حرفٌ على جلد غزال: من سيرة هدر الثروات في اليمن

بدل الجلد للحذاء، تحولت الاقدام إلى البلاستيك والمطّاط، وقد انشأت ثلاثة مصانع للأحذية البلاستيكية والمطاطية. وكانت كل احتياجات اليمنيين من الأحذية الجلدية تستورد من خارج البلاد، بينما يصدّرون ثروتهم من الجلود الخام إلى إيطاليا، هولندا، إسبانيا وسوريا. وهكذا يستمر هدر الثروات الوطنية في بلد يصنّف ضمن الأكثر فقراً، ومؤخراً بالأشد جوعاً!
2022-03-31

لطف الصَّرَاري

قاص وصحافي من اليمن


شارك
دباغة الجلود في اليمن

لا يبدو أن بلداً في العالم لم يعرف سكانه مهارة دباغة الجلود الحيوانية واستخدامها في حياتهم اليومية. إنها إحدى المهارات الأساسية للبقاء، لكن تحويلها إلى صنعة ذات جدوى اقتصادية، يعتمد على توافر عوامل نجاحها: من البيئة المشجعة على ممارسة المهنة إلى الطلب المستمر على المنتج في الأسواق.

في اليمن، كانت مدابغ الجلود ضمن المنشآت التي تشكّل الفضاء الاقتصادي للمدن والبلدات، سيما تلك التي كانت تستضيف الأسواق الأسبوعية. غير أن الصناعة الجلدية بمفهومها الاقتصادي الحديث، ظلت متعثرة وخارج الاهتمام الحكومي، على الرغم من المحاولات التي لا تكاد تذكر مقارنة بالإمكانيات الطبيعية المتوفرة لهذه الصناعة في البلد.

وكعادة الأحداث الكبرى التي تفرض تأثيرها على كافة جوانب الحياة، لا يمكن القفز على تأثير ثورتي 26 أيلول/ سبتمبر في شمال اليمن، و14 تشرين الأول/ أكتوبر في جنوبه، على اقتصاد البلاد، إيجاباً وسلباً. وفي حين تشير "الموسوعة اليمنية"(1)  إلى إنشاء أول مصنع للجلود في شمال اليمن عام 1963، بمساعدة جمهورية يوغسلافيا، بطاقة سنوية تقدّر بألفي طن، لا يوجد لهذا المصنع ذكر الآن. ربما أتت عليه حرب السنوات الثمان بين الجمهوريين والملكيين (1962-1970).

في الجنوب، اهتمت الجمهورية ذات التوجه الاشتراكي بالتصنيع تبعاً لوتيرة الاستقرار السياسي بعد حرب الاستقلال (1963-1967)، لكن "مصنع الأحذية الجلدية" لم يُنشأ سوى في العام 1976. على أن الصناعات الجلدية ودباغة الجلود كانت موجودة قبل ذلك - في الجنوب كما في الشمال - وإنْ في هيئة منشآت أكثر من كونها مؤسسات صناعة آلية، وكانت الطاقة هي العائق الأكبر أمام دوران الآلة الصناعية. في منتصف عقد السبعينات من القرن الماضي، كانت حكومة الدكتور عبد العزيز عبد الغني في الشمال، تدرس إمكانية تنفيذ دراسة طلبتها من برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، لسدّ احتياج السوق اليمنية من خلال صناعات جلدية محلية. وفي خلاصتها ذكرت تلك الدراسة أنه كان "هناك آفاق تسويق محلية للأحذية الجلدية...، وإمكانيات تصدير للجلود شبه المصنعة"، وأن "هناك مستقبل مضمون لتوسيع هذه الصناعة إلى تصنيع الأحذية وسلع جلدية أخرى من المواد الخام المحلية".

