أسئلة يثيرها التضامن مع مغتَصبة.. وهي تخص أمراض الوضع العام

يكره النظام المهيمِن أينما كان كل عبورٍ للخنادق المتشكِّلة أو تراسل بينها، ويكره كل عدم تكريسٍ لها. ثم هل يلغي وجود "أولويات"، كما تُسمّى، سواها؟ لا تقوم الأولويات تلك أصلاً من دون سواها، أي من دون استحضار كل المسائل بتشابكها وتقاطعها وتعقيدها وتأثيراتها المتبادلة. أما تبسيطها فبلا جدوى لأنه يحيلها بلا قوام ولا نبض، يجعلها شيئاً "نظيفاً" وإنما وهمياً ولا وجود له!
2022-06-30

نهلة الشهال

أستاذة وباحثة في علم الاجتماع السياسي، رئيسة تحرير "السفير العربي"


شارك
اسماعيل فتاح - العراق

هل لا نتضامن إلا مع مَن يشبهنا أو يعجبنا على الأقل؟ لا يخص هذا السؤال قصة الشابة التي اغتُصبت بوحشية في بيروت من أناس تعرفهم وفي مكان تعرفه بل وتعمل فيه، ونَشرت قصتها بتفصيل دقيق و"حي"، نقلٌ بدا حرفياً وفجاً، فعاب البعض عليها تلك الفجاجة وعابوا كذلك وجودها في حالة شخصية وفي مكان، وصفتهما بنفسها، ويشيران إلى وجود تعاطٍ عالٍ للكحول والمخدرات. هل جنت على نفسها براقش؟ هل لا يمكن حقاً الفصل بين الواقعة نفسها وبين الحالة المحيطة بها - بغض النظر عن رأينا فيها وخصوصاً عما تستحقه من نقاش جاد حول العديد من الجوانب التي تطرحها؟ الموقف الصحيح هو رفض اغتصاب النساء تحت كل الظروف، وليس هناك أعذار مخفِّفة للاغتصاب، تبريرات، أو تقاسم للمسؤوليات بين المغتصِب سواء كان مخادعاً ومستدرِجاً لضحيته أو كان شرساً ومتوسلاً كل الأساليب العنفية.. نرى يومياً عشرات حالات التحرش والاغتصاب والقتل لنساء، بينهنّ من تعيش وفق ما تريد بينما أخريات مقبوضٌ عليهنّ من عائلاتهنّ فلا يُسمح لهن بأي تنفس خارج الإطار الضيق المحدّد لهنّ، ومع ذلك تطالهنّ يدُ الإجرام؟ اغتصبت نساءٌ كنَّ يرتدين الحجاب بل والنقاب، ولم يكنّ سكارى ولا متعاطيات للمخدرات، ولم يكنّ يرقصن ولا كنّ "سافرات" أو "متبرجات". وهذا حدث ليس فحسب في ميدان التحرير في مصر إبان انتفاضة 2011 - وقبلها وبعدها - وفي انتفاضة السودان، وإنما كذلك في أماكن أخرى سواهما، وفي الشارع وفي أيام عادية (على فرض ملامة الأُول لمشاركتهنّ في الانتفاضات، بل لخروجهنّ أصلاً من البيت!). هل نقبل بأن يكون الخيار هو بين برقع داعش أو طالبان كما دعا إليه داعية مصري بعد ذبح الطالبة نيرة، ومنع النساء من الحيز العام، وبين تحميلهنّ آثام المخاطر التي تتربص بهنّ لو لم ينكفئن؟ والمؤكد لمن لا يريد الاختباء وراء أصبعه أنّ المظهر المحتشِم ليس كافياً لحمايتهنّ.

