تم انتاج هذا المقال بدعم من مؤسسة روزا لكسمبورغ. يمكن استخدام محتوى المقال أو جزء منه طالما تتم نسبته للمصدر.
تبيّنتُ حقا سلطان جميلة بوحيرد، امرأة الثورة الجزائرية الأيقونة، في مصر، قبل أكثر من 40 سنة. كان يكفيني أن أقدّم نفسي كـ "جزائرية" كي يُحني محدثوي رؤوسهم: "بلد جميلة بوحيرد" ويُردفوا على الفور: "بلد المليون شهيد". وقد تطلّب الأمر من الوقت الكثير لكي أعي ثقلَ هذا الشرف وطابعَه الاستثنائي.
وكلّما تناءى هذا الحدث المؤسِّس، أي ميلاد الدولة والأمة الجزائريتين بين اندلاع حرب التحرير الوطني في تشرين الثاني/ نوفمبر 1954 ونيل الاستقلال في تموز/يونيو 1962، تناءت بدورها عن مجال البداهة هذه المرأةُ-الأيقونة المنصّبة وسط التاريخ بديهيةً لا مراءَ فيها.
من كان يتخيل سنة 1954 أن امرأة جزائرية ستكون أيقونةَ هذه الثورة "المطلقةَ" بل و"أيقونةَ تصفية الاستعمار"، على حد تعبير المؤرخة الإنجليزية، ناتاليا فينس؟ ويزيد الأمرَ إثارةً للارتباك كونُه استثنائياً، فلا أثرَ لنظير له في أية ثورة معاصرة، لا في روسيا لينين ولا إبّان تحرير فيتنام هو شي منه، ولا في أمريكا فيدال كاسترو وشي غيفارا، ولا خلال مقاومة أوروبا للنازية، من تشرشل إلى الجنرال ديغول. ويعزز طابعَ المفارقة فيه أنّ النساء الجزائريات في العهد الاستعماري لم يكنّ ليُحسدن كثيراً على ما كان عليه وضعُهن، "فإذا كان 91 في المئة من الجزائريين في 1954 أميين (...)، فالضريبة التي كن يدفعنها هنّ كانت أثقل، إذ لم تكن نسبة المتعلمات بينهن تتجاوز 4.5 في المئة" (1).
وإذا كانت الأمية تقاس، فهل تقاس قناطيرُ الاحتقار الذي كانت ترزح تحته، طيلة قرابة قرن ونصف قرن من الاستعمار، صورةُ "المرأة الجزائرية"، تلك "المسلمة"، تلك "العربية"؟ نادراً ما امتُهنت صورةٌ كما امتُهنت صورتها لتبيان تفوق الحضارة الغربية وابتداع شرقٍ المرأةُ والحرملكُ فيه حدٌّ فاصل بين الأنوار والظلامية.
ولهذه الأسباب كلِّها، لم يكن أحدٌ يحسب لهنّ حساباً حين اندلعت ثورة التحرير الوطني، لا جبهةُ التحرير التي لم تجشّم نفسها عناء إحصاء المناضلات منهنّ - "قررنا ألا نحصي النساء"، يقول أحد قادة فيدرالية الجبهة في فرنسا في مذكراته (2) - ولا الاستعمار. فعندما نشرت الصحافة أسماءَ أولى المجاهدات المعتقلات بدءا من 1955، ظُنِّنّ مصرياتٍ أو" شيوعيات" من أصول أوروبية.
يالها من مفارقة بين أحكام مسبقة تنْبني لتغييب النساء، والواقعِ، واقعِ امرأة-أيقونة فرضت نفسها بحكم طارئٍ تاريخي.
وإنه لدرسٌ أيضا عندما ننتوي الكتابة: درسُ الارتياب في الكلمات حين تُلقي مسبقاً بالنساء الجزائريات، "المسلمات"، في سجن البديهيات والأحكام الجاهزة، مغيبةً عن مرآنا مقاوماتهن والظروفَ التاريخية والمادية وغير المادية التي يصعد فيها أو يهوي نجمُهن. فالقراءة الحضارية للعالم - بين المرأة المتوحشة المكبلة بالأصفاد والمرأة الحديثة المتحررة - تفرض نفسها بهذه الشكل، بمحو موقع النساء "الأنديجان" (السكان الأصليين بحسب التسمية الاستعمارية) (3)، داخل نُظم الهيمنة الاقتصادية والإيديولوجية والثقافية وعن طريق لامرئية الاستراتيجيات التي يعتمدْنها للبقاء قبل أن تشهد آثارُ مسيرهن على أنهن في الحقيقة موجوداتٌ، وأنهن، سواءٌ أطُوّعن أم لم يُطوَّعن، فاعلات مؤثرات.
