مدينة الثورة في بغداد: خزّان الدم

في ظهيرة العشرين من شباط / فبراير 1999 وقف قصي صدام حسين على جسر يربط مدينة الصدر ببقية بغداد وراح يقول للحرس الخاص، وهم نخبة الحرس الجمهوري: "إن لم تهدأ الأوضاع، أريد أن أقف في مكاني هذا وأُشاهد السدة"، في إشارة إلى محو المدينة عن بكرة أبيها. كان هذا المربع المرصوف بدقة على هامش بغداد آنذاك يسمى "مدينة صدام" بعد أن كان اسمه "مدينة الثورة" على مدى عقدين من عمره
2016-03-24

زاهر موسى

شاعر وإعلامي عراقي


شارك
من دفتر:
مدن العراق
ملاك الشاذلي - مصر

في ظهيرة العشرين من شباط / فبراير 1999 وقف قصي صدام حسين على جسر يربط مدينة الصدر ببقية بغداد وراح يقول للحرس الخاص، وهم نخبة الحرس الجمهوري: "إن لم تهدأ الأوضاع، أريد أن أقف في مكاني هذا وأُشاهد السدة"، في إشارة إلى محو المدينة عن بكرة أبيها. كان هذا المربع المرصوف بدقة على هامش بغداد آنذاك يسمى "مدينة صدام" بعد أن كان اسمه "مدينة الثورة" على مدى عقدين من عمره بدءاً من ثورة 1958 التي قضت على الملَكية، وقبل ذلك كبيوت من صفيح باسم "خلف السدة" إشارة للنهر القريب، ليتحوّل بعد الغزو الأميركي للعراق في نيسان / أبريل 2003 إلى "مدينة الصدر".

مخطط عمراني بارد

لم يكن أهل "الثورة" أو "الصدر" يحلمون أن يتصدروا عناوين الأخبار يوماً، ليس لأن مدينتهم غير مثيرة للاهتمام، بل لأنها من أسرار بغداد المكتومة في ظل حكم حزب البعث. فهي الخزّان البشري الذي لا ينضب في الحروب، والشوارع الخلفية التي احتضنت الحركات السياسية المعارضة في سجن من دون قضبان. بعد الغزو سرقت الكاميرات حياة المدينة ذات الثمانين ألف بيت. جاء هذا بالتزامن مع مواجهات القوات الأميركية وجيش المهدي (الجناح العسكري للتيار الصدري) وسلسلة أحداث العنف الطائفي في بغداد أعوام 2006/ 2008.
المؤرخة المعمارية الهولندية ميشيل بروفوست تحدثت عن مصمم مدينة "الثورة"، مخطط المدن اليوناني قسطنطينوس دوكسيادس الذي اعتمد على ما سمي آنذاك بـ "أوكستيك" أو علم المستوطنات البشرية، وهو تعبير يشير إلى مدن ليس متاحاً لها أن تنمو بصورة طبيعية وبحسب احتياجاتها للمواصلات والمنافذ الحيوية، بل يفترض - بحسب اليوناني دوكسيادس مصممها - أن تكون مخطط لمستقبلها أيضاً. يبدو تاريخ "مدينة الثورة" السياسي هكذا، وقد صُمِّم هو أيضاً كي تكون سجناً أو حيزاً مراقَباً من قبل الأنظمة السياسية المتعاقبة، وهو ما يظهر في عام 1991 وفي عام 1999 أو في السنوات الأربع بين 2006 و2010 حيث حوصرت المدينة بشكل سهل وأُخمدت انتفاضتها الواحدة تلو الأخرى.
تقول بروفوست "الإجابة تكمن في الطبيعة العقلانية الصارمة لهذا المخطط والطريقة التي عرض فيها دوكسيادس عمله بصفته عِلماً خالصاً. فكان يستعرض خططه على شكل شبكات جاهزة وجداول ورسوم بيانية ونماذج شديدة الموضوعية جملةً وتفصيلاً، وخالية تماماً من أيّ لمسة شخصية أو جمالية".
وضع دوكسيادس مخططه عام 1958 مع الحقبة الجمهورية وصعود عبد الكريم قاسم. كان قاسم بحاجة إلى أنصار مستقرين في بغداد وكان "الشروگ" (من "الشرق"، وهو مصطلح يشار به إلى سكان ميسان والناصرية وبعض أهل البصرة) هو الاسم الأشهر للنازحين في بغداد، وهم الأجدر لهذه المهمة. كان شمال شرق بغداد والرصافة باتجاه محافظة ديالى مكاناً خالياً إلا من آبار نفط ضئيلة المحتوى ومبازل للماء وحقول لزراعة الخضروات تفصلها عن بعضها البعض مسافات شاسعة ووعرة. هذه المنطقة شهدت مشروع إسكان "الشروگ" الأكبر الذي اشرفت عليه الشيوعية نزيهة الدليمي، وزيرة البلديات والأشغال في 1959، والذي سمي لاحقاً بمدينة الثورة أو صنيعة دوكسيادس، الذي وصف نفسه مرة بأنه "مجرم عمراني".