القدم التي لم تستعد حذاءها

حتى ذلك الوقت، كانت غالبية اليمنيين لا يزالون يعانون من ندرة الأحذية بعد قرون من الحكم الإمامي والسلاطيني الذي كان يستكثر الأحذية على أقدامهم، حتى أن السير حافياً كان هو المظهر الاعتيادي للرجال والأطفال، خاصة في الشمال. ومع الانفتاح النسبي الذي وفّرته الجمهوريتان على العالم الخارجي، كان قادتهما يشعرون بالخجل إزاء استمرار لامبالاة الناس بارتداء الأحذية وقد تحولوا من مجرد رعايا إلى مواطنين، وإن كان ذلك اسمياً أكثر منه فعلياً.

يذكر مؤلف "تاريخ مدينة صنعاء"، أحمد عبد الله الرازي، الذي عاش في القرن الحادي عشر الميلادي، أن المدينة كان بها 33 مدبغة للجلود، وهو نفس العدد لمطاحن أوراق شجرة "القَرَض"، المادة الرئيسية المستخدمة في الدباغة. 

في تفاصيل الدراسة الأممية القديمة، كانت تقديرات الكميات السنوية الممكن توفرها من الجلود الخام هي: 200 ألف قطعة من جلود الأبقار، مليون و320 ألف من الضأن، و880 ألف قطعة من الماعز. هذه الأرقام تخصّ ثلاث محافظات فقط، هي صنعاء، تعز والحديدة، مع إشارة إلى أن الأرقام الفعلية قد تكون أعلى من ذلك، لأن قرابة 70 في المئة من جلود المواشي كان يتم سلخها في القرى. حينها كانت المدن لا تزال في بداية توسعها العمراني الذي اتّسم، على أية حال، بالعشوائية وهدر المساحة. تلك سيرة أخرى للهدر في "البلاد السعيدة"، وما يهمنا هنا ليس الأرض بل القدم التي آلت جهود استعادتها للحذاء، إلى البلاستيك والمطّاط بدلاً من الجلد.

مقالات ذات صلة

  في المحافظات الثلاث كانت ثلاثة مصانع للأحذية البلاستيكية والمطاطية قد أنشئت بالفعل عندما أجرى خبير الأمم المتحدة محمد أبو الخير دراسته تلك. معظم منتجاتها كانت من الأحذية النسائية، لأن اليمنيين مع كل ما عانوه من الفاقة وتلاشي فقدانهم الاهتمام بأقدامهم، لم يفقدوا الاهتمام بأقدام نسائهم. كان عدد سكان الشمال في ذلك الوقت يقدر بستة ملايين نسمة، ولديهم ما يقارب 12 مليون رأس من الأبقار والماعز والضأن. وتشير الدراسة ذاتها إلى أن كل احتياجاتهم من الأحذية الجلدية كانت تستورد من خارج البلاد، بينما يصدّرون ثروتهم من الجلود الخام إلى إيطاليا، هولندا، إسبانيا وسوريا.

لم يكن تصدير ثروة اليمن من الجلود الخام إلى الخارج طارئاً حينذاك، وهو لم يتوقف حتى اليوم، على الرغم من أن دراسة المنظمة الأممية أسفرت عن إنشاء مصنع للجلديات في صنعاء ضمّ ملّاك المدابغ السبع المتبقية في محيطها الريفي. وللمفارقة، يذكر مؤلف "تاريخ مدينة صنعاء"، أحمد عبد الله الرازي، الذي عاش في القرن الحادي عشر الميلادي، أن المدينة كان بها 33 مدبغة للجلود، وهو نفس العدد لمطاحن أوراق شجرة "القَرَض"، المادة الرئيسية المستخدمة في الدباغة.

  في الحُديدة، أنشأ رجل أعمال مصنعاً آخر مطلع ثمانينات القرن العشرين، لكن المصنع لم يعد ينتج أي مصنوعات جلدية، وما بقي من نشاطه حالياً يقتصر على قسم الدباغة فقط، لغرض تصدير الجلد الخام. في تعز، كان المجال الاستثماري أكثر ملاءمة للصناعات البلاستيكية، وأكثر منها للصناعات الغذائية الخفيفة، أما في عدن ومدن الجنوب، فقضى فساد النافذين بعد الوحدة على "تعاونية عدن" للصناعات الجلدية وعلى مصنع الجلديات المنشأ في العام 1976، وكلاهما كانا مؤسستان حكوميّتان ضمن عشرات المصانع التي تمّ تجريفها خلال جائحة الخصخصة أواخر تسعينات القرن العشرين ومطلع الألفية الثالثة، وتمت تصفيتها من الملكية الحكومية، إضافة لتغيير أنشطة بعضها.

