لم يكن لقائي بهما مخطّطا ولا بادرتُ بحديث.
بينما كنت أجلس بجوار إحدى قنوات الريّ بقرية الشاورية بصعيد مصر، أو ما يُطلق عليه هنا "المشروع"، أتبادل الحديث مع إحدى السيدات حول تلوّث تلك القنوات بالمخلّفات، وعن بطالة شباب القرية ومن بينهم أولادها الخمسة، جاءت "هند" و"نوال"*، سيدتان في منتصف العمر أو أقلّ قليلاً، لتقصّا مشكلتهما على الصحافية التي سمعتا بوجودها بالقرب.
جلست "نوال" بجواري على الدكّة الخشبية، ومن ورائنا "المشروع"، وتظلّلنا إحدى الأشجار الموجودة على ضفّتيه، في حين تربّعت "هند" أرضاً على مسافة أمامنا. وكانت القضبان الضيّقة لقطار القصب، الذي يعمل فقط وقت الحصاد، تتوسّط الطريق الترابي، كما تتوسط ما بيننا وبين "هند".
وعلى الرغم مما في قصتهما من ألم، فقد تحدثتا بهدوء وتلقائية، ولم تُعدما التبسّم وروح الدعابة أو السخرية.
"متجوزين بقى لنا 12 سنة ومش لاقيين حقن مجهري. أجوازنا مالقياش يعالجونا، المعايش غالية، يا دوبهم بيشربوا بيهم سجاير". هكذا لخّصت "نوال" المشكلة في بداية الحديث. فالمرأتان تحتاجان لعملية حقن مجهري لعلاج تأخّر الإنجاب، وهي العملية التي تكلّف عدة آلاف من الجنيهات لا تملكانها... مع إشارة إلى تضرّرهما من تبديد الزوج لدخله الضئيل في التدخين.
يعمل زوجا "هند" و"نوال" "أُجَرِيّة في الحَرَجة" أي عاملين زراعيين. لا يملكان "ولا قيراط" كما تجيب "نوال"، لتعلّق "هند": "حتى ولو فيه أرض، الأرض جايبة إيه؟!".
خلال هذه السنوات، مرّت "هند" بتجربة الحمل والولادة ثلاث مرات، وفي كل مرة يموت أطفالها بعد الولادة للسبب ذاته، "هبوط في الدورة الدموية". وفي مرة رابعة توفي الجنين في بطنها بسبب "خطأ الدكتور" كما تقول. وإنها سافرت إلى القاهرة لمعرفة السبب في حالتها، وتكلّفت 15 ألف جنيه (الجنيه= 0.064 دولار)، دون أن تصل لشيء.
ينصحهما الأطباء حاليّا بإجراء عملية حقن مجهري خلال فترة وجيزة "قدامنا يا سنة يا سنتين، بعد كده الحقن مش هاينفع" بسبب تقدّم العمر.
حقوقيّاً
من الناحية الحقوقية، وعادة عند الحديث عن الحقوق الإنجابية أو الصحة الإنجابية، تُطرح قضايا مثل الإجهاض، وتنظيم الأسرة أو منع الحمل، والتثقيف الجنسي، وتوفير الرعاية الصحية اللازمة للمرأة وقت الحمل والولادة. أما الحقّ في الإنجاب (أو بصيغة أخرى الحق في الأمومة أو في الأبوة) فلا يُطرح في نقاش حقوق المرأة أو الإنسان إلا نادراً، كذكر انتهاكه في حالات التعقيم القسْري مثلاً، أو بصورة عرَضيّة. وفي ثنايا التقارير الدولية المختصة، مثل تقرير المؤتمر الدولي للسكان والتنمية الذي نظمته الأمم المتحدة بالقاهرة 1994، يمكننا بالكاد الإمساك بإشارة واضحة إلى هذه النقطة، حيث يذكر التقرير، وهو يعكس اتجاهاً نحو تحجيم النمو السكاني العالمي، أن الصحة الإنجابية تعني "قدرة الناس على التمتع بحياة جنسية مُرضية ومأمونة، وقدرتهم على الإنجاب، وحريتهم في تقرير الإنجاب وموعده وتواتره.."، وأن الرعاية الصحية الإنجابية ينبغي أن تشمل - بين العديد من النقاط - "الوقاية والعلاج من العقم".