تدمير الزراعة ونزوح "الشروگ"

من أين أتى "الشروگ" ؟ مع هذا السؤال يُذكر حقيقة مفادها أن عالم الاجتماع العراقي علي الوردي الذي كتب عن المجتمع العراقي الكثير وتوفي مطلع التسعينيات، لم تمر بقلمه يوماً كلمة مدينة "الثورة" برغم أنه كتب عن نزوح الريف إلى المدينة مراراً. في الحقيقة يعود نزوح سكان أهوار ميسان والناصرية إلى العاصمة بغداد إلى مشروع سد الكوت الإروائي والذي أشرفت عليه الشركات البريطانية وتم افتتاحه عام 1939. قام السد، الذي وفّر ماء الري والكهرباء لمحافظة واسط، بحجب الطمي اللازم لزراعة الرز عن حوض الغراف والأهوار. بدأ مزارعو المناطق المتضررة بالهجرة نحو بغداد سعياً لإيجاد مصدر للرزق، وتجمعوا على هامش الحدود الإدارية لبغداد في الكرخ والرصافة في الأربعينيات والخمسينيات ومطلع الستينيات، عبر بناء بيوت طينية مدعمة بعلب القصدير لتبدأ قصة "الشروگ" في بغداد مذّاك.

الفلاحون - الجنود

بقيت مدينة "الثورة" منذ اكتمال توزيعها على النازحين "الشروگ" وعلى عدد لا بأس به من الأكراد الفيَليين الشيعة، أواسط الستينيات وحتى مطلع الثمانينيات من دون إسفلت. كانت الشوارع الطينية ومشاريع الصرف غير المنتهية بالإضافة الى المبازل القديمة تجعل الحياة صعبة وجاهزة للغليان والتفجر دائماً، خصوصاً أن أغلب سكان المدينة كانوا يميلون للشيوعيين المنكسرين آنذاك. جاء صدام حسين، الصاعد إلى السلطة بانقلاب أبيض أعقبته أنهار من الدماء، بالإسفلت إلى المدينة واكتشف أن الطريقة الوحيدة للسيطرة على سكانها تأتي بحشرهم في معركة مع النظام الإيراني. بدأت الأمور بتغيير اسم المدينة إلى "مدينة صدام"، ومن ثم زيادة عدد أفرع حزب البعث فيها، وتأسيس مديريتين للأمن الذي كان قد اكتسب سمعة رهيبة آنذاك: مديرية أمن في منطقة البلديات شرقاً، وأخرى في منطقة الطالبية جنوباً، مع معسكرات للجيش في الشمال والشمال الغربي، ليحاصر المدينة أمنياً وعسكرياً بشكل كامل. بدأ سَوْق الشيوعيين المهزومين والمواطنين الأميين إلى المعركة تحت مسمى "الجيش الشعبي" بالإضافة إلى استيعاب الجيل الجديد في الجيش العراقي، لتتحمل هذه المدينة الفاتورة الأكبر في حرب السنوات الثماني.
وعلى الرغم من قسوة تلك السنوات، إلا أن مدينة الثورة ازدادت زخماً سكانياً فتضاعف عدد أهلها خمس مرات في خمسة عقود. وعلى الرغم من قطع القماش السوداء التي كان يُخط عليها باللون الأبيض نعي شهداء الحرب، وبقيت ملمحاً ثابتاً من ملامح المدينة، وخصوصاً في ساحة مظفر (يعود اسم الساحة الى اسم طبيب أخطأ في تشخيص أحد مرضاه فاضطر إلى مغادرة العراق)، حيث الشارع الذي يقسم الأحياء إلى قسمين.. إلا أنها قدمت غالبية المطربين والملحنين والعازفين وممثلي الدراما والمسرح ولاعبي كرة القدم وشعراء الفصحى والعامية، وكانت اليد العاملة التي تضج بغداد بنشاطها يومياً تندفع من أزقة هذا الكانتون.