وفي إطار نسق البديهية هذا ذاته، يُردَّد على مسامعنا أن النساءَ الجزائريات بعد الاستقلال "أُرجعن إلى البيت"، أي إلى الأسرة. مثل أشياء تُنقل من مكان إلى مكان؟ من الاستعمار إلى التحرير، من الحرب إلى المحيط الأسري، بمحض كلمات تنسى أن هذه التحولات تندرج في نطاق تغيرات قلبت زمن العالم رأساً على عقب.
لم يكن أحدٌ يحسب لهنّ حساباً حين اندلعت ثورة التحرير الوطني، لا جبهةُ التحرير التي لم تجشّم نفسها عناء إحصاء المناضلات منهنّ - "قررنا ألا نحصي النساء"، يقول أحد قادة فيدرالية الجبهة في فرنسا في مذكراته ولا الاستعمار. فعندما نشرت الصحافة أسماءَ أولى المجاهدات المعتقلات بدءا من 1955، ظُنِّنّ مصرياتٍ أو" شيوعيات" من أصول أوروبية.
كتب فرانتز فانون في 1959، والثورةُ الجزائرية في عامها الخامس: "عندما يستقبل رجلٌ زوجته الخارجةَ من معسكر فرنسي مكثت فيه أسبوعين، ويقول لها صباح الخير، ويسألها إن كانت جائعة، ويتفادى النظر إليها ويطأطئ رأسه، لا يعود ممكناً افتراضُ أنّ الأسرةَ الجزائرية قد بقيت على ما كانت عليه (4) ". على الرغم من هذا التحذير الفانوني، لا تزال صورةُ النساء الثانيةُ هذه فاعلة لا تُساءَل. واستدلالاً على صحتها، سيُشدّد مثلاً على أن عدد النساء في أول مجلس وطني بعد الاستقلال لم يكن يتجاوز الخمسة. وليكن. لكن كيف يُنسى أننا ندين لإحداهنّ، وكانت من المجاهدات، بقانون صُودق عليه سنة 1963 وحمل اسمها، قانون "ستيفاني خميستي"، الذي حدّد سنّ الزواج القانوني للرجل بـ 18 سنة و بـ 16 سنة للمرأة، ما كان حينذاك ثورةً في مجمل العالم العربي .
ويشهد هذا التغيير، الذي يبدو غير ذي شأن، على مقاومات النساء السياسية وسيبقى معلماً يُخبرنا عن مكانة النساء الحقيقية في المجتمع، وعمّا يتغيّر "بين جدران البيت". في 1998، لم تعد المتزوجات المتراوحة أعمارهن بين 15 و19 سنة يشكلن سوى 3 في المئة من عموم المتزوجات، وقد كنّ 50 في المئة سنة 1966. التطوراتُ هنا بينةٌ هائلة، فنسبة العازبات في سن الـ 20-24 سنة أعلى بـ 7 مرات منها في 1966، وبين من هن في سن 25-29 سنة أعلى ب 11 مرة منها في 1966 (5). باهرٌ حقاً عندما نعلم أن الزواج " سنة نبويةٌ لدى المسلمين".
وبين المرأة-الأيقونة وتلكنّ اللواتي "أُرجعن إلى البيت"، تتأرجح تمثلات النساء الجزائريات بين التمجيد والامتهان. وبين البيْنين ما يشبه فراغاً يتعيّن ملأُه دون تنازلٍ لسرديات المهيمنين الساعين إلى فرض مصالحهم الإيديولوجية والمادية بإيلاء النساء دور التابع المشايع لا غير.
التاريخ الكولونيالي لنزع حجاب الجزائريات
06-10-2016
الجزائر: فاطمة م. امرأة " قاعدة في البيت"
21-03-2020
تُرى هل للنساء من تاريخ ؟ بطرح هذا السؤال - وجِدّته مثارٌ للعجب فهو لم يُطرح في فرنسا مثلاً قبل منتصف السبعينيات -، افتتح الفكر النسويّ والتاريخ، كحقل علمي، بحراً معرفياً جديداً تضعضع فيه من اليقينيات الكثير. في نطاق هذا التاريخ التي ينكتب من جديد، هل للنساء المسلمات، العربيات، الأمازيغيات، بدورهن من تاريخ ؟ يكفي أن نمنح أنفسَنا هذه الحرية كي تفرض سرديةٌ أخرى نفسَها رغم ضحالة الآثار المكتوبة والأرشيف.