نعلم طبعاً كم أنّ مسألة أوضاع النساء وحقوقهنّ مثيرة لنقاش حاد، ليس في مجتمعاتنا المأزومة فحسب والتي يجتاحها الخراب على كل الأصعدة، بل أينما كان، في أوروبا وأمريكا والصين... وحيث تشاؤون. نعلم طبعاً أنه نقاش تتداخل فيه عناصر ومستويات واعتبارات متعددة، بعضها فكري وثقافي وبعضها الآخر غرائزي، ويمكن أن تكون أسسها اجتماعية واقتصادية ودينية إلخ.. كما هي كل شؤون الحياة، وهذه تعريفاً مجالٌ لتقاطعات لا حصر لها. ونعلم أنّ هذه المسألة تحديداً، وأكثر من أي شيء سواها، تستثير الاستنفار لأنها تخص منظومة تاريخية، "البطريركية"، مضى على وجودها الراسخ آلاف السنين. والمهم اليوم إدراك أنها تتعرض للاهتزاز – التاريخي هو الآخر – حيث أنّ النساء، في الواقع العملي وفي وعيهنّ بذواتهنّ في آن، تجاوزن ركائز البنى التي تستند اليها تلك المنظومة... و"السفير العربي" سعيد بإصداره ثلاث دفاتر متتابعة هذا العام – عام ميلاده العاشر – تخص هذا الأمر الذي نعتقد أنه هام وخطير بل وأساسي.

____________
من دفاتر السفير العربي
التفاوت: مكانة النساء بين "الاعتقاد" الشائع والسائد وبين الواقع والوقائع
____________

ولكن النقاش لا يتوقف فحسب على مسألة النساء ومكانتهنّ وحقهنّ في التحكم بحيواتهنّ وبرغباتهنّ، وامكانياتهنّ في القيام بذلك، على حدّة هذه المسألة. بل إن تلك الأسئلة نفسها تخص كل شأن، وهي بمعنى ما كاشفةٌ لكثير من الأعطاب المجتمعية، الفكرية والسياسية خصوصاً: هل لا نتضامن مع المقموعين من قبل نظام تعسفي – مهما كانت أيديولوجيته أو حججه – إذا ما كانوا مخالِفين لنا في توجهاتهم السياسية والفكرية؟ هل يحق لليساريين الذين صمتوا على قمع السيسي مثلاً للإسلاميين بل وشجّعه بعضهم على ذلك لشدة كرههم لهم، يحق لهم بعدها الشكوى من القمع الذي يمكن أن يطالهم، وهو غالباً يطالهم عند تغيّر بعض المعطيات. والعكس صحيح، أي هل يحق للإسلاميين الخ الخ.. وهذا ينطبق على سائر التيارات. وهناك مئات الأمثلة من التاريخ المعاصر تتناول ذلك. هل تُصْمِتُ الدعوة إلى إدانة القمع والاضطهاد الذي يطال كل المجتمع أحياناً أو فئات بعينها، دينية أو عرقية أو جهوية، أو أفكاراً وتيارات ثقافية وسياسية، تُصْمِتها اعتبارات التضامن مع مرتكبيها لأنهم يواجهون صعاباً وعداءات مريرة ويخوضون في تجربة صعبة وقد يُفترض أنّها واعدة في الوقت نفسه. هل لا بد من اعتبار الانتماء إلى خنادق بعينها أمرٌ مقدس؟ 

يكره النظام المهيمن أينما كان، بقوالبه السياسية والفكرية معاً، كل عبور لتلك الخنادق، أو بينها، يكره كل عدم تكريس لها. في فرنسا مثلاً اخترع اليمين واليسار المألوف على حد سواء تعبيراً غريباً وهو "الإسلاموية – اليسارية" (Islamogauchiste) كبعبع يتم باسمه قمع من يرتكب ذلك "العبور" بين ما يُفترض أنه معسكرات مكرّسة. وما زلنا نحتاج إلى الخوض في معارك شرسة لتمييز الموقف من اليهود ومن الصهاينة وإسرائيل. ولا يرضى الكثيرون من كافة الاتجاهات، المناهضة لإسرائيل وللصهيونية أو المؤيدة لها، الإقرار بهذا التمييز، ويتشبثون بالتقسيمات البسيطة والواضحة. وهم في هذا المثال تحديداً ينحازون إلى الادعاء الصهيوني الذي يطابق بين المعطيين. ولا يهم بالمناسبة كم عدد اليهود المناهضين للصهيونية وإسرائيل وهم ليسوا حتماً أغلبية. لكنّ القياس هنا لا يخص الأحجام.