البُعد السياسي في مسائل الإنجاب حاضر دائماً، من خلال القوانين والتشريعات التي يتم إقرارها في الدول، والسياسة الإنجابية التي تتّبعها الحكومات وتفرضها على المواطنين بالقوة أو تدفعهم إليها بصورة غير مباشرة وتحدّ من حريتهم في اتخاذ القرارات الإنجابية. والدولة المصرية تعتبر الزيادة السكانية عقبة كبرى أمام التنمية وتهديداً لها.
ووفقاً لمفوّضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، فإن الحقّ في الصحة - وهو أحد حقوق الإنسان الأساسية - بالنسبة للمرأة يشمل صحتها الجنسية والإنجابية، ومن ثم على الدول الالتزام "باحترام وحماية وإعمال الحقوق المتعلقة بالصحة الجنسية والإنجابية للمرأة"، ويكون للمرأة "الحقّ في الحصول على خدمات وسلع ومرافق تتعلق بالرعاية الصحية والإنجابية" تتسم بالتوفّر بأعداد كافية، وبإمكانية الحصول عليها فعلياً واقتصادياً، دون تمييز، مع جودة النوعية.
طبيّاً
تُعدّ عملية الحقن المجهري إحدى تقنيات الإخصاب المساعد لعلاج تأخر الحمل، وهي تشمل عدداً من الخطوات تستغرق بضعة أسابيع: تنشيط المبيض، وسحب البويضات، وأخذ عينة الزوج، وحقن البويضات بالحيوانات المنوية خارج الجسم، ونقل الأجنّة للرحم، ثم اختبار الحمل. ويعتبر سنّ الزوجة أحد العوامل المهمة في نجاح العملية. تقول د. أماني عز الدين طبيبة النساء والتوليد بالإسكندرية، إن العديد من حالات تأخر الإنجاب لا يكون لها علاج سوى الحقن المجهري، سواء كانت المشكلة لدى الزوجة كحالات التصاقات الأنابيب أو بطانة الرحم المهاجرة، أو لدى الزوج الذي يعاني من نقص أو انعدام الحيوانات المنوية أو ضعف حركتها، بالإضافة إلى حالات العقم غير معروفة الأسباب.
وتضيف الطبيبة أن الحقن المجهري ليس نوعاً واحداً بل هو أنواع على حسب الحالة. فهناك مثلاً حالات تتطلب سحب عينة من الخصية، وأخرى يتم فيها اختيار نوع الجنين، وثالثة تحتاج إلى الكشف الجيني عن العيوب الخلقية للأجنة.. وتختلف التكلفة ونسبة النجاح من نوع لآخر، فالتكلفة قد تصل في بعض الحالات إلى 60 أو 70 ألف جنيه (حوالي 4 آلاف دولار)، ونسب النجاح في أحسن الأحوال لا تتجاوز 50 في المئة، وهناك حالات لا تتعدى 5 في المئة. بعض الحالات تُضطر لتكرار العملية 6 أو 7 مرات دون أن يُكتَب لها النجاح. وتقول إن حالة "هند" تحتاج بعد تشخيصها إلى حقن مجهري يعتمد على الفحص الجيني للأجنة لاختيار الأجنة السليمة، وهي تقنية أكثر كُلفة وتتوفر في القاهرة.
بلا تأمين صحي أو حماية اجتماعية
تقول هند "فيه ناس كتير مظلومة في الصعيد بسبب العلاج الغالي. فيه ناس أسوء مننا في العيشة". وإن المشكلة بالنسبة لهما ليست ضغوط زوج أو مجتمع بل أمنية شخصية "مفيش ضغوط، إحنا اللي حابّين (لكن) مفيش إمكانيات"، مما يجعلها غير قادرة حتى على المتابعة عند الطبيب بعد الكشف الأول "الكشف بـ 65 جنيه والتحاليل ب 500 جنيه غير العلاج". وهما لا تتمتعان بأيّ تأمين صحي.
وقد أظهر مسح لاحتياجات المرأة المصرية (المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، 2016) "أن حوالي 5 في المئة فقط من النساء المصريات تمت تغطيتهن بالتأمين الصحي" (1).
