"لكي أكتب شعراً ليس سياسياً يجب
أن أصغي إلى العصافير،
ولكي أسمع العصافير يجب
أن تخرس الطائرة"
مروان مخول
خلف جدران الحصار ننسى تماماً اتساع المدى واحتضان المتوسط لعظامنا وأعمدة منازلنا. وفي عصر ما بعد التكنولوجيا الحربية، مكّننا التصوير الجوي من مشاهدة الأرض التي صارت حقل تجارب حصري للجيش الإسرائيلي الحصري محيلاً غياها إلى طبقة هائلة ومتشابكة من الخرسانة والكتل البشرية، وحدة فيزيائية واحدة يجرّب عبرها ما يصل إليه في عالم التقانة العسكرية.
صغار غزّة النائمين.. هل يَشبعُ الوحش؟
11-08-2022
ولكن لماذا في الحرب أفتقد الخريطة والتضاريس، كما أفتقد درس الجغرافيا والتاريخ؟ وبعد الصدمة، ككل مرة، أقرر الهرب إلى اللغة لتسعفني، وهي التي تعلمني قراءة مفردات البحث غير المتناهي عن التوازن في عالم بلا قواعد ولا قوانين، كما البحث عن المعنى؟ وبعد الاقتراب المفرط من منتصف العمر، أستذكر في لحظة شرود بدايات السعادة بالكلمات الملهِمة؟ تلك البدايات التي أخجل منها الآن، ذلك أنني بدأت الكتابة كشكل تلقائي لصدمتي حين فقدت والدي في عامي الخامس عشر. كان احتكاكي قد بدأ أولاً من خلال الاستمتاع بالكلمات واكتشاف متعة اللغة. كانت كلمة مثل "استبْسَل" في درس التاريخ، عن شجاعة معركة انتصر فيها الفدائيون عام النكبة أو بعدها، ونجحوا في تحرير جنين، تعلمني كلمة "تحرير"، وكيف أكون سعيداً في آخر الدرب وعند الوصول إلى لمطاف الأخير، كأنه إعلان عن موت وحش اسمه صهيونية.
الحرب قبيحة وسيئة حينما تحال إلى فكرة. لا توجد خدمات حياتية تصلح للحياة البشرية في غزة. زمن الاحتلال الرقمي، نجلس في بيوتنا ننتظر اختيار الحظ وحده للكيفية التي سنتلقى بها أشكال الحرب.
أصبحتْ الكلمات، بعد ذلك بقليل، الملجأ والمأوى الأخير. المثوى الحقيقي الذي لم يعد يجدي التراجع عنه بعد أن مات أبي فجأةً بذاك المرض الفتاك. تزامن ذلك مع العدوان الإسرائيلي الكبير الذي تعرضت له غزة في عام 2008. كنت ما زلت فتىً يافعاً. كان موت أبي يرافقني في كل شاردة وواردة، لا زلت أتشارك روحه ويحضر في كل يوم. لا زالت الذكريات حانية رغم أنها ضبابية تماماً. أكتشف الآن أن أبي كان مهماً كزيت الزيتون في كل مطبخ متوسطي، طبيب العائلة الستيني ذاك. كان يأخذني ونهرب نستجم على الشاطئ، أو نذهب لنأكل بعضاً من الفاكهة والحلويات مع إحدى العائلات الصديقة، بينما يداوي الجدة ويتسامر مع الجد الكبير.
