في طنجة، للموتى إطلالة أفضل من الأحياء. فحالما تتجوّل خارج الضجيج والزحام، وتفتح لك المدينة قلبها وأسرارها، تكتشف أحدها، وهو سرّ إطلالة مقابر طنجة على البحر. تبدأ جولة المقابر البحرية من مقبرة "سيدي عمر"، إلى مقبرة "مرشان" في مواجهة القصر الملكي، وصولاً إلى مقبرة "طنجة البالية" وغيرها. هناك، تقف الشّواهد البيضاء التي تعتلي كلّ قبرٍ يتمدّد صاحبه إلى الأبد تحته، متأمّلةً البحر والمدى، محاطة بخُضرة برّية دائمة. وكعادة منازل الأحياء، تجد قبوراً بالغة الجمال ومعتنى بها، وأخرى بُنيت على عجل لتضمّ جسداً غير معني ببهرجة الموت، أو لم يتحمّل تكاليفها، زاهداً في كلّ شيء، عدا الهواء البحريّ والأفق المفتوح الذي ينتهي على الضّفاف الإسبانية، حاملاً ريح المقابر المتقلّبة تَقلُّب مؤشّر الحنين إلى قارة أخرى.
لعلّها بداية غريبة للحديث عن مدينة تزداد حياة مع مرور العقود والأجيال. أو مدينة غير معنيّة بالموت إلّا بالقدر الذي يكفي لتخفيف انتشارها الجغرافي المتضاعف في سنوات قليلة. لم تعد طنجة تلك المدينة الخجولة الواقفة على حدود إفريقيا، الملتحِفة ببحرين، على حافة جرفٍ أوشكَ أن يلمس القارة الشمالية، لولا تردّد خاطف. تلك العاشقة الليليّة دائمة النّشاط والإمكانات والبهجة والمغامرة.
لكن في طنجة، كما في المدن ذات الطبيعة الشّبيهة، مدنٌ كثيرة. كلٌّ يجد مدينته فيها، والأغلبيّة تكتفي بعبور سطحي يتظاهر باكتشاف جوهرها، بينما هو يتلمّس قشرتها الخارجية.
إقامات الموتى البحرية: مقابر أو مقاه؟
في مقابر ذوي النّعم المطلّة على البحر، يستلقى الأموات جنباً إلى جنب. يطلّون على المتوسط، كأنّهم يرتشفون الشاي الأخضر "المعشب" في الكؤوس الطويلة وهم جلوس في مقهى "الحافة". إذا تحدّثنا عن أجمل المقابر البحريّة، تأتي مقبرة "سيدي عمر" في مقدمتها، هي التي تقف على قمة جبل، وفي منطقة خضراء تطلُّ على البحر، ومنه على جزء كبير من المدينة. لو أنّ منزلاً بُني هناك، لكانت إطلالته من أروع ما يكون، لكن القبور منازل أيضاً.
نهضة طنجة: تنافر إيقاع الحجر والبشر
05-11-2015
تقع "سيدي عمر" على بُعد أقل من كيلومتر عن مقبرة "سيدي المصمودي"، ومن اسمي المقبرتين ندرك أنهما تقعان في زاويتي وليّين من الأولياء الذين كان المغاربة يزورون أضرحتهم لكل الأغراض، الدّينية والدنيوية، ولم يعد يفعل ذلك الآن سوى قلة من البسطاء واليائسين. ويبدو أنّهم اختاروا الاستقرار هناك أيضاً بعد الممات. ولأنّ حوالي المقبرة منطقة فيلات وقصور، فكثير من القبور تبدو عليها آثار النّعمة، من حسن هيئتها وبنائها والحجم الذي تشغله، وصباغة القبر الجديدة. بينما تجد بالقرب منها قبوراً ضئيلة بلا أسماء. الغنيّ له قبر واسع، وللفقير والزاهد قبر يضيق على الجسد. لحسن حظه أن الروح قد تحرّرت للأبد من إمكانية سجنها.
