ما إن تطأ قدماك ساحة المرجة في دمشق، حتى تصطدم ذاكرتك البصرية والسمعية بالفارق الكبير بين صور تغص بها كتب التاريخ السوري عنها، وبين واقعها الحالي الذي يحيلك إلى مشهد يقفز فيه التجاهل واﻹهمال إلى الواجهة، ويحضر فيه على الفور الواقع السوري الحالي، يتصدره البؤس. فالوجوه كالحة والناس تعبر المكان ماشيةً مستعجلةً صامتةً كأنّ على رأسها طيوراً كثيرةً تدفعها للهرب إلى النسيان.
وبالطبع فكل التغييرات في الأماكن، وبالاخص في المدن، انما تنبئ عن تحولات عميقة، مجتمعية وسياسية واقتصادية وثقافية، جرت وتركت توقيعها على ما لحق بتخطيط المكان وعمرانه وهندسته وعلى أحواله. فبما تنبئ التغييرات هنا؟ لا توجد حيادية اجتماعية أو سياسية بخصوص الفضاء المكاني باعتبار أن هذا الأخير هو امتداد للعلاقات المجتمعية (1).
من رموز نشوء الدولة السورية الحالية
ساحة المرجة هي إحدى أهم أماكن الذاكرة السورية الجمعية، وهذا معادل موضوعي لذاكرة غير متجسدة في كيان محدد واحد، بل تشمل متناثرةً أمكنةً جغرافية وتماثيل وأعمالاً فنية وشخصيات تاريخية وأيام تذكارية مثل يوم الاستقلال عن المحتل أو اليوم الوطني، ونصوصاً فلسفية وعلمية وأنشطة رمزية، وغيرها (2). وهكذا يمكن عدّ قصر العظم بدمشق، وقلعة حلب، وساعة حمص، ومدخل أوغاريت في اللاذقية، و"عيد الرابع" (في شهر نيسان/أبريل)، ورأس السنة اﻵشورية (أكيتو بريختو)، وأعمال لؤي كيالي الفنية (مثالاً لا حصراً) وغيرها.. من أماكن الذاكرة في سوريا الحالية.
أهل دمشق قبل 120 سنة كما رآهم معلّم روسي
19-03-2020
تحتل ساحة المرجة موقعاً متميزاً في هكذا قائمة كونها لعبت دوراً رمزياً واضحاً في تشكّل الوعي الجمعي في سياق نشوء الدولة السورية الحديثة بحدودها الراهنة، بعد تقسيم بلاد الشام إلى دويلات مطلع القرن الفائت. فهي تقع في العاصمة التاريخية لبلاد الشام، دمشق، بل وفي مركز دمشق خارج سور المدينة القديمة. نشأت في العهد المملوكي، وتشير تعددية أسماء الساحة عبر القرون الخوالي إلى مركزية حضورها في الوعي الدمشقي، فقد حملت اسم "الجزيرة" و"بين النهرين". وفي مطلع القرن التاسع عشر سُمّيت المرجة لانتشار الخضرة فيها، وفي أواخر القرن نفسه أُطلق عليها اسم ساحة العدلية والبريد والبرق نسبة لمبنيي العدلية والبريد والبرق المقامين فيها. وفي بدايات القرن العشرين دُعِيت بالميدان الكبير، وساحة السرايا نسبة للسراي الجديدة القائمة حالياً. وفي عهد الحكومة العربية (1918-1920) سُمّيت ساحة الشهداء، وأصبحت هذه التسمية رسمية إلى الآن، لكنّ تسمية "المرجة" شاعت على ألسنة الناس أكثر من الأسماء الأخرى واستمرت في أيامنا الحالية.
كل التغييرات في الأماكن، وبالاخص في المدن، انما تنبئ عن تحولات عميقة، مجتمعية وسياسية واقتصادية وثقافية، جرت وتركت توقيعها على ما لحق بتخطيط المكان وعمرانه وهندسته وعلى أحواله. فبما تنبئ التغييرات هنا؟ لا توجد حيادية اجتماعية أو سياسية في الفضاء المكاني، باعتبار أن هذا الأخير هو "امتدادٌ للعلاقات المجتمعية".