شهادتان من غزة
07-06-2021
يعلمني أننا مدينة لا تدير ظهرها لبحرها، وتفرح بكل ما أوتيت بزهد الرمل والملح. كنت يافعاً ولم أسأل بعد أسئلة الحياة الكبرى. لم أعرف عن الحرب سوى دبيب الدبابات الإسرائيلية خلال اجتياحها لمخيم جباليا المجاور لحيّنا وحي التفاح والتوام شمالاً وغيرها، قبل انسحاب شارون، الذي حوّل الاحتلال الإسرائيلي لاحتلالٍ رقمي. كان ذلك أيام الاجتياحات، حينما كنا أطفالاً ولا نعرف أكثر عن وحشية إسرائيل سوى أنها كانت العطلة الطارئة عن المدرسة. كنت أفرح لاجتماعنا على الفطور الصباحي، بينما أنا خائف مما يبثه المذياع من أناشيد، قبل أن أعود وأخاف مذعوراً بسبب زخة رصاص تخترق المسافات، أو صوت غارة تبعد كيلومتراً أو اثنين... وتهزّ المنطقة. كنت أفرح للهرب من الصقيع الذي نجونا منه في طابور الصباح المدرسي كلما كان يحدث.
أكتشف الآن أن أبي كان مهماً كزيت الزيتون في كل مطبخ متوسطي، طبيب العائلة الستيني ذاك. كان يأخذني ونهرب نستجم على الشاطئ، أو نذهب لنأكل بعضاً من الفاكهة والحلويات مع إحدى العائلات الصديقة، بينما يداوي الجدة ويتسامر مع الجد الكبير. يعلمني أننا مدينة لا تدير ظهرها لبحرها، وتفرح بكل ما أوتيت بزهد الرمل والملح.
لم أكن أعلم أن تلك الحرب الصهيونية ستفرغ ذاتها من معناها وكذلك من أجسادنا. بل هي لا تملك المعنى دون النيل من دم الأغيار، دم أطفالنا وأجسادنا. تلك الحقيقة المؤلمة. في الطفولة كانت الصدمة تسرق نومنا، بسبب ما نراه يحدث للأطفال مثل إيمان حجو ومحمد الدرة، وما يبثه تلفزيون فلسطين من مشاهد لرجال ونساء تُحال إلى أشلاء بشرية مهروسة بالرماد والأسفلت والمواد المتفجرة. كانت فوضى بصرية - ولا زالت - تمارس عنفها فوق جراحنا وآلامنا. تبدأ الفكرة من كون أن أفراد هذه المدينة ومجتمعها ما هم إلا انعكاس لمانفيستو سياسي يقوم على اللامبالاة، ولا ينفك يعيد تكرار ذاته مرة بعد مرة. ذلك أن الشهداء والأسرى هم الآخرون، ليس نحن، ليس أنا ولا أبي، ولا أصدقائي. لم أكن أعلم أن الحرب ستكون جزءاً من دورة حياتنا الطبيعية. وأنني سأخاف بهوس غير طبيعي من رؤية الصورة المثخنة بالدماء. نعم، إنه دمنا الحار والقادر دوماً على جرنا إلى نصر إلهي أو اجترارنا إلى هزيمة، التي لبشاعتها لا نرى لها أثراً سوى في المغلوبين من هذا الشعب. أي اجترار يجعل الحرب تعود لي مرة أخرى، ولكن في رأسي؟
وللشهداء، كما كل مرة، قصصٌ تمزّق القلب. كان الضوء مسلطاً على القلوب المجروحة. في كل قصة شهيد وشهيدة، نزفٌ منفردٌ. من "دنيانا العمور"، طالبة الفنون التي طالتها القذيفة الإسرائيلية في مرسمها، إلى "خليل حمادة"، الفتى الرائع، وحيد أمه وأبيه، الذي أنجبته بعد انتظار دام ثلاثة عشر عاماً.
في كل مرة قتلت إسرائيل إنساناً فلسطينياَ، تركت أحباءً خلفه يشاكسون الموت جنباً إلى جنب مع سيرورة الحياة، حتى صار الموت حانياً وأليفاً كما الغياب.
الشهداء والأسرى هم الآخرون. ليس نحن، ليس أنا ولا أبي ولا أصدقائي. لم أكن أعلم أن الحرب ستكون جزءاً من دورة حياتنا الطبيعية. وأنني سأخاف بهوس غير طبيعي من رؤية الصورة المثخنة بالدماء.
