نجوى الكبيرة

تحوم نجوى الصغيرة حول جدّتها، نجوى الكبيرة. تتفقّدها، تلمس أقدامها، تضحك وتصرخ وتبتعد عنها ثم تلتف حول الكرسيّ لتحاول أن تدفع العجلات وتأخذ جدّتها المُقعدة "باي". ابنتي التي بدأت لتوّها تمشي وصار لحذائها اسم خاص به، مشغولةٌ طول النهار باكتشاف السر الذي يجعل جدّتها، أمّي، غير قادرة على الترجّل مثلنا كلّنا. حين تجتهد نجوى الصغيرة لتتسلّق أقدام جدّتها لتجلس في حضنها، تجتهد الجدّة بالقدر
2016-03-10

رقيّة الحاج محسن

كاتبة من فلسطين


شارك
حسان زهر الدين - لبنان

تحوم نجوى الصغيرة حول جدّتها، نجوى الكبيرة. تتفقّدها، تلمس أقدامها، تضحك وتصرخ وتبتعد عنها ثم تلتف حول الكرسيّ لتحاول أن تدفع العجلات وتأخذ جدّتها المُقعدة "باي". ابنتي التي بدأت لتوّها تمشي وصار لحذائها اسم خاص به، مشغولةٌ طول النهار باكتشاف السر الذي يجعل جدّتها، أمّي، غير قادرة على الترجّل مثلنا كلّنا. حين تجتهد نجوى الصغيرة لتتسلّق أقدام جدّتها لتجلس في حضنها، تجتهد الجدّة بالقدر ذاته لتمد يدها المرتجفة بشدّة وتعاون حفيدتها على الصعود. قبل أيام انتبهت – لأوّل مرّة – للتشابه الرهيب بينهما. ليس بالشكل، لا، نجوى طالعة لأبيها. لكن بمقدرات الجسد المتكافئة وابتعادهما المتساوي عنّ منتصف الحياة: ذاكرتهما القصيرة جداً، جسداهما اللذان يشغلهما تغيّرهما، كلامهما غير المفهوم ومفاجأتنا نحن، أنا وأخوتي الخمس، من الكلام العجيب الذي يخرج من فميهما ويُضحكنا دون أن نتوقّعه. قلقهما من الوِحدة متشابه، وهاجس جذب الانتباه الدائم، فالطفلة تضرب قنّينتها بالأرض لو انشغلتُ عنها دقيقةً، والعجوز توقع الملعقة أرضاً. كيف انتبهت إلى هذا التشابه؟ كنّا نعلّم الصغيرة أسماء الحيوانات بينما جلست جدّتها تحدّق بالنافذة المُطلّة على خليج حيفا لساعات طويلة. يومها، قال إبني يوسف، وهو بالصف العاشر: "يمّا، مش يمكن إذا منعلّم ستّي زي م منعلّم نونو، ترجع تعيش عمر جديد؟".

لماذا أخرست يوسف؟ ربما لأنه تحدّث عن عمر أمّي المنتهي كتفصيل مفهوم ضمناً، وربما لأنه بمراهقته الوقحة، يعتقد أنه يستطيع أن يُعلّم هذه المرأة الصامتة. هذا الوغد الصغير الذي لم يضرب بحياته معولًا في الأرض يُريد أن يعلّم جدّته. حين أجتمع وأخوتي (ذكور كلهم) في البيت، ويحتدم بينهم النقاش السياسيّ ويتحوّل صراخاً وشجاراً عن سوريا أو انتخابات البرلمان الإسرائيليّ، تكون هي جالسة في كرسيها وتنظر إليّ، وحين تلتقي عيناي بعينيها تضحك طويلاً. هذه الضحكة وحدها يا جحش – أردت أن أقول لولدي يوسف - تخبّئ ما لن تفهمه أنت بمئة عامٍ على الفيسبوك.
لقد قضت هذه المرأة عمرها وهي تفعل شيئاً واحداً: تُخبّئ ما تعرفه.