ثورة أخرى ودراسة أخرى

تكاد الدراسات الاقتصادية المختصة بصناعة الجلود في اليمن أن تكون منعدمة أو أنها حبيسة الخزانات والأدراج إذا ما افترضنا توفّرها. إلى جانب الدراسة الأممية الخاصة بإمكانيات تصنيع المنتجات الجلدية في الشمال، هناك دراسة أخرى نفّذها ثلاثة خبراء: تونسي ويمنيّان. تفصل بين الدراستين 37 سنة، وإذا كانت الأولى استغرقت أربعة أشهر، فقد استغرقت الثانية خمسة أيام!

في دراسة أممية جرت في السبعينات الفائتة، كانت تقديرات الكميات السنوية من الجلود الخام هي: 200 ألف قطعة من جلود الأبقار، مليون و320 ألف من الضأن، و880 ألف قطعة من الماعز. والأرقام تخصّ ثلاث محافظات فقط، هي صنعاء، تعز والحديدة، بينما الأرقام الفعلية قد تكون أعلى، لأن قرابة 70 في المئة من جلود المواشي كان يتم سلخها في القرى.

في نهاية آذار/ مارس وبداية نيسان/ أبريل 2013، استقدمت "حكومة الوفاق"، التي تشكّلت بموجب "المبادرة الخليجية" أثناء ثورة شباط/فبراير 2011، الخبير في "المركز الوطني للجلود والأحذية" بتونس، عبدالستار التومي. كان ذلك بناءً على طلب "المنظمة العربية للتنمية الصناعية والتعدين"، وضمن معونة مقدمة من المنظمة لإنعاش الصناعة الجلدية في البلاد التي كان اقتصادها بأمسّ الحاجة لكل دفقة هواء في رئتيه غير المستقرّتين.

طاف الخبير الإقليمي برفقة "الخبير المحلي" فؤاد عبد الله عبدالخالق، و"النظير الحكومي" علي عبد اللطيف الرامسي، ثلاث محافظات أيضاً، وخرجوا ببعض التوصيات التي لم تختلف كثيراً عن توصيات الدراسة السابقة. وكما لو أنهم كانوا في مهمة قصّ الأثر لأقدام الخبير الأممي الذي مرّ في سبعينات القرن العشرين، انطلق الخبراء الثلاثة من وزارة الصناعة في العاصمة صنعاء، مارّين من ريفها الغربي وقد صار فيه "مُجمّعاً" لما أطلق عليها "الصناعات الجلدية والكرتون" وشركة أخرى يبدو أنها انفصلت عن الشركة الأولى التي ضمّت ملّاك المدابغ السبع. وفي مساء اليوم ذاته، اتجهوا نحو مدينة الحديدة، حيث تضمن برنامجهم مقابلة المسؤولين في شركتين أُخريين "للصناعة الجلدية والدباغة"، ومسؤولي فروع المؤسسة العامة للمسالخ الحكومية. في اليوم التالي سيتوجهون إلى مدينة تعز، مروراً بالمعامل التقليدية لدباغة الجلود في مدينتي زَبيد وبيت الفقيه، وبعد مقابلة مسؤولي المسلخ الحكومي في تعز، سيعودون إلى صنعاء العاصمة، وسيكمل الخبيران اليمنيان إعداد الدراسة في صورتها النهائية.

   ركزت هذه الدراسة على ثلاثة محاور رئيسية: الدباغة، صناعة الأحذية والمصنوعات الجلدية، والقطاع الحرفي. وبحسب إفادة الخبير التونسي في متنها، "لم تتوفر أي دراسة [حتى ذلك الوقت] تتناول واقع قطاع الجلود في اليمن بإطاره الكلي من منظور مكوناته الأساسية - البنية المؤسسية والقوانين".

