لبنان: ذلك "التغيير"!

ذهب إلى غير رجعة لبنان القديم الذي نشأ وفق صيغة "الميثاق الوطني" أو التسوية بين نخبه في ذلك الحين، لأنّ شروط هذه الصيغة انتهت دولياً وإقليمياً وداخلياً كذلك. لم يعد ثمة حاجة لدور لبنان ذاك. فما هي الصيغة التي يمكن للبنان أن يتبناها لنفسه حتى يطمح أهله الى الكفاف على الأقل، وهذا ليس مستحيلاً ويمكن الاشتغال عليه بالاستناد إلى مميزاته وبعضها ما زال قائماً...
2022-05-26

نهلة الشهال

أستاذة وباحثة في علم الاجتماع السياسي، رئيسة تحرير "السفير العربي"


شارك
| en
زينة عاصي - لبنان

غداة الانتخابات النيابية التي جرت منذ أيام، في 15 أيار/ مايو، قفز الدولار ليساوي 35 ألف ليرة لبنانية، مبتلعاً عدة آلاف من الليرات خلال ساعات. وهذا سعره اليوم وقد يقفز قبل موعد نشر هذا النص، لذا فهو إعلان مؤقت كما كل شيء في البلاد. ومعه انقطع تماماً الخبز من الأفران ومن المحلات، وذلك لعدة أيام متتالية ليعود إلى الظهور وقد تضاعف سعر ربطته وخفّ وزنها، وهو سيناريو قد اعتدنا عليه. وانقطع الفيول وبُشِّرنا بأننا نعيش في طول البلاد وعرضها على مئة ميغاواط تنتجها "المعامل المائية"، بعد توقف المعامل الأرضية كافة، وانتهت منحة الساعة أو الساعتين كهرباء في اليوم التي كنا ننعم بها، وتغوّلت المولدات الضخمة التي تعطي اشتراكات تبدأ بـ 2 "أمبير" تضيء لمبتين وجهاز تلفاز صغير وتدر أرباحاً طائلةً لأصحابها بالعملة الصعبة، وهم جميعاً محميون من متنفذين ويقاصصون بعنفٍ من يشاؤون لو احتاجوا للقصاص. وعادت طوابير السيارات على محطات البنزين ولو بكثافة أقل من المرات السابقة، ولزمن أقصر، بعدما تضاعف سعر الوقود... وتدرس السلطة سائر الإجراءات المطلوبة والمزمع تطبيقها، بعدما رُفع الدعم عن الأدوية الأساسية ولم تعد بمتناول الناس، واختفت أدوية الأمراض المستعصية وعلى رأسها السرطان، باعتبار أنّ الدعم لم يُرفع عنها بشكل كلي. وتهدد المستشفيات الخاصة كل يوم بإقفال أبوابها.. وغادرت وتغادر أفواج الطلبة المدارس والجامعات، ويغادرها كذلك أساتذتها لأنّ مرتباتهم صارت أقل من أجور انتقالهم من بيوتهم إليها..

مقالات ذات صلة

ولكنّ اللبنانيين "شطّار"، وهي الصفة الشائعة عنهم. يتدبر الأفقر من بينهم شراء الأدوية السورية الرخيصة، ولمن يمكنه تلك التركية – الأحسن جودة والأقل كلفة بعشرة أضعاف من تلك الموجودة في السوق اللبناني - وقد وُلد "بزنس" كامل في هذا المجال. وهم يتلقون عبر مكاتب التحويل النقدي مساعدات بالعملة الصعبة من أقربائهم في بلاد الاغتراب (وأعدادهم أكبر بكثير من المقيمين) وهي لا تعدو أن تكون مبالغ صغيرة تشقى لتلحق بارتفاع الأسعار اليومي، ولكنّها حتى الآن جنبتهم الموت جوعاً بالمعنى الحرفي للكلمة. وتنتشر طبعاً أشكال من التسول ومن توسل المتنفذين و"الزعماء" ومن الاستزلام، وتنتشر إلى جانبها وتتعاظم كل أشكال الجريمة من خطف وقتل وسلب الخ.. ورمي النفس والأولاد في مراكب متهالكة.

