددة بعد حملة شاركت فيها أمهات أرامل ومطلّقات وعديد من المؤسسات والشخصيات الحقوقية في غزة. وقد لاقت الحملة تجاوباً جزئياً في المجلس التشريعي بغزة، عندما تم إقرار الحضانة للأم الأرملة، بشرط أن تحبس نفسها عن الزواج، أما للأم المطلقة، فقد رفضت كتلة "التغيير والإصلاح" إقرار ذلك الحق لها.
في كانون الأول/ ديسمبر 2019، وبعد سنوات من العمل لتحسين بيئة الأطفال والنساء القانونية والحقوقية، تقدم "مركز الأبحاث والاستشارات القانونية والحماية للمرأة في غزة"، بمقترح أحرز موافقة مجلس القضاء الأعلى، وذلك عقب حملة مدفوعة بحشد المطالبات، إلى جانب عمل المركز ميدانياً في حل المنازعات الزوجية بحسب المصلحة الفضلى للطفل، وتقديم مسارات مكرّسة لدعم ضحايا العنف الأسري من الأطفال.
يُرافق ارتفاع نسبة البطالة المُطرد الزيادة في نسبة الطلاق، واللتان معاً تفسران بعضاً من ظاهرة تسرب الأطفال من البيوت وانتشار تسول الأطفال واستعبادهم في شوارع غزة في السنوات الأخيرة.
يطرح المقترح القانوني الذي أعده المركز خيارين اثنين، وهما: أن يُمنح حق حضانة الطفل حتى سن 18 عاماً للأم أو الأب عند انتهاء الزواج بالطلاق، أو أن تمتد الحضانة للأولاد والبنات حتى 15 سنة، سواء كانت الحاضنة الأم أم الأب، ثم يتم تخيير المحضون/ة مع من يرغب/ترغب بالعيش من أحد والديه/ا، كما هو معمول بالقانون الأردني.
الناشطة النسوية زينب الغنيمي، تقول إن ما تم الاحتفاء به في وقت سابق من استصدار موافقة القضاء الشرعي على مقترح ينص على العمل بالقرارات القضائية في هذا الصدد وفقاً لبنود القانون الأردني في الشأن، لم يجد الصدى المناسب في المجلس التشريعي في غزة.
وبالنظر إلى مصالح النساء والأطفال، فمن الأجدر العمل على المقاربة بين أحكام الشريعة وبين القوانين، وهذا ما تطالب فيه المؤسسات الحقوقية والنسوية في غزة. ولكن القوانين القاصرة ليست وحدها من يعيق تحقيق الأمن الشامل لأطفال غزة ونسائها. أحياناً تضطر الأم لرفض الاحتفاظ بالأطفال لأنها فقيرة وغير قادرة على الإنفاق، بينما يتعنت الأب في الإنفاق.
وبحسب شهادات موثقة عن حاضنات لأطفالهنّ، فهناك آباء يمضون شهوراً دون أن ينفقوا على أبنائهم، ويقاتلون في الوقت نفسه للتدخل في حياتهم، والتحكم في خيارات البنت على وجه الخصوص.
في الظل، يجري الاعتماد على عمل "لجان الإصلاح" التابعة لحركة حماس التي تعمل وفق منهج إسلامي - عشائري في إدارتها للصراعات في العائلات بما فيها دعاوى الطلاق والتفريق والنفقة وحضانة الأولاد. وأخذ عملها منحنى تصاعدياً منذ تأسيسها في عام 1992 وحتى تولّي حماس الحكم في القطاع عام 2007، وصولاً إلى الاعتماد شبه الكلي على عملها في الوقت الراهن.
تعمل الثلاثينية هُدى في صالون تجميل نسائي في مدينة غزة، ولكنها كغيرها من نساء غزة العاملات لإعالة أنفسهنّ وأطفالهنّ، يقعن في فخ الدعاوى القضائية التي جرى التقدم بها في السابق بحق مطلقات حاضنات لأطفالهنّ، لإسقاط استمرار حضانتهنّ بزعم إهمال الأطفال وعدم القدرة على رعايتهم بسبب الانشغال بالعمل.
وفي الوقت الذي تُعاني فيه 20 في المئة من الأسر التي ترأسها نساء في غزة1 من الفقر المدقع، وفقًا لإحصاءات الجهاز المركزي للإحصاء، يقدر المشرعون من القضاة مبلغ 20 – 25 دينار أردني كنفقة شهرية للطفل المحضون. وفي حين تصل نسبة الفقر بين الإناث في قطاع غزة إلى أربعة أضعاف مثيلتها في الضفة الغربية، يبلغ معدّل البطالة بين النساء المشاركات في القوى العاملة في غزة 51 في المئة في العام 2018، و54 في المئة في العام 2021.