عدد النساء في أول مجلس وطني بعد الاستقلال لم يكن يتجاوز الخمسة. وليكن. لكن كيف يُنسى أننا ندين لإحداهنّ، وكانت من المجاهدات، بقانون صُودق عليه سنة 1963 وحمل اسمها، قانون "ستيفاتي خميستي"، الذي حدّد سنّ الزواج القانوني للرجل بـ 18 سنة و بـ 16 سنة للمرأة، ما كان حينذاك ثورةً في مجمل العالم العربي.
عندما يدلي المجاهدون بشهادات عن النساء الجزائريات إباّن الحرب، يقولون: "لقد ساعدن"، وعندما يُدفعون دفعاً إلى إعمال ذاكرتهم، يشرد بغتة ذهنُهم: "كنّ بالغات الشجاعة" ثم يلوذون بالصمت، كما لو أن ما يقولون يفاجئهم هم أنفسَهم. الصمت. ماذا يقول لنا التاريخ عن الفتاة جميلة بوحيرد، بنت حي القصبة، تلك المتمرنة في الخياطة التي وجدت نفسها في 1957 تنوء بحِمل أيقونتها وسنُّها بالكاد أربع وعشرون ربيعاً؟ مساءلةُ تاريخ النساء الجزائريات في حرب التحرير الوطني مساءلةٌ لتاريخ الصمت، فللصمت تاريخ.
الصمت والأيقونة
"أخاف أن تكون كلماتي ضعيفة": بهذه الكلمات اعتذرت جميلة بوحيرد في حفل تكريم أقيم على شرفها ببيروت سنة 2014. كيف لا يُكْنه خوفُ الكلمات البيّنُ هذا حين تعبر عنه مناضلة من مناضلات جبهة التحرير التاريخية مُجدت لشجاعتها ولم يستنفذ تحدّيها الموتَ من أجل استقلال الجزائر لا التعذيبُ الذي كابدته ولا المقصلةُ التي وعدتها بها المحكمة العسكرية الاستعمارية؟
صورة الأيقونة صورةٌ ملتبسة، فهي تشهد على الميلاد والموت معاً. مجرّد ذكر اسمها تدوينٌ لميلاد أمة ولمصرع مليون ونصف مليون شهيد، وهو رقمٌ، رغم كونه مضخّماً، لا ينمحي لأنه يروي ضريبة الدم، ومقاساة الشعب الجزائري وهو يجابه شناعة الاستعمار. أيُطاق عبءٌ كهذا دون خشية أن تكون الكلمات "ضعيفة"؟ وهل من سبيل لجعلها أقل خفّة غيرِ الإعراض عن الكلام؟
هو صمت الموتى ذاته الذين يسكنونها، وهي لا تخفي ذلك، وكأنما حُكم على سلطان المرأة-الأيقونة أن يكون مرادفُ البقاء هو حبسَها في هذا الجوار، في هذا الوفاء لذاكرة الراحلين؟ كيف لا يُخشى ألاّ تناسبَ الكلمات المقام فتخونَ لا تمثال الأيقونة بل تمثال الضحايا؟ أن تكون أيقونة لا يعفيك من الصمت بل، عكس ذلك، فهو يفاقمه.
الأيقونة أيضا قدرةٌ ملتبسة، قدرة الكشف والمواراة في آن واحد، هي جسد-واسطةٌ يتحدث دون كلام، جسدٌ يؤرخ منبئاً: في الجزائر، وفي حرب التحرير، وعبر جسد النساء، حدث شيءٌ خارق للعادة. الفدائية وتلك التي حملت السلاح في الجبال ، الفلاحة وساكنة المدينة، الطالبة والأمّية، الممرضة والعاملة، في الجزائر وفرنسا، كلّهن قمن بما لم يخطر ولا يخطر على بال : مقارعة فرنسا الاستعمارية.
عندما يدلي المجاهدون بشهادات عن النساء الجزائريات إباّن الحرب، يقولون: "لقد ساعدن"، وعندما يُدفعون دفعاً إلى إعمال ذاكرتهم، يشرد بغتة ذهنُهم: "كنّ بالغات الشجاعة" ثم يلوذون بالصمت وكما لو أن ما يقولون يفاجئهم هم أنفسَهم. دفع "الإخوة" عن أنفسهم ما كان تهديداً لأسس نفوذهم، فاستولوا على سلطة الكلمة وأعادوا، بما يناسبهم، كتابةَ سردية الحرب.