هكذا هي الحياة في "سويسرا الشرق" التي تطفح النفايات في طرقاتها.

***

تحمّس للانتخابات كثيرون باعتبارها يمكن أن تصبح رمزاً "للتغيير". وحين يُطرح السؤال عن طبيعة هذا التغيير المأمول، تتنوع الإجابات بما يفضح ديماغوجية الشعار أو لفظيته في أحسن الأحوال: بعضهم يظنّ أنّ إيصال نواب "أوادم" يمكن أن يكون بداية طريق لشيءٍ ما. وبعضهم الآخر يرى أنّ كسر زعامة نواب أبديين هو التغيير، وآخرون يعتقدون أنّ إفقاد الثنائي الشيعي إمكانية تشكيل كتلة أغلبية هو التغيير، ولعلهم يظنون أنّهم بهذا يمكن أن يهزموه أو حتى أن يجردوه من السلاح وما يرافقه من تعالٍ متجبر وسطوة بشعة. وبعضهم يريدون هزيمة تماسيح الفساد بخفض عدد نواب كتلهم أو بإلحاق بهدلة بشخص جبران باسيل المتعجرف والذي استقطب في وقت ما – في انتفاضة 2019 خصوصاً – جلّ شتائم الغاضبين وصار رمزاً في هذا المجال.

مقالات ذات صلة

ويقول جميع من يأملون بالتغيير (غير المُعرّف إذاً): فلنُعطِ النواب الجدد مهلة، ولنسامح أخطاءهم وهفواتهم، ولو كانت من عيار ثقيل! مفترضين أنهم تلامذة يتدربون، وقد وصلوا "خام" إلى النيابة. لا يسألونهم ولا يسألون أنفسهم ماذا جاؤوا يفعلون في المجلس النيابي لبلدٍ تلك أحواله، يتشظى في كل اتجاه، طالما يمكن أن يلعب بمواقفهم وبصورتهم مذيع تلفزيوني خبيث، فيرفعون أيديهم أمام الشاشات كالتلامذة الشطار كما طَلب منهم وهو يسألهم عن إقرار "الزواج المدني" أو إلغاء القوانين التي تجرّم "المثلية الجنسية"، وهو يعرف تماماً أنها محارق لهم.. أو خطيب جامع ليس قائداً سياسياً، ويُفترض أنه لا "يمون" على جمع من يحلو له معاً ممن يُفترض أنّ بينهم تنافراً جوهرياً، ولعله طًلب منه ذلك لتسطيح صورة نائبٍ كان مدعاة تفاؤل لأنه "آدمي"، أو ربما... لتظهيرها. وقد قفز بعض هؤلاء "التغييريين" إلى حضن السلطة بعد أيام قلائل على انتخابهم وشبكوا أيديهم بأيدي أعتى عتاتها. وتتوالى الأمثلة من هذا القبيل، وبعضها أفدح من هذه أو أكثر هزلية.