في التفاصيل، اتفق الخبراء الثلاثة على تحديد الإطار الزمني لدراستهم بسبع سنوات سابقة لها (بين 2005 و2012) وسبع أخرى كنطاق مستقبلي (بين 2013 و2020). ومن الأرقام التي تضمنتها التالي:

• 75 في المئة من سكان الأرياف يعتمدون على الثروة الحيوانية في تدبير معيشتهم،

• يسهم قطاع الثروة الحيوانية بما يقارب 20 في المئة من الناتج المحلي الزراعي،

• بين العامين 2009 و2010، ارتفع عدد الثروة الحيوانية من 8 ملايين و439 ألف رأس من الماعز والضأن والأبقار والجمال، إلى 20 مليون و230 ألف رأس من الأنواع نفسها

• في العام 2010، بلغ إنتاج اليمن من الجلود الحيوانية: 12586 طن ومن الصوف 4231 طن،

• تعداد الضأن ارتفع بين 2007-2011 من 8 ملايين و589 ألف، إلى 9 ملايين 357 ألف، أما نسبتها من إجمالي الثروة الحيوانية في البلاد، وفق هذه الأرقام، فبلغت 45.53 في المئة في كلا العامين، مع فارق في 2009، بلغ 57.11 في المئة، وهو ما يعني زيادة في الأنواع الأخرى: الماعز والأبقار والجمال.

• خلال الفترة نفسها، زاد عدد الماعز من 8 ملايين و414 ألف رأس، إلى 9 ملايين و105 ألف، بنسبة 44.61 في المئة و44.31 في المئة على التوالي، مع فرق ملحوظ في 2009، حيث كانت النسبة 55.83 في المئة. 

هناك المزيد من الأرقام عن الثروة الحيوانية في البلد الذي لا يزال ثلاثة أرباع سكانه يعتمدون في معيشتهم على تربية المواشي، ليس في هاتين الدراستين فقط، بل في مصادر أخرى ينقطع نفَس الباحث عنها أثناء تتبعها في النشرات الحكومية والتقارير غير المكرّسة إحصائياً للغرض نفسه (2). ويبقى السؤال: لماذا يستمر هدر الثروات الوطنية في بلد بات العالم يصنّفه ضمن البلدان الأكثر فقراً، ومؤخراً بالأشد جوعاً!

لا يزال المجتمع اليمني محكوماً بتقاليد وأعراف عصية على الترويض، ومنها ما يتعلق بالمهن. فعلى الرغم من تحرر مهن كثيرة من الاحتقار الاجتماعي بفعل التطور التاريخي للمجتمع وعلاقاته الاقتصادية، لا تزال القصابة مهنة محتقرة في الثقافة القبَلية. هذا الازدراء انسحب على المهن المرتبطة بالقصابة، ليشمل دباغة الجلود، وصناعة الأحذية، وإلى حد مّا تجار المواشي الذين يشكّل الجزارون زبائنهم الرئيسيين. 

بالنسبة لثروة الجلود الحيوانية، يمكن أن تعطينا المكانة الاجتماعية للمشتغلين بالدباغة فكرة عن هذا الهدر المستدام لآلاف الجلود التي تُسلخ يومياً. وإلى ذلك، هناك نفور القصابين من الذباحة في المسالخ الحكومية هرباً من التشخيص البيطري لأمراض الحيوانات المعدّة للذبح، ومن منع ذبح الإناث وصغار المواشي، على الرغم من أن هذه العقبات القانونية يمكن تجاوزها بالرشوة.