لم يقدِّمن فحسب "دعماً معتبراً لاستقلال بلادهن" كما تقول المؤرخة ميشال پيرو، وهي مرجعيةٌ لتاريخ النساء في فرنسا (6)، ولم "يتوجب عليهن الانصهار في المعركة الوطنية ودعمُ الرجال" كما تقول، من جانبها، مختصةُ العلوم السياسية خديجة محسن-فينان(7). لا، فقد قدمن للتحرر الوطني خبرتَهن الحميمية بما هو الاستعمار، خبرةَ "أنديجان الأنديجان" (بمعنى عبيد العبيد) (8) ، وكراهيةَ الاحتلال التي منحتهن تلك القوة المدهشة للخروج من محبسهن، من الأسرة، والقوّامين والتابوهات، ولارتداء زيّ الحرب، ذلك الميدان الذي جرت العادة أن يكون حكرا للرجال. ولم يكتفين بخوضها، فبعد بعض الوقت لم يعد يُرى غيرُهن في الجرائد والجبال والمحاكم والسجون، بل وحتى في عنابر التعذيب.
10949 امرأة، أو التاريخ المنسي للمناضلات الجزائريات
12-03-2015
زينة حرايق: مناضلة جزائرية قوية.. ومظلومة
26-09-2016
وفي هذا المضمار فإن الثائرة جميلة بوحيرد مثالٌ نموذجي للأسطورة ولفظاعة الحرب في آن واحد. إنها مِن "واضعات القنابل"، إحدى اللواتي غيّرن جغرافيا العنف، ناقلاتٍ إياه من "المدينة العربية" المحاصرة بالمظليين إلى "المدينة البيضاء" في ساعة تناول الأقدام السوداء مشاريب ما قبل العشاء. كانت تعرف القصبة كما يعرفها رجلٌ وأحسن مما يعرفها البوليس. جُرحت بالرصاص وهي تحاول الإفلاتَ، مع قادة "المنطقة المستقلة" (الجزائر العاصمة) العسكريين، من قمع سنة 1957 المريع، محملةً بوثائقَ سرية. ومن المستشفى إلى عنبر التعذيب ومن عنبر التعذيب إلى المحكمة العسكرية التي قضت عليها بالإعدام بالمقصلة، فيما كان المستوطنون يريدون الفتكَ بها دون محاكمة. وفضلاً عن كل هذا، كانت جميلةً كطلوع النهار. يا لكل هذا من عبءٍ على كاهل امرأة واحدة، "الأختِ" وسط "الإخوة".
توجّب انتظار 1990 كي يصدر في الجزائر "النساء الجزائريات في الحرب" الذي استقته دانيال جميلة عمران مينه، المجاهدةُ التي أصبحت مؤرخة، من أطروحتها الجامعية، فغادرن به صمتَ التاريخ. وفي تقديمٍ له سنة 2014، كتب أندريه ماندوز المؤرخ الفرنسي، الذي ساند جبهة التحرير خلال الحرب: " تُقُبِّل التنويهُ بالأعمال الخارقة وأقدارِ بعض النساء الاستثنائية، لكن لم يبدُ أنه انتُبِه - أو ربما تُظُوهر بعدم الانتباه - إلى أن هذه الأعمال الفردية كانت تفترض شبكة خلفية عملاقةً من نسج حشود متعاظمة من النساء الجزائريات اللواتي، بطريقتهن الخاصة، "كَونّ جبهة واحدة"(9). لكن وجودَ المضطَهد، كما تقول المناضلة النسوية عالمة الاجتماع كريستين دلفي، "لا يُستساغ إلا خافتاً غير مبين"، وقد دفع "الإخوة" عن أنفسهم ما كان تهديداً لأسس نفوذهم، فاستولوا على سلطة الكلمة وأعادوا، بما يناسبهم، كتابةَ سردية الحرب.
