في 30 تشرين الثاني/ نوفمبر 2015، ودعتنا الباحثة والمثقفة المغربية فاطمة المرنيسي عن 75 عاماً، بعد معاناة مع المرض حرصت على ألا يعلم أحد بها. في عمق مدينة فاس العريقة، رأت فاطمة النور في وسط أرستقراطي محافظ، شكّل خزاناً لها، أثث ذاكرتها وخيالها، وجعلها تختار موضوعاً مركزياً لأبحاثها فيما بعد: قضية المرأة، والعلاقات بين الجنسين في مجتمع تقليدي قائم على تقسيم جنسي للأدوار والفضاءات.
كانت المرنيسي من بين أولى النساء المغربيات المعدودات على الأصابع اللائي خضن غمار البحث العلمي والأكاديمي في مجال السوسيولوجيا، فحصلت سنة 1974على شهادة الدكتوراه من جامعة أميركية. ابتدأت رحلتها العلمية أولاً من العاصمة الفرنسية لتنتقل في ما بعد إلى أمريكا، الأمر الذي يمكن اعتباره في حد ذاته عنوان شجاعة وقوة نادرتين حينها وسط النساء.
السفر، الرحلة العلمية، التنقل، عناوين على تحولات مست المجتمع وأثرت في المكانة التي أصبحت النساء تحتلها. هن رائدات، أولئك اللواتي سمحت لهن ظروفهن العامة وشروطهن الخاصة باقتحام "المجهول" والسعي إلى تحقيق طموحاتهن. فاطمة المرنيسي لم تتميز فقط لكونها نجحت في الاشتغال الأكاديمي على قضايا في صميم المجتمع، بل لكونها استطاعت أن تجسد هي ذاتها نموذجاً. المرأة إذاً كمركز اهتمام وكموضوع لفاطمة الباحثة شكل امتداداً طبيعياً لفاطمة المرأة.
نشرت سنة 1982 أطروحتها باسم مستعار (فاطنة أيت الصباح) وبعنوان "المرأة في اللاوعي الإسلامي"، والتحقت كأستاذة في كلية الآداب بالرباط، وانخرطت في مشروع فكري كانت حصيلته ما يزيد عن عشرين كتاباً، ترجم بعضٌ منها إلى 25 لغة.
هي والمشروع الفكري النسائي
تنقلت المرنيسي بين أبحاث ذات طابع سوسيولوجي ميداني ("نساء الغرب" على سبيل المثال)، وأعمال اتخذت الطابع السردي ("المغرب من خلال حكي نسائه" 1983)، ونصوص بيوغرافية ("نساء على أجنحة الحلم" 1998) إلى أعمال اشتغلت فيها على الثرات الديني ("الحريم السياسي: النبي والنساء" 1987)، وأخرى وظفت فيها المنهجية التاريخية ("سلطانات منسيات: نساء رئيسات دولة في الإسلام" 1990). حصيلة مكنتها من تجاوز اسمها لحدود الوطن واستحقت عليها الجوائز. وصار اسمها يستحضر المغرب أينما لُفظ.
سعت إلى فهم وتحليل المكانة التي اختارها المجتمع للمرأة، وإلى اكتساب المعرفة حولها، فكانت طريقتها للنضال من أجل وضع أفضل للنساء المغربيات، عربيات وأمازيغيات، ولكل من يعشن في سياقات عربية وإسلامية، وللنساء عموماً.
ساندت ودعمت بقوة، وبكل الأشكال الممكنة، عدداً من وجوه الحركة النسائية المغربية، بل ساهمت في تكوين عدد لا يستهان به من الوجوه الشابة التي اختارت السوسيولوجيا للاستفادة من تأطير المرنيسي، فوجهت عدداً منهن إلى اختيار موضوع المرأة في الأعمال الميدانية التي كانت نادرة آنذاك. أطّرت كثيراً من بحوث الدكتوراه بغية الإسهام في تفكيك بنية الهيمنة الذكورية في المجتمع المغربي، والوقوف على تعقيدها.
كان للمرنيسي كذلك الفضل في ضخ الحركة النسائية المغربية بعدد من الشابات ممن أطرتهن، فساهمن في إغناء صفوف هذه الحركة كماً ونوعاً. كما كانت لها إسهامات نوعية في بداية نشأة هذه الحركة مطلع الثمانينيات من القرن الماضي. فشكّل حضورها دعماً معنوياً وفكرياً قوياً لأولى مكونات الحركة النسائية، إذ لم تبخل، ولم تدخر جهداً في تقديم كل المساعدة، سواء تلك المتعلقة بتأسيس ونشر جريدة "8 مارس" في تشرين الثاني/ نوفمبر 1983، أو بالحضور إلى جانب أولى الجمعيات النسائية كـ "الجمعية الديموقراطية لنساء المغرب" (حزيران /يونيو 1985). كما كانت وراء تأسيس أول مركز للاستماع والإرشاد النفسي والقانوني للنساء ضحايا العنف في 1995 بمدينة الدار البيضاء.
