الحيّز العام: ساحةٌ في المكان أم سِعةٌ في الوجدان؟

في صحار، حاضرة عُمان الشمالية، المدينة التي انطلقت فيها الأحداث الاحتجاجية المطالبة بالعدالة الاجتماعية في 26 شباط/ فبراير 2011، تمّ محو "ميدان الإصلاح"، حاضن تلك الاحتجاجات ومسرحها المفتوح، والذي لم يكن في واقع الحال دواراً مركزياً يربط جهات المدينة الأربع ببعضها البعض فحسب، بل مَعبراً محورياً لكتلة بشرية ضخمة، بكل المفاهيم الحضرية الحديثة. وانتصبت بديلاً عنه كتلة خرسانية كبيرة لجسر
2016-03-17

سعيد سلطان الهاشمي

باحث من عُمان


شارك
محمد عبلة - مصر

في صحار، حاضرة عُمان الشمالية، المدينة التي انطلقت فيها الأحداث الاحتجاجية المطالبة بالعدالة الاجتماعية في 26 شباط/ فبراير 2011، تمّ محو "ميدان الإصلاح"، حاضن تلك الاحتجاجات ومسرحها المفتوح، والذي لم يكن في واقع الحال دواراً مركزياً يربط جهات المدينة الأربع ببعضها البعض فحسب، بل مَعبراً محورياً لكتلة بشرية ضخمة، بكل المفاهيم الحضرية الحديثة. وانتصبت بديلاً عنه كتلة خرسانية كبيرة لجسر ـ وجسر فقط ـ يساعد الغرباء على المرور بسهولة.

محو الأماكن ورمزيتها

السيناريو ذاته جرى تعميمه على بقية "حواضن الأحداث" التي مثّلت الفضاءات المفتوحة للتواصل الجماهيري، للتفاكر الحُر والجدال التفاعلي حول احتياجات المجتمع والدولة في تلك اللحظة التاريخية الفارقة. فمثلاً، في مدينة صور، الحاضرة الشرقية لعُمان، منحت الحكومة تمديداً عاجلاً وفورياً، ليتوسع مسجد كبير، ممول من قِبل أحد أثرياء المدينة. هذا التمديد كان على حساب أرض "ساحة الحرية"، يُطلّ عليها جسر عبور مشاة أشبه ببرج مراقبة. أما في العاصمة مسقط فـ "ساحة الشعب" التي نشأت أمام مدخل مجلس الشورى، للتدليل على فكرة السيادة للشعب في إرادة التغيير، هذه الساحة باتت مهجورة، مقفرة، منسية على قارعة الطريق الرئيسي، لأن مجلس الشورى بكامله نُقل إلى مبنى أضخم، تحرسه الجبال بشكل أكثر تحصيناً من أي كتيبة مدججة بالسلاح، ويقع في الجزء الأكثر عزلة، جغرافياً من العاصمة. ساحة "نداء الخير" في مدينة صلالة الجنوبية، والتي كانت سباقة في الأحداث العُمانية منذ 25 شباط/ فبراير، غدت بدورها ممتلئة بسقالات مواد بناء ومقاولات دائمة لا تنتهي. وللإنصاف التأريخي والعلمي هنا، لم يكن هذا سيناريو عُمانياً خالصاً، بل منهجاً عربياً مُعمماً للتعامل مع الحالة الجديدة التي أحدثها الربيع العربي في الوعي العام: في البحرين، مثلاً، تم إزالة نصب دوار اللؤلؤة وسط العاصمة المنامة، الذي شهد اعتصامات البحرين بعد حركة 14 شباط/ فبراير 2011 واستبداله بإشارات ضوئية، وحدث هذا بعد شهر فقط من انطلاق الأحداث. أما "ميدان التحرير" في مصر، وهو أحد أيقونات هذا الربيع الشهيرة، فمن النادر اليوم وبعد انقلاب 30 يونيو، أن تجده يخلو، ولو لحظة من المدرعات العسكرية وآليات الأمن المركزي، ناهيك عن أفراد الأمن والشرطة المناوبين على التواجد فيه على مدار الساعة.
كل ما سبق هي مآلات راحت إليها هذه الميادين الحاضنة لأحداث الربيع العربي، المُوثِقّة لأعمق لحظات الإنسان شاعرية وعفوية وشغفاً بالحرية والكرامة. مآلات كهذه لم تفضح الرغبة العارمة في استبدال الأمكنة وما تختزله من قيمة فقط، بل وأيضاً محو رمزيتها من الذاكرة، بتحويلها وظيفياً إلى الشق الخدمي اليومي، من ذاك النوع الخاص الذي يألفه الناس سريعاً بالعادة والممارسة: شارع، جسر، تقاطع، مسجد.
إن هذه المآلات تطرح تساؤلات ليست عابرة، ولا هامشية عند قراءة الواقع العربي اليوم، على الأقل من زاوية الاجتماع السياسي، وفكرة المدينة في الوعي الجمعي، ومحورية الإنسان في المجال العام المحيط به، وتشكُّل فهم هذا الإنسان لذاته وللحياة، وإدراك احتياجاته الأساسية ليكون مؤثراً وفاعلاً على المستوى الذهني والميداني.