في رحاب تلك الساحة، في الخامس والعشرين من آب 1915، تم تنفيذ حكم الإعدام بالدفعة الأولى من مناضلين عرب ضد الاحتلال العثماني ضمّت أحد عشر مناضلاً، ليتبعها في السادس من أيار/مايو 1916 تعليق القائد العثماني جمال باشا السفّاح أعواد مشانق الفوج الثاني من رجالات الاستقلال العربي بالتزامن مع تعليق مشابه لفوج آخر من هؤلاء الرجال على أعواد المشانق في بيروت في التاريخ نفسه.
وعلى إثر تلك الجريمة، ظهرت - حسبما يروي المخيال الشعبي - أغنية باتت من تراث السوريين المتداوَل كأحد أبرز علامات الوطنية السورية المستخدمة في اﻹعلام وفي التأكيد على مركزية الساحة في عملية بناء هذه الوطنية، وهذه اﻷغنية هي أغنية "زيّنوا المرجة والمرجة لينا، شامنا فرجة وهي مزيّنة". ولا أحد يعرف بالضبط من هو كاتب أو ملحّن هذه اﻷغنية التي مرّت بتطورات عديدة، كان آخرها ما قام به منصور الرحباني في مسرحية "صيف 840"، وغنى فيها غسان صليبا أغنية "زينو الساحة".
استقبلت الساحة اﻷمير فيصل بن الحسين في دخوله اﻷول إلى عاصمة اﻷمويين حيث زار الساحة في 18 تشرين اﻷول/اكتوبر 1918، معلناً تحرير دمشق من الاحتلال العثماني وإقامة حكومة عربية في داخلها باسم أبيه الشريف حسين، وقرأ الفاتحة على أرواح الشهداء، ومن يومها قررت الحكومات السورية واللبنانية المتعاقبة اعتماد السادس من أيار/مايو عيداً للشهداء.
استمرت الساحة باستقبال جثامين شهداء المقاومة السورية للمحتل الفرنسي، إذ أعدم الاحتلال أبطالاً من صانعي الثورة السورية الكبرى (1925-1927) وألقى بجثثهم في الساحة، ومن هؤلاء كان الشهيد "أحمد مريود" من الجولان حيث أحضرت القوات الفرنسية في العام 1926 جثمانه إلى ساحة المرجة لعرضه أمام الناس بهدف غير خافٍ، فخرج الدمشقيون لتحيته ورشّوا أرض الساحة بماء الزهر وردّدوا عند جثمان الشهيد: "زينوا المرجة" لتتحوّل هذه الترنيمة العفوية إلى أغنية عبرت السنوات السورية حتى اليوم، وصارت علامة فارقة على زمن البحث عن هويةٍ واستقلالٍ وكيانٍ وطني. ويعتقد المؤرخ السوري سامي مروان المبيض أنّ تاريخ العام 1926، هو تاريخ ظهور الأغنية فعلياً، وليس العام 1916.
حين يقف المراقب اليوم في الساحة، سيجد أن لا شيء حوله من معالم اﻷحداث التاريخية الموّثقة في كثير من الحوليات السورية قد بقي على حاله، فلم يعد هناك أي شيء يُذكّر بذلك التاريخ أو تلك الصور، خلافاً للمتوقع في سياسات حفظ الذاكرة للدول والشعوب. ولعل الثابت الوحيد الذي لم يتغير منذ نصبه العام 1907 وبقي في الساحة صامداً ضد التغيير، هو "عمود المرجة".
عمود المرجة و"الخازوق" العثماني والترامواي
توسّط "عمود المرجة" الساحة عند إنشائها، وهو نصب تذكاري أقامه الوالي العثماني الدمشقي حسين ناظم باشا، تخليداً لذكرى إقامة أول اتصالات برقية بين دمشق والمدينة المنوّرة، وصمّمه المعماري الإيطالي ريموندو دارونكو (1857- 1932) ويتكوّن من قاعدة بازلتية وعمود من البرونز ينتهي بمجسّم مصغّر لجامع يلدز في اسطنبول، وهذا اﻷخير بناه المعماري نفسه.
غالبية الشوام لا يستخدمون اسم عمود المرجة لوصفه في أحاديثهم، بل يستخدمون اسماً آخراً هو "خازوق المرجة" في تحوير نوعي للاسم يحمل شكلاً من أشكال المقاومة الجمعية للسياسات العثمانية، والاسم يرتبط ربما بممارسات العثمانيين في زمن حكمهم الطويل وبمعاقبة السوريين بالخازوق، وهو آلة عقاب شنيعة طالت شريحة واسعة من مقاوميهم.