رغم انشغالاتها العلمية المتعددة والمتنوعة، ظلت المرنيسي تنصت باهتمام إلى القضايا التي طرحتها الحركة النسائية وتتفاعل إيجابياً مع كل طروحاتها وظلت متنبّهة لما كانت تواجهه هذه الحركة من معارضة شرسة من طرف المحافظين، ومن مقاومة من طرف التيارات السياسية التي كانت تضفي على معارضتها طابعاً دينياً. وهو ما حدا بها إلى اقتحام عالم التراث الديني، بإرادة قوية وبمنهجية علمية، وبهدف واضح: توفير المعرفة حول تراث ظلت قراءته مدةً طويلة حكراً على الرجال، وظلت منهجية التعامل معه حبيسة التخصص الفقهي الذي كان يريده هؤلاء مجالاً لهم، نازعين الشرعية على كل من يغامر بالخوض في ثناياه.
في ظل الجدل الصاخب حول إصلاح مدونة الأحوال الشخصية، كان لكتاب فاطمة المرنيسي "الحريم السياسي"، دور مهم في إنارة الطريق وفي تنوير العقول، لأنها تمكنت من إبراز أمر جوهري وأساسي، يتعلق بتوظيف الدين لشرعنة الهيمنة الذكورية وإضفاء طابع القدسية على التمييز ضد النساء. ولم يكن منع الكتاب الذي نُشر في البداية بفرنسا من الدخول إلى المغرب من قبيل الصدفة. فطرْق باب مجال من طرف امرأة ظل مغلقاً لعدة سنين، وبمنهجية علمية وموضوعية، كان شأناً خطراً وخطيراً، وهو ما يؤكد شجاعة المرنيسي التي التقطت بذكائها أهمية مساهمتها العلمية في مرحلة تاريخية فاصلة.
وهي استتبعت هذا الكتاب بآخر لا يقل جرأة في السياق الذي نشر فيه، "سلطانات منسيات"، الهدف منه التعريف من جهة بعدد من النساء الحاكمات في تاريخ الإسلام، ونفض الغبار عن ذاكرة كان هناك حرص على طمسها، والمساعدة من جهة أخرى من خلال نماذج تاريخية حية في إبراز قوة الهيمنة الذكورية والفكر الأبوي في استعمال كل الوسائل والأدوات من أجل إقصاء النساء عن لعب أدوار خارج تلك التي يُسمح بها، الأدوار غير المعترف بقيمتها والتي يتم إنجازها بين أربعة جدران بعيداً عن النظر. تقديم تلك النماذج من النساء الحاكمات، هو أسلوب ذكي للتأكيد على أن النساء لسن ناقصات عقل ودين، وأن الحديث النبوي "لا يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة" يتطلب وضعه في سياقه التاريخي وظرفه، كما هو شأن كل الأحاديث. منهجية ذكية لأنسنة التراث الديني وإخراجه من البعد الذي كان يحرص على تجميده، بإطلاقه، إبعاداً له عن التفاعل الإنساني الواقعي والتاريخي.
المثقفة في المدينة
ظلت فاطمة المرنيسي كباحثة في مجال السوسيولوجيا مهووسة بالميدان، وهو ما جعلها تكرس جزءً من وقتها للإشراف على تنظيم قوافل للانتقال إلى المغرب العميق: "القوافل المدنية"، حيث كان يتم اللقاء مع عدد من النساء اللائي لا تسمح لهن ظروفهن الاجتماعية والاقتصادية بمغادرة قراهن. نساء لم تسمح لهن شروطهن باكتساب المعرفة فعبّرن بأسلوب مختلف، بملكات وقدرات غير القلم والكتابة، ليخلدن مسار حياتهن من خلال الرسم على "الزرابي" (البسط والسجاد) التي ينسجنها؛ للحفاظ على إرث ثقافي ضارب بجذوره في عمق الذاكرة النسائية المغربية. سعت المرنيسي إلى تقديم الدعم لهؤلاء النساء من خلال التعريف بإبداعهن، ولضمان فرص بيع منتجاتهن وربح قوتهن اليومي مقابل المجهودات التي يبذلنها، خصوصاً أنهن كن مقصيات من التسويق.
وأشرفت كذلك على عدد من ورشات الكتابة بهاجس الحفاظ على الذاكرة.. ذاكرة عدد من الناس ومن الفاعلين في حقول مختلفة ممن لم يفكروا في كتابة تجاربهم/ن. فكانت النتيجة إنتاج ونشر عدد من الكتب التي تحكي تجارب حياتية بل ونضالية مختلفة لمن كان لهم/ن إسهام في بناء مغرب ما بعد الاستقلال (1956). وأسهمت بهذه الطريقة في الانتقال من تقاليد الشفوي إلى الكتابي، هي التي كانت شديدة الوعي بأهمية الحفاظ على الذاكرة ونقلها إلى الأجيال المقبلة.