الإسلام السياسي

وفي مطلع الثمانينيات كذلك، بدأ التغير الإيديولوجي يتضح شيئاً فشيئاً في مدينة الثورة، باتت ملابس النساء أكثر تقليدية والجوامع أصبحت رموزاً لمعارضة النظام. آل المبرقع وهي عائلة من الأشراف، كانوا يمثلون حزب الدعوة عبر جامع هم أئمة الجماعة فيه، دخلوا في مواجهة مباشرة مع النظام الذي أعدم العشرات منهم في وقت قصير، وتمّ استعراض جثثهم في شوارع المدينة مما ترك أثراً عميقاً لدى السكّان. كان الموت بهذا الشكل هو النمط الذي جذب مدينة النازحين نحو الإسلام السياسي حتى باتت قلعة من قلاعه.
كانت الأحزاب الإسلامية تنمو في أحشاء المدينة التي تنقسم على نفسها كثيراً، البيوت أصبحت أنصاف وأرباع بيوت والعوائل تزداد، انفجار سكاني تضخمت معه هواجس الإقصاء والقمع من قبل السلطة. تفجرت الأمور عام 1991 مع انتفاضة آذار/ مارس إثر الهزيمة في الكويت، وبدا للجميع أن هذه المدينة يمكنها أن تبتلع العاصمة بزخمها الهائل. انتبه صدام ونظامه إلى مستوى التهديد الذي يمثله "الشروگ" على وجه الخصوص، وبادر إلى استيعاب إيمانهم بحملة أراد منها كشف التنظيمات الإسلامية الدفينة ووضعها تحت الضوء. قام بإعدام فاضل البرَّاك عام 1993 الذي كان مسؤولاً مباشراً عن إعدام محمد باقر الصدر عام 1979، وجاء إعدام البراك في سياق مصالحة الشيعة وترطيب الأجواء معهم. كما قام صدام، وفي السياق نفسه، برفع مستوى بعثيين شيعة مثل سعدون حمادي ومحمد حمزة الزبيدي، الذي اختاره رئيساً للوزراء. إلا أن الإجراء الأهم هو فسح المجال للحوزة العلمية في النجف بالتحرك المحدود في مجال التدريس والطباعة. غير أن صعود محمد محمد صادق الصدر (والد مقتدى) كان التغيير الأبرز والأهم والذي ألقى بظلاله على المدينة.
آنذاك، أفرزت مدينة الثورة التي توشك أن تكون مدينة الصدر، من بين مجموعة فئات، تجاراً صغاراً استطاعوا ملء الفراغ الذي خلّفه هروب رؤوس الأموال التقليدية في مرحلة الحصار في أسواق بغداد الرئيسية مثل "الشورجة" و "علوة جميلة". هؤلاء التجار هم الجزء الذي كان ينقص الحركات السياسية المعارضة دائماً في هذا الجانب من بغداد والعراق.
عاش محمد محمد صادق الصدر عزلة كبيرة بعد فترتي سجن في الثمانينيات ومطلع التسعينيات، ولكنه وجد الفرصة سانحة مع فسحة النشر والتدريس ليعلن عن مرجعيته (التي سُميت "مرجعية الميدان" تمييزاً لها عن المرجعية التقليدية)، وعن صلاة الجمعة التي يقودها من مسجد الكوفة، ليصبح شكل تياره واضحاً ومميزاً ومهدِّداً للنظام. مدينة الثورة أو صدام كانت المكان الذي أصبح حصناً للصدر وأتباعه. البيوت الصغيرة المحشورة في رئة بغداد أصبحت خلية نحل للمعارضين من مقلِّدي الصدر في ظل غياب مشاركة أتباع علي السيستاني وجماهير حزب الدعوة والمجلس الأعلى في ثورة مقبلة لم تكن واضحة المعالم من وجهة نظرهم.