ربع الأسر في غزة تعيلها نساء
21-06-2020
الأوضاع السياسية والاقتصادية الصعبة التي يتسبب بها الحصار، جعلت حساب النساء في غزة مكشوفاً لقسوة الانتهاكات. تضيع الحقوق وتصل الخطورة عند فئات كبيرة ولكنها مهمشة، من الأطفال والنساء، إلى مستوياتها العليا. في مؤشرات القياس المنشورة، يُرافق ارتفاع نسبة البطالة المُطرد، الزيادة في نسبة الطلاق، واللتان معاً تفسران بعضاً من ظاهرة تسرب الأطفال من البيوت وانتشار تسول الأطفال واستعبادهم في شوارع غزة في السنوات الأخيرة.
المفارقة، أن الطلاق كان حلاً أمثل بالنسبة للأسر التي أطرافها في حالة نزاع وصراع دائم. ذلك أنه من الأفضل للطفل العيش مع أحد الطرفين في سلام وأمان، على أن يحتفظ بعلاقة ودية مع الطرف الآخر، لتجنيب الأطفال الانعكاسات السلبية على نفوسهم وسلوكهم، بسبب عيشهم تحت تهديد العنف من شخصيات رئيسية في حياتهم نتيجة الصراع بين الأبوين.
آلية التقاضي، أو وسيلة الحصول على الحق الموضوعي، تمر بعدة خطوات تستغرق وقتاً يطول، بدءاً من تقديم دعوى قضائية وإثبات وقائعها، وتبليغ الخصم، والادعاء، والرد عليه ودفع الرسم القضائي. وهذه المسألة - منذ التوجه للقضاء بغية الحصول على الحق بموجب حكم قضائي -بحاجة إلى قانون وإجراءات قضائية، كما يُبرز تطبيق تلك الخطوات الخلل في الإجراءات.
تسببت جائحة كورونا بحرمان الأمهات المطلّقات من مشاهدة أبنائهنّ، بسبب إغلاق "مراكز المشاهدة" لفترة طويلة دون توافر حلول بديلة. ويعني ذلك أن الأم المطلقة ترى أبناءها ليس في منزلها، وإنما في "مركز مشاهدة"، وليس بإمكانها أن تصطحب ولداً أو بنتاً لشراء ثياب أو لعبة أو آيس كريم. والى ما قبل الجائحة، كانت مراكز الشرطة في القطاع تعتبر مراكز للمشاهدة.
تُورد بيانات "مركز الأبحاث والاستشارات القانونية" أن عدداً كبيراً من الآباء عمل خلال ممارسة حقه بمشاهدة أطفاله قبل انتهاء حضانة الأم، على تعبئة الأولاد ضد أمهم، وتشويه صورتها وشيطنتها في نظر الأطفال. وفي صور أخرى، وصم الأم التي لم تحبس نفسها عن الزواج، بالتخلي عن الأطفال بعد حرمانها منهم، والتسبب بتصدعات نفسية شديدة لدى الأطفال.
في العديد من حالات انتهاك حقوق الأطفال، بعد انتقال حضانة الأولاد للأب بموجب القوانين المطبقة، أو خلال تحفّظ الأب على الأطفال بشكل غير قانوني، كانت تلك الانتهاكات مفتوحة على احتمالات كارثية: أب مدمن على المخدرات أو متحرش، أو أم غير سوية ومنتكسة فطرتها يؤديان إلى أن تنقل الحضانة للجدة من الأب، وإذا تعذر ذلك فللجدة من الأم... بينما هناك أطفالٌ تعرضوا للتحرش الجنسي من البيئة المحيطة والأقارب.
لربما من المفيد الإشارة إلى أن أسباب الطلاق المسجّلة لدى المحاكم الشرعية في غزة غير منشورة ويمكن الحصول عليها عند الطلب، وأنها مصنفة في عدد محدد من الأسباب (عدم الإنفاق، الهجر والتعليق، الغيبة والضرر، بيت الطاعة، الشقاق والنزاع)، إلا أن السبب الرئيسي في وقوع الطلاق، بحسب دراسة منشورة حديثاً هو الشقاق والنزاع بين الزوجين، وكانت نسبته للعامين 2017 و2018 على التوالي 76.2 في المئة و60.1 في المئة من إجمالي حالات الطلاق.