كما أن برامج الدولة للحماية الاجتماعية "تكافل وكرامة" لا تشملهما، وهي برامج تقدّم دعماً مادياً شهرياً محدوداً للأسر بشروط منها أن يكون لديها أطفال في المدارس، "ليه اللي معهوش عيال مش بيقبض؟! فيه ناس معاها عيال مش محتاجين علاج، إحنا حالتنا أسوء، هم مش عايزين كشوفات كلّ شهر". هذا الدخل الشهري المنتظم كان سيشكّل لهما فارقاً "الشهرية تقدري تعملي جمعية (وسيلة للادخار الجماعي).
وتضيف أن هناك الكثير من التبرعات تأتي للقرية لكنها في رأيها لا تُوزّع بشكل عادل لتصل للمستحقين. "ما بيدوناش بطانية للبهايم حتى..".
تُعدّ عملية الحقن المجهري إحدى تقنيات الإخصاب المساعد لعلاج تأخر الحمل، وهي تشمل عدداً من الخطوات تستغرق بضعة أسابيع: تنشيط المبيض، وسحب البويضات، وأخذ عينة الزوج، وحقن البويضات بالحيوانات المنوية خارج الجسم، ونقل الأجنّة للرحم، ثم اختبار الحمل. ويعتبر سنّ الزوجة أحد العوامل المهمة في نجاح العملية.
أسعار أدوية عمليات الحقن المجهري في ارتفاع لأنها جميعاً مستوردة ومرتبطة بسعر الدولار، وهي لا تُصرف ضمن أيّ من أنظمة التأمين، سواء التأمين الصحي الحكومي، أو حتى تأمين الشركات أو النقابات، حيث تعامَل هذه العمليات معاملة عمليات التجميل، وإن التأمين الصحي الحكومي لا يوفّر أدوية لأمراض أكثر إلحاحاً أو خطورة، فلن يوفر أدوية تنشيط لحالات الحقن المجهري.
وبخلاف يومية زوجيهما، لا يوجد لدى هند أو نوال أيّ دخل مستقل "معناش ولا أيّ دخل"، لا وظيفة ولا دعم حكومي أو خيري ولا ميراث "مفيش أرض أصلاً.. إخواتنا أرزقية، لا أجوازنا ولا إخواتنا معاهم".
الصعيد المصري: سؤال الصحة
29-01-2017
نوال حاصلة على الابتدائية وهند على دبلوم. وتقول إنه حتى المتخرجين في كليات لا يجدون وظائف.
فكّرت هند أن تؤسّس مشروعاً خاصاً للبقالة في بيتها كمصدر دخل، ولكنه ما لبث أن فشل لأن بيتها كما تقول ليس على الجسر (الطريق الرئيسي في القرية)، وحتى إذا فكّرت في تأجير دكّان فسيلتهم إيجارُه أيّ مكسب، إلى جانب مصاريف البضاعة. بينما تعلّق نوال بأنه لا يتوفر رأس مال لتأسيس مثل هذه المشاريع.
ويتمثل عملهما اليومي في أداء الأعمال المنزلية "نغسلوا الخَلَجات (الملابس) ونوكّل البهايم ونسقيهم"، تقول نوال. وعند بيع بهيمة "لا نتكسيوا ولا نتعالجوا" حيث يذهب ثمنها لسداد ديون اقتُرضت لتوفير أساسيات كالمأكل، بينما الزوج أهم شيء لديه السجائر، مع تقصيره في مصروف البيت. "عايزين نتكسوا خروج (ملابس للخروج) نبّ (والنبي) ما قادرين.. نروحوا للدكتور مبهدلين؟!".. "تبصّي ع الحاجة وما تجيبيهاش"..
علاج مكلّف على عاتق المريض
المشكلة بطبيعة الحال لا تقتصر على نساء الصعيد، ولكن من الممكن أن تكون أشدّ وطأة عليهن، حيث ارتفاع نسب الفقر والبطالة، والعادات والتقاليد الضاغطة، وضعف المنظومة الطبية مقارنة بالعاصمة والمدن الكبرى، على الرغم من بعض التطورات.