ثقافة "الصندوق"..

الركن الأساس في هذا الجدل هو: سؤال "الحيز العام" أو "المجال العام"، الحيز الذي هو ليس ساحةً في المكان بل سعة في الوجدان، ولا ترفاً في التنظير بل ضرورة للتفكير. الحيز العام/ الضرورة، الذي هو ليس جزءاً ترفيهياً، يتسلّى به المُنظِّرون ودارسو السياسات العامة، وعلم الاجتماع، وخبراء تغيّرات الديموغرافيا، بل هو في عين العاصفة التي تلم بوعي الإنسان في هذه المنطقة، وفي هذا الوقت بالذات. هذا الإنسان الذي أصبح محاصراً بثقافة "الصندوق": صندوق التفكير، وصندوق السكن، وصندوق الحركة، وصندوق العقاب، وصندوق الأحلام، وصندوق التنفس، وصندوق المتعة، وصندوق الحياة.
قد يصف علماء الاجتماع السياسي الحيز العام بـأنه "أرض الجدل والنزاع، (وأنه، ذاك الكُلُّ الذي) يتكون من المجالات العامة المتنافسة".
لكن السؤال الذي يواجه راهننا هو: هل أدب الجدل، على الأقل في شقه الثقافي والفكري، متاح، بعيداً عن جردة التأطير المركزي، وحِدّة الاستقطابات الفئوية والجهوية الضيقة، مذهبية كانت أو قبلية. عصبويات منغلقة على فكرتها البدئية، جافلة ومتخوفة من أي تفكير جدلي قد يهز عرش المسلمات التي يعتنقها أتباعها؟
وقد يجادل "هابرماس" في أن المجال العام هو كل حوار لفظي وفكري للقضايا الاجتماعية، يضمن التفاعل والتواصل بين الجميع، بقطع النظر عن التمايزات الاجتماعية والسياسية والثقافية، كل ذلك لأجل الوصول إلى توافق لفهم مصالحهم المشتركة. بيد أن هذا التوافق، يتطلب ابتداء معماراً ذهنياً يتمثل في مجموعة الأفكار والقيم المتفق في حدها الأدنى على الأقل. هذا المعمار الذهني يتوسل، بالطبيعة، معماراً مادياً يتجسد في الأطر المكانية والمساحات المفتوحة لفعل اللقاء، وتبادل الأفكار، من حدائق عامة ومتنزهات، ومقاهٍ، وأندية، وملاعب، ومكتبات، وميادين عامة.. مفتوحة ومتفاعلة مع روادها لتحقيق جميع تلك المتطلبات.
إذاً، والفكرة هكذا، فهل نرى للميادين العامة في المدينة العربية مكانة من التخطيط والعناية والرعاية والاهتمام؟ وإلى أي مدى حرص المعماري، والمهندس المدني أن تتوافر هذه المساحات وتُؤثَث بالخدمات وبالأفكار الخلآقة للتواصل البشري؟ هل أصلاً لهذا المعماري أو ذاك المهندس كلمة مسموعة، ورأي ووزن وقيمة عند تنفيذ مشاريع المدن؟ أم القرار متخَذ ممن بيده السيطرة والتحكم بالحركة اليومية للإنسان؟ المدينة ذاتها، هل هي مُلك ساكينها؟ أم هم قاطنون لها فقط، مستأجرون لمربعات صغيرة ومغلقة، يملكها إقطاعيون جدد عليها وعلى أهلها؟ وفي حالات المدن الخليجية، فالحاكم هو مالك المدن الجديدة والحريص على أن يبيع وحداتها السكنية لجميع جنسيات العالم.
وقبل أن نفكر في مجال عام، أو حيز عام يعيش ويتنفس في مساحات، يسمح الناس لبعضهم البعض بتبادل الأفكار والفاعلية، هل بمقدورنا الزعم بوجود إنسان يملك القدرة على التمييز بين وجوده المكاني ووجوده ككينونة (بحسب تعبير هايدجر)؟