بعد أيام من إعلان قناة "الجزيرة" عن دعوة مصر لوقف إطلاق النار بعد جولة القصف الأخيرة الخاطفة، قررتُ كسر الحاجز النفسي والخروج لمشاهدة الغروب على شاطئ البحر، رفقة أصدقاء العمر. وهم الذين ضاع الصوت من حناجرهم وتفرقوا في كل البلاد. أسأل صديقي "مؤمن" وماذا بعد؟ ليقول إنه يريد للحرب أن تتوقف. تلك الحرب التي قال المحتل إنها بدأت بعملية مدتها 170 ثانية. لتمتد فيما بعد إلى 56 ساعة. أريد أن تتوقف كفكرة أولاً، ولو كانت ساعة واحدة، قبل أن ينهش الشيب المبكر رؤوسنا، ولتدعنا ننصرف نحو بحث عن معنى جديد قد ينفع في مسالك الهرب والنجاة.
إطلالة حب على حرب غير أخيرة
04-06-2021
يعلم صديقي أن ليس ثمة طريق للهرب بعد أن احتفت قيادات الحرب الإسرائيلية أيضاً بعودتها للمبادرة بالقتل والخنق. وبعد أن تمرّغ كبرياء الصهيونية بحماقات قادة الحرب أنفسهم في صراع العصابات على السلطة. يعلم صديقي أيضاً أنها – إسرائيل - حوّلت المكان إلى سجن لا هرب منه، وملأته بغربة داخلية، صاغت سياستها فيه نحو التضييق بهدف التهجير. ولكنها لم تكن تتوقع أن يعود العائدون ليشيدوا ذاكرة وعمارة، فحوّلت نهجها إلى إطباق العزل والحصار، وأيضاً القتل، وهي رائدة الحرب بكل أدوات الحروب الرقمية. إنها ليست إسرائيل التي هزمتنا في 1967 الهزيمة المستمرة، حيث يصبح الاستسلام خياراً غير مطروح. إنها إسرائيل التي تتصرف بالجنون الدموي ذاته حين تشعر بقلق وجودي يهددها.
للشهداء، كما كل مرة، قصصٌ تمزّق القلب. كان الضوء مسلطاً على القلوب المجروحة. في كل قصة شهيد وشهيدة، نزفٌ منفردٌ. من "دنيانا العمور"، طالبة الفنون التي طالتها القذيفة الإسرائيلية في مرسمها، إلى "خليل حمادة"، الفتى الرائع، وحيد أمه وأبيه، الذي أنجبته بعد انتظار دام ثلاثة عشر عاماً.
"فقلت: أين نحن أيها الشاب؟ قال: في حقول الحيرة فانتبه. قلت: لنرجع! لأن وحشة المكان تخيفني ومرأى النجوم والأشجار العارية يحزن نفسي. قال: اصبر، فالحيرة بداية المعرفة" (جبران خليل جبران).
قيل في كتب الأدب أنه إذا ما تخلّصت من عقدةٍ ما استطعت الكتابة عنها بحرية وإنصافٍ قادرَين على وصف التجربة كحقيقة ماثلة. للأدب جانبٌ توثيقيٌ للأحداث والأزمنة، لكن الكتابة بحد ذاتها تمرين على إعادة البث للأحداث والأفكار مرة بعد مرة، وللماضي. كما قيل في علم النفس أن العقل يقوم بعمليات حذف أجزاء من الذكريات أو الإضافة عليها لمجاراة رغباتنا في تكييف الأمور على مقاس إرادتنا لِما كان.
اعتقدت أنني ذو براعة أكثر من غيري في التذكر واسترجاع الأحداث في تسلسل زمني كشريط فيديو. يعود ذلك لتلك السنوات الطويلة التي أعليت فيها من شأن الماضي القريب والبعيد، محاولاً إدراك الواقع الحالي، ومن ثم الوصول للكيفية التي يمكن من خلالها الانسحاب إلى مكانٍ أفضل.