يوجد في مصر العديد من مراكز الحقن المجهري، يتركّز معظمها في القاهرة والإسكندرية، وعدد أقل في محافظات أخرى وبينها الصعيد. وهي تواجه انتقادات - حتى من داخل المجتمع الطبي نفسه - حول المبالغة في الأسعار مما يحوّلها لتجارة، وتضليل المرضى بشأن نسب النجاح، وضعف الرقابة. إلا أن هذه العمليات لا تقتصر على القطاع الطبي الخاص. تقول د. أماني إن مستشفيات الجامعات (مستشفيات عامّة تابعة لكليات الطب في الجامعات الحكومية المختلفة وتستقبل المرضى دون اشتراط تمتّعهم بتأمين صحي) تُجري عمليات حقن مجهري بتكلفة مخفّضة مقارنة بالمستشفيات والمراكز الخاصة، حيث لا يتحمل المريض أجر الطبيب القائم بالعملية ويكون أجر المستشفى قليلاً نسبياً، مثل مستشفى الشاطبي بالإسكندرية (هناك أيضا وحدات مختصة بقصر العيني وبجامعة الأزهر بالقاهرة، وبالمستشفيات الجامعية بأسيوط وقنا..)، ولكن المشكلة تكمن في تكلفة العلاج نفسه، وهو يتمثل بصورة أساسية في أدوية تنشيط التبويض، ويُعدّ البند الأكبر في تكلفة العملية ككل، إذ يتراوح بين 10 آلاف جنيه في الحالات البسيطة إلى 15 ألف أو عشرين ألف جنيه، يتحمّلها المريض.
العقبة ليست فقط في التكلفة المالية التي تظل مرتفعة بالنسبة لكثيرين. فعندما تواصلتُ مع الوحدة عبر الرقم المعلن لها أُخبرت بأنها تستقبل 10 حالات فقط شهرياً وبأن العمليات متوقفة منذ فترة وليس هناك موعد محدّد لاسئنافها، وأنه يمكنني الحضور للعيادة للكشف ولكني سآخذ دوراً في قائمة الانتظار لإجراء العملية.
في وحدة الإخصاب المساعد بمستشفى قنا الجامعي ،على سبيل المثال، وهي حديثة نسبياً، تبلغ تكلفة العملية 15 ألف جنيه: 4700 للمستشفى، وأكثر من 11 ألف جنيه للعلاج الذي يقوم المريض بشرائه من خارج المستشفى. وهو مبلغ قابل للزيادة حسب الاحتياج. إلا أن العقبة ليست فقط في التكلفة المالية التي تظل مرتفعة بالنسبة لكثيرين، فعندما تواصلت مع الوحدة عبر الرقم المعلن لها أُخبرت بأنها تستقبل 10 حالات فقط شهرياً وبأن العمليات متوقفة منذ فترة وليس هناك موعد محدّد لاسئنافها، وأنه يمكنني الحضور للعيادة للكشف ولكني سآخذ دوراً في قائمة الانتظار لإجراء العملية (2). وعلى صفحتها غير المحدّثة على فيسبوك إشارة لعدد من حالات نجاح لعمليات حقن مجهري أجرتها الوحدة وأنجب أصحابها، تعود جميعها لعام 2017.
تقول د. أماني إن أسعار هذه الأدوية في ارتفاع لأنها جميعاً مستوردة ومن ثم مرتبطة بسعر الدولار، لذلك ارتفعت بنسب كبيرة بعد التعويم. وإنها لا تُصرف ضمن أيّ من أنظمة التأمين، سواء التأمين الصحي الحكومي، أو حتى تأمين الشركات أو النقابات، حيث تعامَل هذه العمليات معاملة عمليات التجميل، "ليست ضرورة للحياة". وإن التأمين الصحي الحكومي لا يوفّر أدوية لأمراض أكثر إلحاحاً أو خطورة، أو يوفّرها بعد سلسلة مرهقة من الإجراءات، فضلاً عن أن يوفر أدوية تنشيط لحالات الحقن المجهري.