ليس بعيداً عن الساحة تقع العديد من علامات دمشق المركزية، ففي غربها يقع مبنى السراي (فتح أبوابه العام 1901) وقد صار يخلو من معظم ساكنيه، ما عدا طابقه الأرضي، على النقيض من غرف الفنادق المحيطة، وهي كثيرة، حيث تغصّ بعائلات المُهجَّرين من مناطق سورية مختلفة إلى درجة أنّ العثور على غرفة شاغرة ولو بسرير واحد سيكون من حسن الحظ الكبير.
جنوب الساحة يقع "مبنى العابد" التاريخي الذي لم تطله بعد يد الحداثة، ولكنه مهمل ومتروك لشأن مالكيه الذين لم يتبق منهم في البلاد أحد على ما يظهر، ويعود نسب المبنى إلى عائلة العابد الدمشقية التاريخية التي احتل ابنها "محمد علي العابد" منصب أوّل رئيس منتخب للجمهورية السورية مطلع ثلاثينيات القرن الماضي إبان الاحتلال الفرنسي، وقد كان ممثلاً للأرستقراطية الدمشقية، واتهمه المؤرخ الدمشقي محمد كرد علي بمحاباة الفرنسيين.
قانون قيصر والوطنية السورية
06-07-2020
من العلامات اﻷخرى القريبة من الساحة عددٌ من اﻷسواق المركزية للعاصمة، من كهربائيات إلى قطع حواسيب إلى مكاتب مترجمين محلَّفين، ومحامين ومعقبي معاملات، وباعة عطور وحلويات وإكسسوارات، تظهر في الغالب خالية من زبائنَ كانوا إلى وقت قريب يتدفقون من كل فجٍّ عميق إليها، ليس فقط لرخص أثمان بضائعها وتنوعها، بل كنوع من النشاط الاجتماعي الاقتصادي تميّزت به المنطقة كساحة مركزية للعاصمة نشأت حولها تلك اﻷسواق في العهد المملوكي بعد خروج دمشق من أسوار قلعتها القديمة.
ساحة المرجة هي إحدى أهم مناطق الذاكرة السورية الجمعية، وهذا معادل موضوعي لذاكرة غير متجسدة في كيان محدد واحد، بل تشمل متناثرةً أمكنةً جغرافية وتماثيل وأعمالاً فنية وشخصيات تاريخية وأيام تذكارية مثل يوم الاستقلال عن المحتل أو اليوم الوطني، ونصوصاً فلسفية وعلمية وأنشطة رمزية، وغيرها.
غالبية الشوام لا يستخدمون اسم "عمود المرجة" لوصفه في أحاديثهم، بل يستخدمون اسماً آخراً هو "خازوق المرجة" في تحوير نوعي للاسم يحمل شكلاً من أشكال المقاومة الجمعية للسياسات العثمانية، والاسم يرتبط ربما بممارسات العثمانيين في زمن حكمهم الطويل وبمعاقبة السوريين بالخازوق، وهو آلة عقاب شنيعة طالت شريحة واسعة من مقاوميهم.
ومع اشتداد أزمة النقل في العاصمة حالياً، يتذكر الدمشقيون تجربةً تؤرِّخ لها بقايا أسلاك كهربائية كانت قد عبرت الساحة مطلع القرن، هي تجربة الترامواي، أي الحافلة الكهربائية. فبعد أن كانت عربات الخيول هي وسيلة النقل المنتشرة بدايات القرن العشرين، انطلقت أوّل رحلة للترامواي بين أحياء دمشق العام 1904، كأول وسيلة نقل حديثة. وقد شملت خطوط الترامواي أحياء دمشق الأساسية، وقاد عملية مدّها واستثمارها اﻷمير محمد أرسلان، من وجهاء الدروز اللبنانيين وأوّل من تولى رئاسة الجمعية العلمية السورية، التي تأسست في بيروت العام 1847. كما أنّ عدداً من أوائل دور السينما في دمشق العاصمة، ظهرت في محيط المنطقة ومنها على سبيل المثال "سينما الزهراء" التي بقيت حتى مطلع اﻷربعينيات الفائتة على قيد الحياة.
تحوّلات رمزية الساحة بدءاً من اﻷربعينيات
شهدت الساحة تغيرات ملحوظة في مركزيتها في الوعي الدمشقي والسوري منذ تحوّلت مركزاً لتنفيذ عقوبة الإعدام. وقد بدأ هذا العرف، وفق مؤرخي دمشق، منذ أربعينيات القرن العشرين.