وضع فيلم "معركة الجزائر" طيّ النسيان فيلم يوسف شاهين "جميلة"، الذي صُوّر على عجل سنة 1958 بغرض تعبئة الرأي العام ضد تنفيذ حكم الإعدام الوشيك في جميلة بوحيرد، وأسهم في حملة كانت بمثابة انتفاضة لمجمل المناهضين للاستعمار عبر العالم، شهدت هوشي منه يتجند من أجلها، وفيروز ووردة الجزائرية والمصرية سعاد محمد يغنينها، وجاك فيرجيس، محاميها الذي أصبح فيما بعد زوجَها
اختفت من سردية فيلم "معركة الجزائر" أسماء جميلة بوحيرد وزهرة ظريف وسامية لخضاري، أولى ثلاث مقاومات فجّرن أولى قنابل معركة الجزائر الحقيقية. وبما أن "الناس يعلمون" فلنساعدهم على النسيان بإبدال أسماء النساء بأسماء أهدافهن، "الكافتيريا" و"الميلك بار" و"الموريتانيا". إبدال أسماء بأشياء: ما أبلغه من توثيق لبناء محو "البنات". الفيلم هو في الحقيقة أرشيفٌ لمخيال الذكورة حين تستشعر التهديد.
إعادة العالم إلى ما كان عليه والتذكيرُ بأن الأيقونة كان لها "رئيس" ذو اسم، قائدُ "المنطقة المستقلة" ياسف سعدي (1957). ولكي يمتنع نسيان ذلك، تحوّل ياسف سعدي بعد الاستقلال إلى منتج سينمائي وممثل على الشاشة لمسيرته الشخصية إبّان الحرب، بل هو من اختار جيلو پونتكورفو مخرجاً لفيلم "معركة الجزائر". فيلمٍ له من القوة والتأثير ما استحق به مكانة بين روائع السينما وجعل التاريخ الرسمي في الجزائر يعدُّه أرشيفاً للواقع، والمؤرخَ الفرنسي بنجامان ستورا، مختصّ الحرب ضد الاستعمار، يمنحه "قيمةً وثائقية". وليكن. لكن ما الذي يوثّقه من وجهة نظر النساء؟
أولاً، وضع "معركة الجزائر" طيّ النسيان فيلم يوسف شاهين "جميلة"، وكان قد صُوّر على عجل سنة 1958 بغرض تعبئة الرأي العام ضد تنفيذ حكم الإعدام الوشيك في جميلة بوحيرد، وأسهم في حملة كانت بمثابة انتفاضة لمجمل المناهضين للاستعمار عبر العالم، حملة شهدت هوشي منه يتجند من أجلها، وفيروز ووردة الجزائرية والمصرية سعاد محمد يغنينها وجاك فيرجيس، محاميها الذي أصبح فيما بعد زوجَها، يُصدر بمعية جورج أرنو كتاب "من أجل جميلة بوحيرد" (باريس،منشورات مينوي، 1957).وقد مجّد كل هؤلاء، رجالا ونساء، "مفاخرَها ومعاناتها، ما كان حالة فريدة، فلم يُعرف فيلم ولم تُعرف أغنيةٌ خلال الحرب كُرّست بهذا الشكل لشخصية واحدة" (10).
وبينما يصوّر فيلم يوسف شاهين جميلة بوحيرد على مصطبة ترسم خططًا تسترشد بها "واضعاتُ القنابل"، يصوّرها "معركة الجزائر" واقفةً في طابور، صامتةً، تنتظر أن يعطيها ياسف سعدي القفة التي تحتوي قنبلتها. فالفدائية محضُ أداة من أدوات عبقرية "القائد" العسكرية. في 2013، قال ياسف سعدي في حوار مع "تلفزيون النهار" الجزائري، وهو يروي دوره كمنتج للفيلم، واختيارَ الممثلات لتقمص دور الفدائيات: "أتينا بالبنات، واخترنا واحدة لدور جميلة بوحيرد، وواحدة أخرى لدور فلانة... دون ذكر أسمائهن، فالناس يعلمون، عندما أتحدث عن هذه القنبلة أو تلك، من وضعها في هذا المكان أو ذاك".
يا للإنجاز العظيم، فبسحر سينماه، اختفت من سرديته أسماء جميلة بوحيرد وزهرة ظريف وسامية لخضاري، أولى ثلات مقاومات فجّرن أولى قنابل معركة الجزائر الحقيقية. وبما أن "الناس يعلمون" فلنساعدهم على النسيان بإبدال أسماء تلكن النساء بأسماء أهدافهن، أسماء أنقاض مدمّاة، أنقاض "الكافتيريا والميلك بار والموريتانيا". إبدال أسماء بأشياء : ما أبلغه من توثيق لبناء محو "البنات".