ثم، هل تغليب "الأولويات" كما تُسمّى يلغي سواها؟ لا تقوم الأولويات تلك أصلاً من دون سواها، أي من دون استحضار كل المسائل بتشابكها وتقاطعها وتعقيدها، ولا جدوى من تبسيطها الذي يحيلها بلا قوام ولا نبض. فتصبح شيئاً "نظيفاً" وإنما وهمي ولا وجود له! هل يمكن التضامن مع المقاومة الفلسطينية (مثلاً) وفي الوقت نفسه رؤية كل عيوبها ونقدها بشدة، من دون الخوف من أن يجري ذلك أمام عيون إسرائيل والقوى المتحالفة معها محلياً وعالمياً ؟ ليس كل نقد وإدانة عدائيان بالضرورة، بل هما في كثيرٍ من الأحيان سبل إنقاذٍ إن لم يكن للتجربة نفسها الجاري نقدها، فلصون احتمال سواها مما يمكن أن يكون أفضل منها. هل كل شيء مستقطَب بين الأبيض والأسود؟ ولكن ماذا نفعل بأطياف الألوان المتدرجة والمتنوعة والمتنافرة التي تعم الكون؟

____________
من دفاتر السفير العربي
تأنيث العمل الهش
____________

هل ابتعدنا كثيراً عن قصة الشابة المغتصَبة في مكان مخصص للثقافة والفن (البديلين لما هو منتَج من قبل البنى المهيمنة)، مكان يرتاده شبان وشابات غاضبون وغاضبات، ويسعون لانتاج قيم مغايرة، إبداعية وترضيهم، فتجعل الحياة أجمل وجديرة بأن تُحيا؟ لا أظن اننا خرجنا عن الموضوع!

لا يمكن أن يكون ثورياً - كما قد يظن نفسه أو يدّعي - من لم يتخلص من أدوات المنظومة المهيمنة في النظر إلى المجتمع والناس، ويتخلص من السلوكيات التي تشيعها. ولعل كل سر الفشل في التغيير يكمن هنا!

"إن بناء أشكال من الحياة مغايرة هو أيضاً بناء رؤى مغايرة بخصوص "المسائل" التي يقترحها علينا النظام المهيمن"(1). وعلى صعيد آخر ، وكما تقول حكمة قديمة: أنْ نرى في الثلج صيرورة الماء. 

______________

1- بحسب قول الفيلسوف الفرنسي "جاك رانسيير" في نقاشه مع الرائع متعدد الصفات "إيريك أزان". الكتيب بعنوان "في أي زمان نعيش؟"، منشورات "لافابريك"، باريس 2017

مقالات من العالم العربي

خالدة جرار مسجونة في قبر!

2024-11-21

"أنا أموت كل يوم، الزنزانة أشبه بصندوق صغير محكم الإغلاق، لا يدخله الهواء. لا يوجد في الزنزانة إلا دورة مياه ونافذة صغيرة فوقه أغلقوها بعد يوم من نقلي إلى هنا...

أطفال عراقيون وسوريون في شوارع الناصرية.. بين التسول واستغلال الشبكات الإجرامية

2024-11-21

حالات الاتجار بالبشر تشمل أيضا استغلال الأطفال في الأعمال الشاقة مقابل أجور زهيدة، بالإضافة إلى استغلالهم لأغراض أخرى، بما في ذلك الترويج وبيع المخدرات. هذه الظاهرة لا تقتصر على الأطفال...

للكاتب نفسه

كنيساً يهودياً في باحة "الأقصى"

تتجسد معاني "خروج الحسين"، لمواجهة الطغيان، هو وأهله وكل من يخصه - مع معرفتهم المؤكدة بما يقال له اليوم في اللغة السياسية الحديثة "اختلال موازين القوى" لغير صالحه - في...