تزخر المدينة بالأولياء والأضرحة الذين يبلغ عددهم عشرون ضريحاً، بعضها يقع في مقابر المدينة، بينما ظلّ بعضها الآخر منفرداً بقبر الولي وزوّاره الأحياء. ومقبرة "مرشان" هي أكبر مقابر المدينة، وهي تطلُّ على البحر لكونها على قمة جبل أيضاً. وقد أُغلقت الآن أمام الموتى الجدد، وتم الاكتفاء بسكّانها الكثر من القدامى.
وإلى جانب المقابر المعروفة والحديثة، نجد "المقبرة الرومانية" التي لا بد لزائر المدينة من زيارتها، هي التي توجد بالقرب من "مقهى الحافة" الشهير. وهي أقدم ما بُني من مقابر على البحر في طنجة. ولعل الطبيعة قرّبتها أكثر حين نحتت الجبل الذي تقوم عليه... لدرجة أنّك وأنت تقف فوقه إذا زلّت قدمك قد تقع من الجرف على بعد خطوات من البحر. وبعد هذه القرون من الموت، صارت القبور حجراً، لم يبقَ سوى شكلها المستطيل وسط حجر الجبل.
وعلى سيرة القبور العتيقة، يحرص كل زائر للمدينة على البحث عن قبر ابن بطوطة لزيارته، وتأمّل مسار هذا الرجل القلق جغرافياً، الذي تحمل رحلات تدوم لسنوات - ونحن لا نتحمل رحلة عشر ساعات، أو الرحلات ذات الترانزيت. ويقع قبر ابن بطوطة أيضاً على قمة.
في مقابر ذوي النّعم المطلّة على البحر، يستلقى الأموات جنباً إلى جنب. يطلّون على المتوسط، كأنّهم يرتشفون الشاي الأخضر "المعشب" في الكؤوس الطويلة وهم جلوس في مقهى "الحافة". وإذا تحدّثنا عن أجمل المقابر البحريّة، تأتي مقبرة "سيدي عمر" في مقدمتها، هي التي تقف على قمة جبل في منطقة خضراء تطلُّ على البحر، ومنه على جزء كبير من المدينة.
هناك تفسير عمليّ لهذه الظاهرة بأنه حين تضع أسس مقبرة، يُستحسن أن تكون على قمة جبل، لتفادي انجراف القبور خلال مواسم المطر الكثيف التي كانت تعرفها طنجة. إلى جانب أنه حيثما وقفتَ على جبل في طنجة، ولو على بعد كيلوميترات، ترى البحر على امتداد النّظر، وكلما ابتعدت، رأيت المدينة تحضن البحرين معاً، المتوسط والأطلسي الذي توشك على احتضانه كاملاً، كما فعلت مع المتوسط.
طنجة "المُلهِمة" والباحثون عن الكنز
مثلما كان الأمريكيون يهاجرون نحو كاليفورنيا من أجل التّنقيب عن الذهب، في غمار حمى الذّهب التي انتشرت كالفيروس في بدايات القرن العشرين، كان الكُتّاب في منتصفه، من كلّ دول العالم يحجّون إلى طنجة بحثاً عن الإلهام. شعراء وكتّاب وفنّانون من الشرق والغرب، يولّون وجوههم شطرها سعياً خلف جوّ محفّز على الكتابة، مثلما فعلت أسماء كبيرة كان لها حظ السّبق إلى حضن طنجة الملهِمة. زار طنجة مئات الكتاب والفنانين والموسيقيين من أمريكا وأوروبا، ولم ينُب معظمهم منها إلا التّسكع في شوارعها، مترنّحين بجرعات زائدة من الحشيش والكحول الرّخيص... عدا الأسماء الكبيرة التي حفرت اسمها في طنجة مثل جان جنيه، بول بولز، تينيسي ويليامز، جاك كرواك، آلان غنسبيرغ، هنري ماتيس، أوجين دي لا كروا، جيرترود شتاين، جين بولز، وليام بوروز...