وتضيف أن التكلفة الكبيرة للعلاج المطلوب في عمليات الحقن المجهري لن تتحملها الدولة التي تقوم سياستها أصلاً على تقليل الإنجاب، ولا الجمعيات الخيرية في ظل غلاء فاحش جعل الناس غير قادرين على توفير أساسيات الحياة مثل الطعام لهم ولأطفالهم، بالإضافة إلى الحالات المرضية الخطيرة. وحتى بالنسبة للمتبرعين الأفراد، فهم بالتأكيد سوف يوجّهون أموالهم للأطفال مرضى السرطان مثلاً أو عمليات زراعة قوقعة أو قرنيّة أو العمليات الضرورية لإنقاذ الحياة، على حد قولها.
وتلفت أماني، من خلال تجربتها الشخصية واحتكاكها ببعض الفئات التي تتلقى دعماً مادياً من الجمعيات الخيرية، إلى أنه على الرغم من وجود كثيرين في احتياج حقيقي، فإن العديد ممن يحصلون على هذه الإعانات ليسوا مستحقين بالفعل. كما أن إحدى الحالات التي مرّت عليها، وكانت تحتاج لحقن مجهري، اختارت أن تضع مدخّراتها في شراء بيت، معوّلة على أن تجد من يساعدها في تكلفة عملية الحقن، إلى أن مرّ الوقت ولم تعد لديها الفرصة للإنجاب.
الزكاة لتحقيق حُلم الأمومة
وعلى الرغم من الإحجام المتوقع من كثيرين عن دفع زكاة مالهم لمساعدة نساء على الإنجاب من خلال عمليات الحقن المجهري، اعتقاداً بعدم الجواز أو اقتناعاً بعدم أولوية الأمر، فإنه لا حرج من الناحية الشرعية في ذلك. ونجد في الفتاوى المنشورة الرأيين، من يجوِّز، ومن يرى أنها تكون ضمن الصدقات لا الزكاة، على الرغم من أن النص مفتوح "للفقراء والمساكين.." (آية مصارف الزكاة، التوبة 60). وبشكل شخصي، عندما تواصلت مع دار الإفتاء المصرية عبر الخدمة الهاتفية للاستفتاء، وتركت سؤالاً حول إمكانية إخراج الزكاة لسيدة فقيرة لإجراء عملية حقن مجهري لتحقيق حُلمها بالأمومة، كان الرد برسالة مسجّلة بصوت الشيخ الذي لا يُذكر اسمه، نصّاً: "يجوز أن تعطيها من زكاة مالِك إذا كانت فقيرة أو مسكينة. والفقير هو من لا يملك المال، والمسكين من كان معه مال ولكن لا يكفي. والله أعلم".
أولويات العمل الخيري
أحمد فكري، مدرّس وناشط في العمل الخيري بقرية الشاورية منذ عشرين عاماً، وهو رئيس جمعية "تنمية المجتمع" بالقرية، يشرح الخدمات المقدّمة من الجمعية للأهالي بالقول إنها تقدّم دعماً مادياً لمئتي أسرة فقيرة بمبلغ شهري متواضع قدره 50 جنيهاً، أي بتكلفة إجمالية عشرة آلاف جنيه شهرياً. وعلى مستوى الدعم العيني توزّع كرتونة رمضان ووجبات غذائية جاهزة، بالإضافة إلى بناء منازل وتوزيع بطاطين.. وذلك بالتعاون مع جمعيات كبيرة معروفة مثل "مصر الخير" و"الأورمان" وغيرهما، حيث تعتمد الجمعية على هذه الجمعيات في توفير 90 في المئة من مواردها بينما تمثل تبرّعات أهالي القرية 10 في المئة، وهي نسبة يراها غير قليلة بالنظر إلى المنجَز من أعمال.. وهناك دعم خاص لأسر الأرامل والمطلّقات من خلال جمعيات بالخارج، يتراوح بين 600 و1200 جنيه شهرياً. ويشير إلى أن هناك ثلاثة معايير للأسر المستحقة: عدم وجود معاش حكومي، أو حيازة زراعية تتجاوز ربع فدان، أو شباب قادرين على العمل.. أما بالنسبة لأسر عمّال اليومية (كأسرتيْ هند ونوال) فمساعدتهم تكون في المواسم فقط.
الأوقاف المصرية في قبضة السلطة..