بناء المعمار الذهني

بيد أن هناك وجه آخر لثيمة حيزنا العام أيضاً، لا يمكننا تجاهلها تاريخياً ولا تحليلياً، رغم كل ما سبق من تساؤلات:
ألم يستطع الشباب في بلداننا تحدي جميع عراقيل التخطيط المديني الما ـ بعد حداثي لمدنهم؟ ألم يقدروا ـ عندما حانت الفرصة ـ على تأسيس ميادينهم الخاصة والكافية والكافلة لممارسة حقوقهم المدنية والسياسية من تجمع وتعبير وتفكير بصوت مسموع، ولو بشكل مؤقت؟ ألم يلوذوا بالدوارات، في رمزية دالّة على القدرة متى ما توفرت الرغبة، وعلى الذكاء في اجتراح المساحات التي تُدّور الحوارات والمداولات الحُرّة، ومعها تقوم بتدوير الفروقات القسرية والتشوهات الطبقية التي فرضتها شكلانية السياسات النيوليبرالية، ومن قبلها الرأسمالية؟ ألم يعش هؤلاء الشباب تجربة حقيقية في هذه الميادين، أذابت العزل الطارئ على مجتمعاتهم، وحشّدت الطاقات المتفرقة التي أُهدرت وبُددت؟
.. صحيح أن الأمر لم يدم طويلاً، وصحيح أيضاً أن انتكاسات هائلة أعقبت هذا الفعل الجريء، وصحيح أن حالة الانسداد التاريخي تعمّقت، وأن أثماناً باهظة دُفعت من أرواح وحريات البشر، وصحيح أن الفكر ما زال حائراً في فهم الحدث وعواقبه، وسيستمر ذلك لعقود، كما ينبئنا التاريخ... لكن في المحصلة لا يمكن تجاهل الوعي النوعي، والخبرة العملية التي تأتت لهذا الجيل، حيث اختبر أهمية المجال العام في إحداث التغيير مهما كان صغيراً. بقي الرهان على استثمار وسائل حديثة ومبتكرة، وبذكاء، لبناء المعمار الذهني، معماراً مستداماً وقادراً على إنارة الإنسان وحفظ كرامته.

مقالات من العالم العربي

ثمانون: من يقوى على ذلك؟

إليكم الدكتورة ليلى سويف، عالمة الرياضيات المصرية بالأصالة، البريطانية بالولادة، على صقيع رصيف وزارة الخارجية في لندن، تُعدُّ بالطباشير – ككل المساجين - أيام اضرابها.

فلسطين في أربع جداريات دائمة في "المتحف الفلسطيني"

2024-12-19

"جاءت انتفاضة الحجارة في 8 كانون الاول/ديسمبر 1987، وجلبت معها فلسفة الاعتماد على الذات، وبدأ الناس يزرعون أرضهم ويشترون من المنتوجات المحليّة، ويحتجّون على الاحتلال بأساليب ومواد وأدوات محليّة. وشعرت...

للكاتب نفسه

فلسطين وخليجها العربي

يشهد الشعب العربي في الخليج بذهول غير مسبوق حرص الأسر الحاكمة ــ في الإمارات والسعودية والبحرين ــ على مناصرة ودعم وتمويل الكيان الاستعماري الاستيطاني الصهيوني على أرض فلسطين! ما القيمة...

مقاومة التطبيع في الخليج

يُفترض بالغريزة الأساس التي تُميِّز من يتصدر لإدارة الحكم، أن تُنبِّهه إلى مراعاة تطلعات الناس واحترام القضايا العادلة التي يؤمنون بها، وفلسطين - الناس والأرض والفكرة والمبدأ - في طليعة...