طنجة وحلب
12-02-2015
وفي نهاية القرن، جاء آخرون بعضهم عرب، وتسكّعوا في طنجة متتبّعين آثار محمد شكري ومقاهيه وحاناته المفضّلة وفندقه الأثير –الريتز- وطعام الفقراء في المطاعم والحانات الرّخيصة في شارع موسى بن نصير، أو حانات الكورنيش، وكل مكان ترك فيه شكري أثراً ما. فتسّكع سعدي يوسف في أزقّة طنجة كما شاء، وأقام في غرفة رقم 10 من فندق الريتز التي كانت مقرّ شكري لبعض الوقت، وكتب "ديوان طنجة" الذي لم يكن بمستوى ما كتب قبله، لكنه يضم بعض القصائد الجميلة.
تزخر المدينة بالأولياء والأضرحة الذين يبلغ عددهم عشرون ضريحاً، بعضها يقع في مقابر المدينة، بينما ظلّ بعضها الآخر منفرداً بقبر الولي وزوّاره الأحياء. ومقبرة "مرشان" هي أكبر مقابر المدينة، وهي تطلُّ على البحر لكونها على قمة جبل أيضاً. وقد أُغلقت الآن أمام الموتى الجدد، وتم الاكتفاء بسكّانها الكثر من القدامى.
بعض محبي طنجة انتهى بهم الأمر أن أصبحوا أبناء المدينة للأبد. حين ضمّ تراب طنجة جثامينهم في آخر رحلة يقومون بها. والمقابر المسيحية واليهودية في المدينة تشهد على ذلك. ربما بعضهم لم يكن شهيراً كالذين مرّوا ورحلوا ليموتوا في أمكنة أخرى، لكن مثقفين وسياسيين وشخصيات أخرى أقل شهرة، أحبّوا المدينة إلى اللحد.
السّياحة الأدبية غير المستغلّة
لو أن المدينة استثمرت فقط ما كُتب فيها، والذين كتبوا أو عاشوا فيها، لاغتنت فقط من قبور العابرين وآثارهم التي يمكن أن تكون مزارات سياحية، بدل الأولياء الذين لن يقبل سائح على زيارتهم إلا للفرجة على ثقافة الغيبيات. لكن، لا يوجد شيء من أثر خطوات كاتب من مرحلة منتصف القرن الماضي، تحتفي به المدينة مع الدراما التي رافقت حياة كتاب العقود الأولى من القرن العشرين، والتسكع البالغ وحياة البوهيمية الأدبية.
لحسن الحظ أن طنجة هي الغابات التي تُطلّ على البحر، في شساعة وكثافة مبهرة بين الأخضر والأزرق. هي الشّواطئ الكثيرة، والإطلالة الفريدة على المتوسط والأطلسي معاً تلتقي مياههما في خط فاصل ولا يمتزجان. هي القدرة على مزج الغني والفقير في مكان واحد. هي تعدّد الطعوم والرّوائح والطقوس. هي القريبة من أوروبا الموشكة على الانفلات من إفريقيا، لكنّها تُبقي حبل الودّ موصولًا بين الضّفتين. هي المطر الكثيف، والحرمان من الخروج. والتغيّرات التي غيّرت ملامح المدينة، في سبيل التوسعة والتمدن السريع.
يحرص كل زائر للمدينة على البحث عن قبر ابن بطوطة لزيارته، وتأمّل مسار هذا الرجل القلق جغرافياً، الذي تحمل رحلات تدوم لسنوات. ويقع قبر ابن بطوطة أيضاً على قمة. ولا ننسى قبر محمد شكري ونحن نزور مقابر موتى المدينة.
لكل عابر ومقيم مدينة خاصة به في طنجة، بل لكل ميّت طنجته، فالموتى في طنجة لا يموتون على حد سواء، هناك المعترّون في ضواحي المدينة المدفونون بين الغبار، والسّكارى الذين يسهرون على قبورهم. وهناك البحريون الذين يستلقون تحت النجوم، يستمعون للبحر وهو يحكي بلا نهاية عن البحارة والمراكب والغرقى الذين عرفهم منذ بداية التاريخ.