إحصاءات جهاز الإحصاء الفلسطيني بشأن مؤشرات العنف تبيّن أن مستويات العنف مرتفعة في قطاع غزة بالمقارنة مع باقي المناطق الفلسطينية، إذ تبلغ نسبة العنف الاجتماعي في القطاع نحو 41 في المئة من مجمل أحداث العنف الواقعة فيه مقابل 20 في المئة في الضفة الغربية. وفيما يتعلق بالنساء اللواتي تعرضن للعنف من الزوج، بلغت نسبة العنف النفسي 76 في المئة من إجمالي الممارسات العنيفة، ونسبة العنف الجسدي 34 في المئة، أمّا العنف الجنسي فقد بلغت نسبته 14 في المئة.
حصلت الأم الأرملة بعد 2009 على حضانة أطفالها دون التقيد بسنّ محددة، بعد حملة شاركت فيها أمهات أرامل ومطلّقات وعديد من المؤسسات والشخصيات الحقوقية في غزة. وقد لاقت الحملة تجاوباً جزئياً في المجلس التشريعي بغزة، عندما تم إقرار الحضانة للأم الأرملة، بشرط أن تحبس نفسها عن الزواج، أما الأم المطلقة، فقد رفضت كتلة "التغيير والإصلاح" إقرار ذلك الحق لها.
هكذا بدت تفاعلات صناعة القهر المجتمعي، وهو بديل إدارة استخدام وتفشي العنف التاريخي للاحتلال الإسرائيلي والاضطهاد، تحت حصار اقتصادي مطبق. صراع على تفسير القوانين والتعميمات الدقيقة بين ما ينوب ضحايا العنف النفسي والصدمات من النساء والأطفال المنفصلين من جهة، ولجنة التشريع والقوانين في "كتلة التغيير والإصلاح" بالمجلس التشريعي من جهة أخرى، وهي المخولة بسن القوانين بحكم الأمر الواقع، ولا سيما أنها تتبع الجهة المالكة لقوة إنفاذ القوانين عبر الأذرع الحكومية والأجهزة الحركية المختلفة في القطاع.
حزيران/يونيو الماضي، أتمّ دخول غزة في نفق الحصار الإسرائيلي والانقسام الفلسطيني عامه الخامس عشر، ونشوء سلطتين سياسيتين وتنفيذيتين على إثر الصراع بينهما، وازدادت هوة ازدواجية القوانين اتساعاً بين ما يتم تطبيقه في الضفة الغربية أو في قطاع غزة، وهي ازدواجية تعكس أبرز معالم القصور في معايير العدالة في فلسطين المحتلة.
عشيرة غزة
في الظل، يجري الاعتماد على عمل "لجان الإصلاح" التابعة لحركة حماس التي تعمل وفق منهج إسلامي –عشائري في إدارتها للصراعات بين العائلات. وتتخذ هذه اللجان الطابع الشعبي لحل المشكلات والمنازعات بين الأفراد، بما فيها دعاوى الطلاق والتفريق والنفقة وحضانة الأولاد، وأخذ عملها منحنى تصاعدياً منذ تأسيسها في عام 1992 وحتى تولّي حماس الحكم في القطاع عام 2007، وصولاً إلى الاعتماد شبه الكلي على عملها في الوقت الراهن.
بعد ثلاثة عقود من تأثير عملها المتنامي، يتضح أن سلبيات دور تلك اللجان على صعيد الحقوق أكبر من إيجابياتها، كونها تستطيع النفاذ للفئات المهمشة من الأطفال والنساء والفقراء، وتستطيع التأثير كسلطة بديلة عن السلطة الرسمية المنشغلة بالاقتصاد والسياسة.
تأثرت تلك المكونات بفكر الإخوان المسلمين وعملت بمنهاج تلك الجماعة، حيث لا تواجه ظاهرة العنف القائم على أساس النوع الاجتماعي ضمن مقاربة متكاملة مبنية على أسس حقوق الإنسان، بل توظّف قدرتها العُصابية على التأثير باتجاه تدعيم قواعد السمع والطاعة الدينية، والالتزام العشائري بمناصرة الرجل بصفته صاحب الحق الحصري بتمثيل المرأة والطفل على حد سواء أمام المجتمع، ولا تشجع ثقافة ذات حساسية نحو منظومة الحقوق الجندرية والعلاقات الأسرية الخالية من العنف.
• "ورود في تربة مالحة" عنوان مسلسل دراما اجتماعي سوري عُرض عام 2002، وقدّم قصص فتيات صديقات وما يواجهن من مشاكل في مجتمعنا.