"معركة الجزائر"، الذي كتب قصّته قوميٌّ جزائري وشيوعيٌّ إيطالي، هو في الحقيقة أرشيفٌ لمخيال الذكورة حين تستشعر التهديد، فهو ينصّب الرجال مجدداً في قلب الحرب، مذكّراً بأن النساء لم يكنّ سوى أطراف لها: مظليون ومجاهدون، رجال يصارعون رجالاً، وإن لم تتكافأ أسلحتهم. فيلم يضفي من الجمال منتهاه على أجساد الرجال، ياسف سعدي وعلي لا پوانت، "الصبي الشقي" الذي وهبته الثورة وسامة الآلهة، في وجه بيجار وماسو مرتدييْن نظارات المشاهير السوداء وقد ضاق بعضلاتهما زيّ المظليين الفهدي.
يوثق هذا الفيلم فنّ كتابة السرديات المهيمنة الذي يحول النساء، فاعلات التاريخ، إلى نساء-أشياء يُجرّدن من كل شيء حتى من أسمائهن، ويبيّن إلى أي حدّ لامرئيةُ النساء في التاريخ هي محصلةُ بناءٍ ينتج سلطة المهيمنين ويعيد إنتاجها.
المرأة-الأيقونة وتلكنّ اللواتي "أُرجعن إلى البيت"، تتأرجح تمثلات النساء الجزائريات بين التمجيد والامتهان. وبين البيْنين ما يشبه فراغاً يتعيّن ملأُه دون تنازلٍ لسرديات المهيمنين الساعين إلى فرض مصالحهم الإيديولوجية والمادية بإيلاء النساء دور التابع المشايع لا غير.
هل من حقيقة إذاً غير حقيقة واحدة، حقيقة "القائد" ؟ يحق لنا أن نشكّ في ذلك: أليس الشك أولى درجات الحرية؟ لنَرْتَبْ في الكلمات، وفي تمثّلات مبتورة من سياقها تضع النساء في سجن "البديهيات"، دون منجى لهن منه، وفي "مكتوب" يمحو المقاومات وما صاحبها من تقويض للـ"بديهيات" فلا يتنبأ بغير ما سيأتي من خضوع، مضخّماً إيّاه بما يجعله يطغى على كل ما عداه.
• ترجمه من الفرنسية ياسين تملالي
محتوى هذه المقال هو مسؤولية السفير العربي ولا يعبّر بالضرورة عن موقف مؤسسة روزا لكسمبورغ.
1) دانيال جميلة عمران مينه، "النساء الجزائريات في الحرب (Les femmes algériennes dans la guerre)، تقديم أندريه ماندوز،الجزائر، منشورات البرزخ، 2014، ص 37.
2) علي هارون، "الولاية السابعة : حرب جبهة التحرير الوطني في فرنسا" (La 7e wilaya, la guerre du FLN en France, 1954-1962)، باريس، لوسوي، 1986.
3) أنديجان" من الفرنسية "indigène" (السكان الأصليين أو الأهالي) تسمية كانت تطلق إبان الفترة الاستعمارية على سكان الجزائر غير الأوروبيين (المترجم).
4) فرانتز فانون، عام الثورة الجزائرية الخامس (L’An 5 de la révolution algérienne)، باريس، ماسپيرو، 1960 (طبعة مزيدة)، ص 110.)
5) زهية وضاح بديدي، "أن تكون عازبا وعمرك 30 سنة" (Avoir trente ans et être encore célibataire : une catégorie émergente en Algérie، مجلة Autrement، العدد رقم 34، 2005/2، ص 29-49.
6) دانيال جميلة عمران مينه، "نساء في حرب الجزائر (Des femmes dans la guerre d’Algérie)، تقديم ميشال پيرو ، إديك، 2004.87)
7) خديجة محسن-فينان، مقدمة "صورة المرأة في المنطقة المغاربية" (L’image de la femme au Maghreb)، مؤلف مشترك تحت إشرافها، آرل، آكت سود / الجزائر، منشورات البرزخ، 2008.
8) تعني "أنديجان الأنديجان" في هذا السياق ما يمكن ترجمته بـ "عبيد العبيد"، كناية عن سوء وضع النساء من الأهالي (الأنديجان) إبّان العهد الاستعماري مقارنه بالرجال رغم أن كليهما مستعمَر مضطهد (المترجم).
9) دانيال جميلة عمران مينه، "النساء الجزائريات في الحرب (Les femmes algériennes dans la guerre)، المصدر السابق ص 14.
10) دانيال جميلة عمران مينه، "النساء الجزائريات في الحرب (Les femmes algériennes dans la guerre)، المصدر السابق ص 23.