20-11-2021
وفيما يتعلق بالخدمات الطبية أو دعم المرضى، يقول إن الجمعية تدعم عمليات العيون كالمياه البيضاء والزرقاء خصوصاً لكبار السن، وعمليات القلب، والكشف والتحاليل والعلاج، وذلك بالتعاون مع مراكز طبية خاصة وأطباء باطنة وجراحة، وعدد من الصيدليات والمعامل. ويتراوح بند العلاج بين 20 إلى 30 ألف جنيه شهرياً. ومثلها تقريبا لبند مصاريف انتقال المرضى لمستشفيات الأقصر ذهاباً وعودة، التي توفّرها الجمعية لـ 32 حالة أورام وفشل كلوي وكبد..
تواصلتُ مع دار الإفتاء المصرية عبر الخدمة الهاتفية للاستفتاء، وتركت سؤالاً حول إمكانية إخراج الزكاة لسيدة فقيرة لإجراء عملية حقن مجهري لتحقيق حُلمها بالأمومة، كان الرد برسالة مسجّلة بصوت الشيخ نصّاً: "يجوز أن تعطيها من زكاة مالِك إذا كانت فقيرة أو مسكينة. والفقير هو من لا يملك المال، والمسكين من كان معه مال ولكن لا يكفي. والله أعلم".
إزاء كلّ ذلك، تعتبر عمليات الحقن المجهري "رفاهية" لا يمكن إطلاقاً للجمعية أن تدعمها كما يذهب فكري، بل الأولوية للحالات الأخرى التي تتألّم على حد تعبيره "أنا باتكلم على الألم الحقيقي مش الألم المعنوي.. عندك مريض بياخد كيماوي وواحدة عايزة تخلّف أروح لمين فيهم؟!" مع تفهّمه لموقف هؤلاء السيدات، لكن محدودية الموارد لا تتيح له تحمل التكلفة الباهظة لهذه العمليات، خاصة مع ارتفاع احتمالات عدم نجاحها، وأن أقصى ما يستطيع توفيره للسيدة هو تحمّل روشتة علاج بـ 200 أو 300 أو حتى ألف جنيه.
ويقول فكري إنه من الصعب على أيّ جمعية تحمّل مثل هذه الحالات حتى بالنسبة للجمعيات الكبيرة "ما ترضاش بيهم وعندهم حق يعني هايجيب لهم منين؟!". وإن العديد من السيدات يأتين إلى الجمعية طلباً للمساعدة في عمليات حقن مجهري أو أطفال أنابيب، ويكون ردّه عليهن أن يسأل السيدة في أيّ منطقة تسكنين؟ ويخبرها أن في نفس منطقتها هناك عدة حالات لمرضى تعرفهم هي أيضاً، فالجميع في القرية يعرف بعضه بعضاً، تحتاج توفير مصاريف انتقال لمحافظة أخرى لتلقّي جرعات الكيماوي "أنا معاي ألف جنيه تاخديه أنت تخلّفي بيه ولا هم يروحوا ياخدوا الكيماوي بتاعهم؟!".
وهو يرى أن الحل لهؤلاء السيدات أن تتوفر لهن هذه العمليات على نفقة الدولة.
سياسة الدولة
البُعد السياسي في مسائل الإنجاب حاضر دائماً، من خلال القوانين والتشريعات التي يتم إقرارها في الدول، والسياسة الإنجابية التي تتّبعها الحكومات وتفرضها على المواطنين بالقوة أو تدفعهم إليها بصورة غير مباشرة وتحدّ من حريتهم في اتخاذ القرارات الإنجابية. الدولة المصرية تعتبر الزيادة السكانية عقبة كبرى أمام التنمية وتهديداً لها، ومن ثم ترمي سياستها إلى خفض معدلات الإنجاب، من خلال التوسع في توفير وسائل تنظيم الأسرة في جميع محافظات الجمهورية، خاصة الفقيرة، وتقديم حوافز اجتماعية مشجّعة، والدعاية الإعلامية لتغيير الاتجاهات نحو الإنجاب ورفع الطلب على هذه الوسائل (3)، وذلك بالتعاون مع هيئات ومنظمات دولية، وبتمويلات ضخمة.