***

ويتبين أمران: الأول يتعلق بمن يُفترض أنّهم نخبة تقود لبنان، وزراء ونواب منتخَبون ومرشحون للنيابة من كل التيارات أو المشارب ومثقفون ومناضلون. فلنترك بدائية وتفاهة معظمهم جانباً لنسأل من هو (أو يعتبر نفسه) جدير بالسؤال: ما تصوركم للأزمة التي يعيش في وسطها لبنان – وليس "يمر بها"، لأنّ المرور تعريفاً فعلٌ عابر – وما هي التدابير المحتملة لتخفيف وطأتها، وما هو الأفق الذي يمكن العمل عليه لإنتاج حل لها؟ وبلا مبالغة، فلا أظن أنّ أي طرف أو فرد لامع طرح أجوبة فعلية على هذه الأسئلة تخرج عن نطاق الإدانات (من قبيل أنّ الطبقة الحاكمة فاسدة أو أنهم سرّاق، وهي إدانات صحيحة ويوجد إجماع عليها ولكنّها لا تكفي أبداً) أو التمنيات والأدبيات عما "ينبغي" وعن الدولة المدنية والمواطنة الخ.... ومن حاول بلورة تصور ربما كان متكاملاً أو جديراً بالنظر، عجز عن إيصاله للناس واستمر يخاطب نفسه فرحاً بها، وما زال لا يرى غضاضة في هذا الفشل طالما يرى أنّه "على صواب". وهناك من تَميّز بصمت القبور – أين هو الحزب الشيوعي؟ وأين هم المثقفون النقديون والجذريون؟ - مع أنّه يُفترض بهم أن يكونوا معنيين على الأقل... بالكلام!

مقالات ذات صلة

وأما الأمر الثاني فيخص الناس. كلهم غاضبون. ولكن يخترق هذا الغضب قدرٌ عالٍ من البحث عن تأقلمات مع الواقع ولو كانت وهمية. ميلٌ أساسه تبني القيم الأساسية السائدة، وإعادة انتاجها بشتى الأشكال، فيُرمى بما يسمونه "أزمة" في رقبة معطيات وأطراف مذنبة – وهي مذنبة بالتأكيد ولكنّ ذلك الرمي هو نفسه جزئي ولا يكفي – والتمسك بفكرة أو قناعة عامة يمكن تلمّسها في كل الأحاديث والتعليقات، بأنّ هناك حلولاً ممكنة بشكل سريع وأنه يكفي اتخاذ قرارات لتصبح نافذة. يريدون استعادة مدخّراتهم المحجوزة في البنوك، أو رفع أجورهم، أو خفض قيمة الدولار مقارنة بالليرة، ليعودوا إلى سابق حياتهم، كلٌ حسب شروطه الاجتماعية. وفي واقع الحال، وعلى الرغم من أنّ انهيار لبنان قد تفاعل ببطء إلى أن انفجر منذ ثلاث سنوات، وانفجر بعده بعام مرفأ بيروت، كرمز ربما لتلك النهاية، إلا أنّهم يُسقطون من إدراكهم كل ما يؤشر إلى الانسداد التام للحلول. ويزعجهم الخطاب الذي يبدّد أوهامهم: ليست الانتخابات النيابية إطاراً للتغيير، ولو حصل على المقاعد كلها "أوادم" فلن يتغير شيء، أو سيتغير القليل القليل، لا يمكن نزع سلاح حزب الله بقرار ولا يمكن التفكير بخوض حرب – مدمرة تماماً – ضده. لن تأتي فرنسا ولا الولايات المتحدة أو سواهما لإنقاذ لبنان لأنّه لا مصلحة لأيّ منهم في ذلك، ولأنّ العالم كله يموج ويتغير. لن تهتم دول الخليج التي أعلنت حصاراً مرعباً على لبنان بما يجري فيه من بؤس وهي تتأمل واهمة أنه يمكنها الاستفادة – المتعددة – من وصوله إلى القعر الذي تشتهيه... لن تتدخل سوريا علناً (بغض النظر عمن يتمنى ذلك أو من يجزع منه.. أو من يُهوّل به!) لأن مآسيها تشلّها وقد صارت طرفاً معاقاً بعد عشر سنوات من الحرب المدمرة التي عاشتها وتزداد إعاقة بعد الانسحاب الروسي الكبير منها وعودة تركيا للاستئساد عليها. لن تشنّ إسرائيل حرباً شاملة على لبنان – على الرغم من إجرام قادتها وجنونهم اللامتناهي – لأنّها تراه يموت من تلقاء نفسه. وهكذا دواليك. لبنان يقع وسط استعصاء على كل المستويات.