في آواخر الخمسينيات تلقت الساحة أوّل ضربة ساهمت في نسف أحد أهم علاماتها البصرية المرتبطة بالاستقلال عن العثمانيين، إذ يذكر مؤرخ دمشق المعروف الراحل قتيبة الشهابي، في كتابه "ساحة المرجة ومجاوراتها في دمشق" أنه "تمَّ إعلان استقلال سوريا وخروج آخر جندي تركي منها من مبنى البلدية في ساحة المرجة في 27 أيلول 1918"، وبدل أن يبقى هذا المبنى ويتحوّل إرثاً سورياً وطنياً، تم هدمه آواخر الخمسينيات الفائتة وبناء "برج الشرابي" بدلاً منه، ولا نعرف بالضبط هل كان مبنى البلدية ملكاً خاصاً مستأجراً أم ملكية عامة، ولكن الهدم وقع.
إلى جوار هدم مبنى البلدية اجتاحت المنطقة حمى هدم اﻷسواق القريبة منها، بما فيها اﻷسواق الأثرية، إذ هدم "سوق القرماني" الأثري وأُزيل بكامله، وفي غياب تصور بصري واضح لما ستكون عليه الساحة كحالة رمزية رئيسية في الذاكرة السورية، نشأت كتل من الاسمنت بجوارها بعد عمليات هدم بيوتها وبناء فنادق رخيصة من ذوات النصف نجمة، وهذه اﻷخيرة كما يشير المؤرخ السوري سامي مروان المبيض "تحوّلت مع الوقت إلى بيوت بغاء، لا يرتادها إلّا أبناء الطبقة الفقيرة من السيّاح وأهالي البلد"، وعلى إثر هذا التحول بدأ بريق الساحة يخبو وبدأت تفقد رمزيتها، ولم يعد أحد يتذكر أنّ لها دوراً في بناء تلك الذاكرة.
توسع مدينة دمشق خارج المساحات المعروفة (خارج المخطط التنظيمي الذي ظهر في الستينيات الفائتة) ساهم في خلق ساحات جديدة امتدّت إليها دمشق الحديثة، واستخدمتها السلطة بديلاً عن الساحات القديمة المرتبطة بعهود سابقة قد تمثل للسلطة الحالية مشكلة بطريقة ما، كأن تستحضر نضالات السوريين ضد الاستبداد ومن أجل الحرية والديمقراطية.
ولا يُسجل تاريخ أوّل عملية إعدام في الساحة لمجرم، ولكن في الستينيات الفائتة شهدت الساحة عمليتي إعدام شكلتا فارقاً مهماً في رمزية الساحة ودلالتها السورية، إذ أعدمت السلطات "فرحان اﻷتاسي" وهو مدني سوري أدين في قضية تجسس أميركية على نظام البعث وقتها إلى جانب آخرين، أحدهم ضابط في الجيش السوري، حيث بقي الجمهور يتفرج على جثة اﻷتاسي في ساحة المرجة ثلاثة أيام.
على أنّ عملية اﻹعدام الأكثر أهمية وحضوراً في الذاكرة السورية المرتبطة بساحة المرجة، هي عملية إعدام الجاسوس اﻹسرائيلي "إيلي كوهين" في 18 أيار/ مايو 1965، وقد تمت في الساحة أيضاً، وهذا الشخص الذي تحوّل إلى أسطورة في عالم التجسس بناء على بروباغندا إسرائيلية مستمرة حتى اﻵن، التقطت له صور من عملية إعدامه، وتوضح تلك الصور كمية كبيرة من التغيرات التي طرأت على الساحة.
بعد أيام من إعدامهما، تناقلت وسائل إعلام فرنسية خبراً جاء فيه أنّه ومنذ ثلاثة أيام "والجماهير المحتشدة في ساحة المرجة تنظر باحتقار إلى جثة فرحان الأتاسي"، وفي 29 شباط / فبراير 1965 نشرت الصحيفة المسائية "فرانس سوار" صورة لهذا المنظر، وكتبت تعليقاً: "اليوم تبدأ في دمشق محاكمة لقضية تجسس أخرى، وهي محاكمة إيلي كوهين الذي تسلّل إلى قيادة البعث".