أعقب اغتيال الصدر عام 1999 والمجازر التي تلته غليان تمثل في استهداف البعثيين وضباط الأمن. تاب المجرمون وأعضاء العصابات وانخرطوا في حياة المتدينين، وأصبح أحد المطربين مؤذناً، فيما بات أحد الملاكمين أبرز شهداء مدينة النازحين في معتقلات الأمن. وعلى مدى السنوات التي أفضت إلى سقوط النظام على يد الأميركان، لم تهدأ المدينة التي استيقظ أهلها يوم الغزو الأميركي ليجدوا الجدران قد امتلأت بعبارة "مدينة الصدر" وهو الاسم الثالث في تاريخها الذي يكرس مرحلة جديدة.
في مرحلة ما بعد الغزو، بات واضحاً الطابع الديني للمدينة. اختفت محال تأجير الآلات الموسيقية واستوديوهات مطربيها المشاهير مثل كريم منصور وحسن بريسم وجوقة المطربين الريفيين الذين سكنوها. فرق الزنوج الذين يسكنون قطاع 17 والمشهورون بالرقص اختفوا. الأعراس خلت من علب البيرة التي كانت تشيع قبل عقد ونصف في أمسيات هذه الأزقة، وأصبح انتشار السلاح والعنف أمراً طبيعياً. جاء عام 2003 لمدينة الصدر بمشروع مقاومة الاحتلال الأميركي على يد مقتدى الصدر وريث والده في قيادة تيار عريض يمتد على طول العراق، وكان من قدر المدينة أن تواجه العمليات العسكرية ثلاث مرات في سنوات 2004 و2005 و2007. لكن الجزء الأهم من قصة ما بعد الغزو بالنسبة للمدينة كان يتمثل بـ "جيش الإمام المهدي" وهو الفصيل المسلح الخاص بالتيار الصدري والذي قاد المواجهات ضد الاميركان وحكومتي أياد علاوي ونوري المالكي. كان جيش المهدي طرفاً في صراع طائفي مرعب عقب تفجير ضريح الإمامين العسكريين في سامراء حيث أدت المواجهات الطائفية إلى إضعاف نفوذ التنظيمات الإرهابية بما فيها "القاعدة" في بغداد. إلا أن التيار الصدري وبعد صراع مضن مع الأميركان ذهب بدوره نحو الانقسام لأكثر من مرة.
مع انتصاف عام 2014 وظهور تنظيم داعش كمحتل لمدن كبرى مثل الموصل، استنفرت مدينة الصدر خزّان الدم فيها كالعادة، وتسابق سكانها ممن ينتمون للفصائل المسلحة التي تشكل بمجموعها "الحشد الشعبي" للقتال بعيداً عن الأزقة الصغيرة التي تربوا فيها. عادت قطع القماش السوداء لتخفي صور مرشحي مجلسي النواب والذين لم يقدموا شيئاً يذكر لمدينتهم.

للكاتب نفسه