***

ببضع كلمات: ذهب إلى غير رجعة لبنان القديم الذي نشأ وفق صيغة "الميثاق الوطني" أو التسوية بين نخبه في ذلك الحين، لأنّ شروط هذه الصيغة انتهت دولياً وإقليمياً وداخلياً كذلك. لم يعد ثمة حاجة لدور لبنان ذاك. فالداخل العربي جهّز نفسه ليدير أموره بنفسه وبما لديه وبما يمكنه شراؤه من خدمات وتجهيزات، وتقهقرت مكانة أوروبا التي يُفترض أنها قلب مسار البشرية التاريخي بمختلف مراحله الاقتصادية والفكرية – أنظروا النظرية الماركسية! - ونبض حداثتها، بل هي تخلت عن كل ذلك وتلهث للحاق بالنموذج الأمريكي. وتسود العالم معاييرٌ (فلنقل أنّها فجة فاقعة) تتعلق بالإقرار بقدرة المال، بغض النظر تماماً عن مصادره، على شراء كل شيء وتجريد الثقافة والقيم والعمليات الإنتاجية الصناعية والزراعية من أهميتها تجريداً تاماً. صار الريع بمختلف أنواعه هو الاقتصاد... وهناك الكثير ممّا يجب أن يقال إضافة على ذلك في وصف عالمنا اليوم، هذا إذا بقي قائماً أصلاً بالنظر إلى الاختلالات المناخية المدمرة وإلى العبث بالطبيعة وبالحياة وما ينتجان من أوبئة تهدد بالقضاء عليه...

فما هي الصيغة التي يمكن للبنان أن يتبناها لنفسه حتى يطمح أهله الى الكفاف على الأقل، وهذا ليس مستحيلاً ويمكن ويجب الاشتغال عليه وبلورته بالاستناد إلى مميزاته وبعضها ما زال قائماً لا يمكن لأحد استبداله ولو بفلوس الأرض: عراقة التعليم وكفاءته وقد هُدر الكثير منه ولكن الأسس ما زالت موجودة ويمكن استدعاؤها واستنفارها، المهارات في قطاعات خدمية فعلية تهمّ كل المنطقة ويتفوق فيها اللبنانيون بناءً على امتلاك مرتكزاتها، وهي الأخرى تُبدّد اليوم ولكن يمكن ترميمها، كالاستشفاء والنشر والتصميم والإبداعات المختلفة، تنوع اللبنانيين على كل المستويات، انفتاحهم على العالم ومتانة علاقاتهم معه وانتشارهم أينما كان، مهارات السياحة المستندة إلى خبرة طويلة وإلى طبيعة البلد نفسها... واللائحة تطول ولن نُدخل فيها النفط والغاز لأنهما ممكنان ربما، ولكننا نبحث عما يعيد بناء المجتمع وعلاقات أهله ببعضهم وحاجتهم للعمل الجاد وليس لمداخيل ريعية لا يمكن توظيفها في الخدمة العامة وليس النهب إلا اذا جرى تشييد ذلك البناء التأسيسي مجدداً.

وشرط ذلك كدينامية هو تحقيق توافق وطني على أساس هذه الصيغة الجديدة التي فَوّت التصدي لها وابتداعها صنّاع الطائف مع إنهاء الحرب الأهلية، فأعادوا مكيجة الصيغة القديمة وكانت مذّاك جثة.. وقد تفسخت الآن. فكفى عبثاً!!   


وسوم: العدد 501

للكاتب نفسه

كنيساً يهودياً في باحة "الأقصى"

تتجسد معاني "خروج الحسين"، لمواجهة الطغيان، هو وأهله وكل من يخصه - مع معرفتهم المؤكدة بما يقال له اليوم في اللغة السياسية الحديثة "اختلال موازين القوى" لغير صالحه - في...