المكانة الاجتماعية للدبّاغ

 معلوم أن المجتمع اليمني لا يزال محكوماً بتقاليد وأعراف عصية على الترويض، وما يخصنا منها في هذا السياق، هو ما يتعلق بالمهن. فعلى الرغم من تحرر مهن كثيرة من الاحتقار الاجتماعي بفعل التطور التاريخي للمجتمع وعلاقاته الاقتصادية بعد ثورتي سبتمبر/ أيلول وأكتوبر/ تشرين الأول، لا تزال القصابة مهنة محتقرة في الثقافة القبَلية. هذا الازدراء انسحب على المهن المرتبطة بالقصابة، ليشمل دباغة الجلود، وصناعة الأحذية، وإلى حد مّا تجار المواشي الذين يشكّل الجزارون زبائنهم الرئيسيين.

مثل كل المهن المحتقرة اجتماعياً في اليمن، انحصرت دباغة الجلود في عائلات معينة وتوارثها أفراد من هذه العائلات جيلاً بعد آخر، على الرغم من تأثير التحولات السياسية في تسرّب حرفيّيها إلى مهن أخرى أو انضمام أفراد جدد إليها. عادة لا يكون التخلّص من الوصمة الاجتماعية للمهنة سهلاً. ومع إمكانية تغيير المهنة عبر الالتحاق بالتعليم الحديث، كان التسرّب أكثر من الانضمام، حتى وصل الأمر إلى وضع الدباغة في قائمة المهن المهددة بالاندثار.

ومع استمرار تكريس احتقار المهن في البنية الثقافية للمجتمع، تموضعت الحِرف اليدوية في مستويات متفاوتة من الازدراء. على رأس القائمة تأتي المهن التي يتطلب أداؤها ملامسة الدم والفضلات والأوساخ بصورة عامة، كالقصابة والدباغة وصناعة الفخار والأحذية...إلخ. وكل هذا مرتبط أساساً ببنية النظم الاجتماعية القبَلية. ومنذ ستينات القرن العشرين الماضي، لم تفلح ثلاث ثورات سياسية في زحزحة النظم الاجتماعية التي تُحقّر المهن، نحو تحوّل المهنة المحتقرة إلى صناعة وطنية، بما في ذلك ثورة شباط/فبراير 2011.

فعلياً، المشكلة الاجتماعية في اليمن، وفي ما يتعلّق بالمهن تحديداً، هي أعمق مما تبدو في التحليلات الرومانسية ونشدان المساواة أو ترديد الحديث النبوي: "كلكم لآدم وآدم من تراب". إذ تخبرنا سيرة الصناعات الجلدية أن الحكومات المتعاقبة منذ مطلع ستينات القرن العشرين، لم تجرؤ على دمج الدباغين والإسكافيين والقصابين ضمن البنية الاقتصادية للدولة، باستثناء فترة الحكم الاشتراكي في الجنوب، وبغض النظر عن عيوب التجربة.

حرف آخر على رقعة جلد

  من منا لا يعرف عن استخدام الجلود في الكتابة! في اليمن كانت جلود الغزلان هي المفضلة للكتابة، وجلود الأبقار للأحذية، وجلود رؤوس الجِمال لصنع السياط. وتخبرنا مصادر التاريخ المنقولة عن المخطوطات والنقوش الأثرية، أن صناعة الجلد التقليدية كانت مزدهرة في كل اليمن، من صعدة إلى عدن، ومن الحديدة إلى المهرة، وتعريجاً إلى جزيرة سقطرى وأخواتها المأهولة بالسكان في بحر العرب والبحر الأحمر. وفي مطلع العقد الثالث من القرن الواحد والعشرين، يتمنى كاتب من هذه الأرض رقعة جلد ليدوّن عليها حرفاً آخراً من تغريبة التيه الذي أصاب أمّته.