خمسة حروب عايشتها. في المرات الأولى الثلاث، كانت تدور بعض المقارنات بين قسوة حربٍ عن أخرى. ولكنها الآن، بعد أن أحيلت إلى فكرة، لم تبتعد بما يكفي لكي تتراكم فوقها الأحداث والأشياء والمواقف، كما أنني لم أكد أفارق صور الجرافات في شوارع غزة تزيل ركام المباني المدمرة، لم أغادر غزة كي تغطيها طبقات الأمكنة في رأسي. لم تنتهِ الحرب إلى أن تكون الحقيقة الغائبة من الماضي البعيد.
لطالما استثمرت مواردي العقلية في فهم فلسفة ملائمة للحياة، وفي تحليل الواقع المخيّم في الفضاء: حياتي التي أعطيتها بُعداً مكتوباً في مخيلتي كي أستطيع قراءتها بتمعن.
"هل أستطيع تفضيل صورٍ دون غيرها من الذكريات والمشاهد، تفضيلها على آخر، على ما أريد أن يدور في رأسي عند محاولة استحضار حقبة زمنية فائتة بعينها؟ ما الذي أريد له أن يبقى في ذاكرتي من ذلك الزمن أو ذاك؟ هل أنا حقاً من يتحكم في هذا الأمر؟". هذه الأسئلة حدّثتُ نفسي بها حول الحرب التي عايشتُها في مدينة غزة للمرة الخامسة. في المرات الأولى الثلاث، كانت تدور بعض المقارنات بين قسوة حربٍ عن أخرى. ولكنها الآن، بعد أن أحيلت إلى فكرة، لم تبتعد بما يكفي لكي تتراكم فوقها الأحداث والأشياء والمواقف، كما أنني لم أكد أفارق صور الجرافات في شوارع غزة تزيل ركام المباني المدمرة، لم أغادر غزة كي تغطيها طبقات الأمكنة في رأسي. لم تنتهِ الحرب إلى أن تكون الحقيقة الغائبة من الماضي البعيد.
لكن الحرب قبيحة وسيئة حينما تحال إلى فكرة، حيث لا تضخ المعلومات عبر القنوات السليمة، وتحليلات داخلية طائشة وخائبة حول فكرة المواجهة، وكأننا نمتلك خياراً آخر. لا توجد خدمات حياتية تصلح للحياة البشرية في غزة. زمن الاحتلال الرقمي، نجلس في بيوتنا ننتظر اختيار الحظ وحده للكيفية التي سنتلقى بها أشكال الحرب. كأنها ملحمة تحاصرنا في سجن حقيقي من جدران اسمنتية وأبواب فولاذية وأسلاك شائكة. يدخل سكان غزة في حظر تجول طوعي زمن الحرب، لأسباب كثيرة، أولها وثانيها الخوف الطبيعي من فقدان الحياة. قبيحة وسيئة الحرب حينما نتعرض للصدمة الناتجة عن الانفجارات التي تتطلب كماً هائلاً من الطاقة للتوقف عن اجترار الأفكار بسبب جفاف الدم في العروق، بعد أن استيقظتْ "ليليا"، ابنتي الرضيعة التي لم تبلغ من العمر سبعة أشهر، مذعورة مع كل انفجار باغت نومها. كانت المواجهة تقليدية تماماً، ولكنها الأولى التي تجربها طفلتي. لا حيلة ذكية في اصطيادنا رقمياً بالطائرات والصواريخ الموجهة. ولكن أصوات صواريخنا الطالعة ترعبنا أيضاً حين تمر في مجالنا الحيوي فنحسبها صواريخ العدو تتساقط علينا. هكذا نتلقى الحرب، نجلس وننتظر ونتمنى أن تخطئ الصواريخ حياتنا وحياة الآخرين، الذين يتم اصطفاؤهم ليكونوا شهداء.