دمشق: وجوهٌ عمرانية يصعب حذفها
19-03-2015
استمرت عمليات إعدام المجرمين في الساحة حتى السبعينيات من القرن الماضي، عندما قررت السلطات السورية إلغائها ﻷنّها وفق نص القرار الصادر عن وزارة الداخلية آنذاك "طاردة للسياح ومرعبة للأطفال"، ولكنّ هذا القرار المتأخر عملياً لم يغيّر من وضعية الساحة نحو اﻷفضل.
التحولات اﻷخيرة
على الرغم من بقاء العمود الشهير في طرف الساحة حالياً، طرأ على تصميمها ومحيطها البصري كثيرٌ من التغيرات بفعل عمليات الهدم والتوسع العمراني في المنطقة القريبة من دمشق القديمة، مطمع حيتان العقارات في أحياء العاصمة المركزية. ويمكن ﻷي مراقب أن يلاحظ أنّ اﻷبنية الحديثة المجاورة للساحة تفتقد ﻷدنى درجات الجمال وتكاد تكون وفق قول المؤرخ مبيض "من النمط السوفياتي" اﻷجرد، مثل بناء الفراديس وبرج دمشق، في حين أُهملت الأبنية الأنيقة المتواجدة في جوارها، مثل بناء العابد التاريخي، ودون أن يكون هناك تصور بصري للساحة في المخططات التنظيمية للمنطقة.
إلى جوار هدم مبنى البلدية، اجتاحت المنطقة حمى هدم اﻷسواق القريبة منها، بما فيها اﻷسواق الأثرية، إذ هدم "سوق القرماني" الأثري وأُزيل بكامله، ونشأت كتل من الاسمنت بجوارها وفنادق رخيصة من ذوات النصف نجمة، وهذه اﻷخيرة كما يشير المؤرخ السوري سامي مروان المبيض "تحوّلت مع الوقت إلى بيوت بغاء، لا يرتادها إلّا أبناء الطبقة الفقيرة من السيّاح وأهالي البلد".
ومما يلاحظ أنّ عمليات توسع مدينة دمشق خارج المساحات المعروفة (خارج المخطط التنظيمي الذي ظهر في الستينيات الفائتة) ساهمت في خلق ساحات جديدة امتدّت إليها دمشق الحديثة، استخدمتها السلطة بديلاً عن الساحات القديمة المرتبطة بعهود سابقة قد تمثل للسلطة الحالية مشكلة بطريقة ما، كأن تستحضر نضالات السوريين ضد الاستبداد والنضال ﻷجل الحرية والديمقراطية، وهذا قد يفسّر ظهور ساحة اﻷمويين مركزاً للمسيرات الموالية للسلطة الحالية في دمشق بدلاً عن ساحات أعرق في العاصمة شهدت تظاهرات ضد السلطة في سياق ما سمّي "الربيع السوري".
كما يفسّر هذا التوسع والاعتماد على ساحات أخرى، إهمال ساحة المرجة وغيرها من الساحات العمومية في العاصمة، غير المفضّلة في ذهنية التفكير السلطوي. وإلا كيف نفسّر التغاضي عن انتشار تجارة بيع الجنس في محيط تلك الساحة بما تمثله من نقيض في الذهنية الجمعية لقيم مجتمعية عليا لمجتمع محافظ مثل المجتمع الدمشقي، وحتى أيضاً بما تمثله من علامات على تدهور اجتماعي واقتصادي للمنطقة من مركز حضاري وسياسي إلى آخر يعج حالياً بالفوضى وبخليط عجيب من المهن...
على امتداد البلاد، وفي مناطق مختلفة كان هناك اشتغال على تغييب أماكن لصالح أماكن أخرى أقل أهمية تاريخياً وأكثر حضوراً في حسابات السلطة، ومن النادر اليوم أن تجد ساحةً سوريةً لم تتعرض لنوع من التشويه البصري أو المعماري، في حين ظهرت ساحات أخرى تستخدم رموزها الحالية لتعميم فكرة حضورها الخفي أمام الناس، واﻷمثلة كثيرة، وتحتضن دمشق العديد منها كما أشرنا، تتبعها غالبية المدن المركزية اﻷخرى. ولعل ساحة العاصي بحماة من الساحات الناجية من هذا التحول المجتمعي ـ السياسي المقصود أو غير المقصود.
1- وفق الفيلسوف وعالم السوسيولوجيا الفرنسي هنري لوفيفر في "الحق في المدينة"
2- وفق المؤرخ الفرنسي بيار نورا