مع استمرار تكريس احتقار المهن في البنية الثقافية للمجتمع، تموضعت الحِرف اليدوية في مستويات متفاوتة من الازدراء. على رأس القائمة تأتي المهن التي يتطلب أداؤها ملامسة الدم والفضلات والأوساخ بصورة عامة، كالقصابة والدباغة وصناعة الفخار والأحذية...إلخ

يصعب الإلمام بكل حروف التمزّق في هوية اليمن دفعة واحدة، لكنها منثورة أينما توجهت الأنظار الفاحصة والمهمومة بمصيبة الانقسام. وفي الموسوعة الوحيدة التي قرر عدد قليل من مثقفي وكتّاب البلاد إنجازها، وموّلها مثقف واحد، وردت إشارة يتيمة إلى إنشاء مصنع حكومي لصناعة الجلد في صنعاء، لكن أثر ذلك المصنع انقطع من الواقع ومن التاريخ المدوّن. لعلّه كان ثمرة لصداقة كانت بدأت تتشكّل بين الرئيسين جوزيف تيتو وعبد الله السلّال عبر الرئيس جمال عبد الناصر. وقد تمّت الإطاحة بالرئيس السلّال وبتلك الثمرة التي لم يُكتب لها النضوج فاختفت قسرياً وإلى الأبد.

مع ذلك، ثمة ما يلفت الانتباه في تلك الإشارة، إذ لم يتطرّق معدّ ذلك العنوان في الموسوعة: "الصناعة في اليمن"، لمحاولات التصنيع التي قامت في جنوب اليمن خلال الفترة الممتدة بين 1963- 1990، العام الذي توحدت فيه البلاد. هذا أحد الشواهد على الفجوة الانتمائية اللاواعية في سياق التعريف بالهوية اليمنية، وهو أيضاً أحد أخطر عوامل ضرب الوحدة الوطنية للمجتمع اليمني، كون الأمر يثير شعوراً بالتجاهل أو في أفضل الاحتمالات، النسيان. وما الانتماء غير شعور!

غير أن خطراً كهذا لم يفُت على رجل الثقافة والتنوير النابه، أحمد جابر عفيف، الذي كان رجل دولة أيضاً، إذ أشار في تقديمه للموسوعة أن إعدادها بدأ قبل العام 1990، وأن الضرورة اقتضت بعد إتمام إعلان الوحدة بين الشطرين، تكليف باحثين اثنين لكل مادة، واحد من الجنوب وآخر من الشمال. على الرغم من ذلك، بقيت بعض المواد تحمل طابعاً شطرياً دون أن ينتبه لذلك أحد، ودون أن يكلّف الجيل التالي من الباحثين أنفسهم عناء توحيد الموسوعة.

في توقيت حرج عقب ثورة شباط/ فبراير 2011، وصل الخبراء إلى تعز وانعطفوا باتجاه صنعاء، وكأن عدن وحضرموت وأبين وشبوة... ليست من اليمن الذي يريدون تطوير صناعة الجلود فيه! هذه فقط بعض الشواهد المتناثرة على الخارطة المعرفية للبلد الممزق، مثل جلود الأضاحي التي لم يعد الذبّاحون يتقنون سلخها.

شاهد آخر على هذا الانفصال الفكري- أو الذهني بالأحرى، ورد في دراسة "الخبراء الثلاثة" عن "واقع قطاع صناعة الجلود في اليمن". ففي حين كان اليمن الموحّد بأمسّ الحاجة لترميم الشروخ السياسية والاقتصادية والثقافية، وفي توقيت حرج عقب ثورة شباط/ فبراير 2011، وصل الخبراء إلى تعز وانعطفوا باتجاه صنعاء، وكأن عدن وحضرموت وأبين وشبوة... ليست من اليمن الذي يريدون تطوير صناعة الجلود فيه! هذه فقط بعض الشواهد المتناثرة على الخارطة المعرفية للبلد الممزق، مثل جلود الأضاحي التي لم يعد الذبّاحون يتقنون سلخها.

______________________

1 - موسوعة شاملة من أربعة أجزاء شارك في إعدادها عشرات الكتاب والباحثين والأكاديميين، بتمويل أحمد جابر عفيف، رئيس ومالك مؤسسة العفيف الثقافية، التي صدرت الموسوعة عنها في عدة طبعات ابتداءً من 1992.
2 - يمكن الاطلاع على مزيد من الأرقام والمعلومات في الدراسة المعنونة بـ"دراسة واقع قطاع صناعة الجلود في اليمن واتجاهات تطويره".

مقالات من اليمن

للكاتب نفسه