الصعيد المصري أنهكه النسيان
07-09-2021
وتشكّل محافظات الصعيد، باعتبارها الأعلى في نسب الفقر وفي معدلات الخصوبة، الغالبية العظمى من المحافظات المستهدفة بمشاريع وبرامج تنظيم الأسرة وخفض الخصوبة، مثل مشروع "2 كفاية" لوزارة التضامن الاجتماعي بالتعاون مع صندوق الأمم المتحدة للسكان، وبرنامج الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية الذي أطلقته عام 2018 بالتعاون مع وزارة الصحة والسكان، وبطلب من الحكومة المصرية، "لتعزيز تنظيم الأسرة" و"خفض معدلات الخصوبة تدريجياً"، ومدّته 5 سنوات بميزانية 19 مليون دولار (4).
في الوحدة الصحية بالقرية، تكاد الخدمات المقدّمة فيما يتعلق بالصحة الإنجابية تقتصر على حبوب منع الحمل التي تُصرَف بمقابل رمزي (جنيهان)، وبعض الأدوية للحوامل، إلى جانب تطعيمات الأطفال. "الحاجة اللي ببلاش ماليش فيها" تعلّق ضاحكة سيدة شابة من القرية تواجه مشكلة تأخّر الإنجاب، وقد أجرت قبل ثلاث سنوات عملية حقن مجهري بالقاهرة كلّفتها حوالي 40 ألف جنيه دون أن تُكلّل بالنجاح.
ولا تجد تلك الفئة من النساء لأنفسهن ذكراً في الاستراتيجية الوطنية لتمكين المرأة المصرية 2030، التي أطلقتها الدولة. ففي بند "الصحة الإنجابية للمرأة" ضمن محور "التمكين الاجتماعي" تركيز كذلك على قضية تنظيم الأسرة، ورصد انخفاض نسب استخدام وسائل تنظيم الأسرة، وارتفاع نسبة "الحاجات غير الملبّاة" لهذه الوسائل بين عامي 2008 و2014، وما صاحب ذلك من ارتفاع في معدل الإنجاب الكلّي من 3 أطفال لكل سيدة في 2008 إلى 3.5 طفل لكلّ سيدة في 2014، وأن المستهدف الوصول بمعدل الإنجاب الكلي إلى 2.4 طفل لكل سيدة في 2030.
تغيب هند ونوال ومثيلاتهما إذاً، أو يُغَيَّبن، عن حسابات الجميع: عن الدولة التي توجه جهودها الحثيثة لخفض الخصوبة، وعن برامجها للحماية الاجتماعية التي لا تنطبق عليهن شروطها، وعن المجتمع الخيري الذي يواجه أعداداً متزايدة من الفقراء والمرضى غير القادرين، في أوضاع اقتصادية شديدة الصعوبة، ومن ثم فهو ينظر لاحتياجهن وحلمهن بالأمومة بغير اكتراث، وحتى لا نلمس لهن حضورا في خطاب المنظمات النسوية أو في نشاطها (5)، كما أنهن لا يجدن فرصاً مواتية لزيادة الدخل أو للترقّي المادي.. بينما الوقت ماضٍ في التغذّي على الأمل.
*فضّلت استخدام أسماء مستعارة تقديراً للخصوصية
1- نقلا عن الاستراتيجية الوطنية لتمكين المرأة المصرية 2030.
2- وقد قالت المرأة التي قامت بالرد على اتصالي (في 16 آذار/ مارس 2022) إنهم بانتظار وصول "الطلبيّة"، والمقصود في الغالب أدوات وتجهيزات معملية تستخدم في الحقن.
3- راجع الاستراتيجية الوطنية لتمكين المرأة المصرية 2030. https://bit.ly/3IoVjZW
4- عن موقع السفارة الأمريكية بالقاهرة https://bit.ly/3N3FZFv
5- هناك جمعية مغربية "للحالمين بالأمومة والأبوة" تُدعَى اختصارا "مابا". ترأسها امرأة هي السيدة عزيزة غلام، وتضم "مجموعة من الأشخاص المصابين بصعوبات الإنجاب والخصوبة". وقد دعت الجمعية في وقت سابق لإعلان يوم وطني للخصوبة في المغرب "لتحسيس المجتمع بالمشاكل الصحية المؤثرة في الخصوبة" وتذكيره "بوضعية الأزواج المحرومين من الإنجاب" والصعوبات التي يواجهونها خاصة الكلفة المادية المرتفعة للعلاج.