مهما فعلتَ لا تكن سائحاً في طنجة
عندما تزور طنجة لا تكن سائحاً، وكُنه أيضاً. لا تعتمد على أحد من المدينة ليلفّ بك، وأيضًا لا تبقَ تائهاً معتمداً على نصيحة، لا تكن سائحاً وكن اجتماعياً، لأنك ستُضيِّع طنجة منك. ما من بناء واحد أو جهة واحدة تمثل طنجة. وتحتاج وقتاً لاكتشاف طنجة إلّا إذا كنت سائحاً إنستغرامياً، حينها ستزور مغارة هرقل وملتقى البحرين، والمارينا و"سوق برا" والبولفار، والكورنيش الذي هو بالفعل من أجمل كورنيشات المغرب، ومقاهيه عظيمة الإطلالة والدّيكور، لكنك ستعود خاوي الوفاض إلّا من الصور.
عدا ذلك أنت حر بالتجول في المدينة القديمة وصولاً إلى القصبة وباب البحر والمقاهي على السّطوح، التي تطل بديهياً على البحر. ومن الجهة الأخرى قبر ابن بطوطة وفندق كونتينانتال. لا تنس قلعة المنار، أما مقهى الحافة فعليك الاستيقاظ مبكراً لتسعد بجلستك فيه خارج الأفواج البشرية التي تقيم فيه ليل نهار. وإذا كنت من محبي الحدائق فعليك بغابة الرميلات ومنتزه بيرديكاريس بقصره، وحدائق دونابو النباتية القريبة منها.
طنجة: نِساءٌ من قماش
01-03-2020
في الليل، ما من ليل إلّا ليل طنجة، سواء كنت من رواد المقاهي بالغة النظافة والرواق إذا أحسنت اختيارها، وغوغل لا يكذب خبراً عن ذلك، أو باراتها التي لا تنام إلى أن تفرغ الشوارع. ويمكن أن ترى وسط "سوق الدّاخل"، وأنت تدخل من "باب الفحص" أحد أقدم بوابات المدينة القديمة، المقابر المسيحية تقف جنباً إلى جنب مع المنازل والسّوق وباعة الطواجين والفحم. وعلى الرغم أن هذه القبور لا تجد عناية، لكنها قائمة على الطراز الأوروبي، بحيث لا يمكن ألّا تثير اهتمامك حتى لو نالت الطبيعة من ألوانها، خاصة مع مقارنتها بقبور المسلمين التي تميل إلى التقشّف حد التلاشي. فلا تستغرب إن تحوّل قبرك إلى قبر مجهول بعد وفاتك بسنوات، إذا قُضي أمرك في المدينة أو في مدن أخرى مسلمة.
بعض محبي طنجة انتهى بهم الأمر أن أصبحوا أبناء المدينة للأبد. حين ضمّ تراب طنجة جثامينهم في آخر رحلة يقومون بها. والمقابر المسيحية واليهودية في المدينة تشهد على ذلك. ربما بعضهم لم يكن شهيراً كالذين مرّوا ورحلوا ليموتوا في أمكنة أخرى، لكن مثقفين وسياسيين وشخصيات أخرى أقل شهرة، أحبّوا المدينة إلى اللحد.
لحسن الحظ أن طنجة هي الغابات التي تُطلّ على البحر، في شساعة وكثافة مبهرة بين الأخضر والأزرق. هي الشّواطئ الكثيرة، والإطلالة الفريدة على المتوسط والأطلسي معاً تلتقي مياههما في خط فاصل ولا يمتزجان. هي القدرة على مزج الغني والفقير في مكان واحد. هي تعدّد الطعوم والرّوائح والطقوس..
ما يحسب للمدينة، أنها دمجت الأحياء والأموات فبنت عمارات وأحياء حول المقابر التي كانت سابقة على الأحياء. فبُناتها الأولون اختاروا مناطق نائية لأجل راحة الأحياء والأموات. لكن الأحياء لم يتركوا للأموات شيئاً، فزاحموهم في المقابر، ولم يعد أحد يخاف من الأشباح والعفاريت التي كانت الجدات تقلن إنها تقيم في المقابر.
ولا ننسى قبر محمد شكري، ونحن نزور مقابر موتى المدينة.