كانت تخبّئ عن أبي وهي تعرف أنّ ابراهيم إبن صفّي يُحبّني وأحبّه وبيننا مراسلات ومواعيد. ورغم أنها كانت تُهددهم ليمتنعوا، إلا أنها بحياتها لم تُفصح لوالدي عن أن أبناءها يدخّنون السجائر ويشربون كونياك الـ "ثلاث سبعات". أمّي، نجوى، لم تحكِ يوماً عن حُزنها العميق على زواج إخوتي وانتقالهم، كلّهم، إلى حيفا. تفهّمتْ: كانت تعرف أن الأمل معدوم في القرية التي لم يبقَ فيها مساحة للتنفّس أو للتطوّر، لا مدرسة تؤتمن على أولادهم ولا عيادة طبيب. وكانت تكره وتغضب وتسخط، بتكتمٍ شديدٍ شديد، كلما جاء أولادها ونساؤهم لزيارتها وعادوا إلى حيفا محمّلين بزيت الزيتون الذي لم يتعبوا فيه ولم يزبّلوه ولم يعشّبوا حوله ولم يقطفوه ولم يقفوا في البّبور ليالي ليُشرفوا على عصره. كانت تلعن حيفا، وأبو يللي عَمّر حيفا، ومع المدينة كانت تشتم زوجات إخوتي رغم أنهن، ليس كلّهن طبعاً، حسناوات ومن بيوتٍ مُحترمة. وكانت تخبّئ حُزنها على البيوت الخالية التي باع زوجها قطعةً من الأرض ليعمّرها لأبنائه فوق وتحت وخلف وبجانب بيتهم، حتّى أنه اقتطع نصف بيتها الشرح ليفصل في قسم منه بيتاً للأخ الخامس. كانت تدفن حزنها عميقاً على الأرض التي بيعت، وعلى اضطرارهم لتأجير البيوت لغرباءٍ ليسوا من القرية: "عُمرك سمعت عن حدا في بلدنا أجّر داره؟".

يومها حكت. نظر إليها أبي باستهتار، فعادت إلى سكوتها الذي لم يغادرها منذ عقود. لم يغادرها منذ تزوّجت أبي الذي صارحها بغلاظة يوم زفافهما بأنه كان يُريد طلب يد أختها، لكن أمّه رحمها الله أخطأت بالإسم. لكنّه رغم جلافته كان رجلًا لا بأس به. وهي حين تتحدّث عنه لا تحكي إلا الخير، وتتذكّر كيف أخذها إلى غزّة. كانت تخبّئ طقم الصحون الصيني الذي اشترته من غزّة، تنظّفه ولا تسمح حتى لابنتها الوحيدة، أنا، أن تستخدمه أبداً. أظن، والله أعلم، أنها أُعجبت بالبائع حين اشترته وأنها شعرت، لأول مرة في حياتها، أنها تبدو جميلة بعيون شخصٍ ما. لماذا أعتقد ذلك؟ لأنها تقول دائماً أن بحر غزّة أشلب من بحر حيفا، ولأنها تردد دائماً، كلما انفتح النقاش عن الحصار البربري على قطاع غزّة وصمود المقاومة فيها، أنها لا تفهم علام الشوشرة: "مَا بُكرا بترجع تفتح...".
كنتُ ابنتها الوحيدة، وما كان أي من أخوتي يفهم ما يدور في ذهن أم قاسم. وما حكته لي، لم يعرفه رجل في الحياة: كانت تعرف أن عمّي الكهل "يُحسمس" على بنات أولاده، وكانت تعرف من هو الوحيد الذي تجرّأ في حارة الخطيب كلّها أن يصوّت لمرشّح العائلة المنافسة في انتخابات المجلس المحليّ: هي التي فعلت. وهي التي ظلّت صامتة ساكنة واقفةً حين دخل الجيش بيتنا وسألها أين يختبئ قاسم الذي انضم للجبهة الشعبيّة، وهي التي حبست دمعتها حين أعاثوا في بيتنا خراباً انتقامياً، وكسّروا طقم الصحون الصيني. وحين شاهدت على التلفزيون فيلماً وثائقياً عن يوم الأرض بعد الأحداث بثلاثين عاماً، يتحدّثون فيه عن أحجية المرأة المنقّبة التي شجّت رأس ضابط المخابرات – كابتن فهد- بالمعول واختفت. ظلّت هادئةً ولم تهتف: أنا!
لكن ابني البكر، حبيبي يوسف الذي صار قدّ الجحش، لا يعرف ذلك كلّه. معلِش، لا يزال ولداً. وهو ولد طيّب، يحب جدّته ويساعدني في البيت كثيراً، ويهتم بأخته نونو: "يمّا، نونو نامت بحضن ستّي، أروح أقيمها؟".
"أتركها" قلت له – "بعد شوي بتفيق لحالها".

مقالات من فلسطين

إرهاب المستوطنين في الضفة الغربية تحوّل إلى "روتين يومي"... استعراض عام لتنظيمات المستوطنين العنيفة!

2024-04-18

يستعرض هذا التقرير إرهاب المستوطنين، ومنظماتهم العنيفة، وبنيتهم التنظيمية، ويخلص إلى أن هذا الإرهاب تطور من مجرد أعمال ترتكبها مجموعات "عمل سري" في الثمانينيات، إلى "ثقافة شعبية" يعتنقها معظم شبان...

غزة القرن التاسع عشر: بين الحقيقة الفلسطينية والتضليل الصهيوني

شهادة الكاتب الروسي ألكسي سوفورين الذي زار غزة عام 1889: "تسكن في فلسطين قبيلتان مختلفتان تماماً من حيث أسلوب الحياة: الفلاحون المستقرون والبدو المتجوّلون بين قراها. الفلاحون هنا هم المزارعون....