فلسطين: النكوص المتكرر

يسير الفلسطينيون نحو إتمام العقد السابع لنكبتهم الكبرى. كما مضى ما يقرب الآن من خمسين عاما على انطلاق العمل الفدائي. ولا نعرف متى بالضبط تحوّر المسمى الذي كان يطلق على الفصائل الفلسطينية المسلحة من " الثورة الفلسطينية" إلى "المشروع الوطني الفلسطيني". وقد يكون من المناسب تفسير هذا التحول بتصاعد الطموحات في الكيانية الفلسطينية لدى قيادة منظمة التحرير، أي من الرغبة بالتحرير الى الرغبة العارمة بإقامة
2014-11-04

عرفات الحاج

كاتب من فلسطين


شارك

يسير الفلسطينيون نحو إتمام العقد السابع لنكبتهم الكبرى. كما مضى ما يقرب الآن من خمسين عاما على انطلاق العمل الفدائي. ولا نعرف متى بالضبط تحوّر المسمى الذي كان يطلق على الفصائل الفلسطينية المسلحة من " الثورة الفلسطينية" إلى "المشروع الوطني الفلسطيني". وقد يكون من المناسب تفسير هذا التحول بتصاعد الطموحات في الكيانية الفلسطينية لدى قيادة منظمة التحرير، أي من الرغبة بالتحرير الى الرغبة العارمة بإقامة كيان ما للفلسطينيين تحكمه المنظمة. والشائع في تناول مآلات المشروع الوطني الفلسطيني هو تجاهل دور الجهاز العملاق الذي بنته المنظمة: حاجته لأرض يتموضع فيها ولمواطنين يمارس عليهم سلطته. فكانت بذرة أوسلو التي انبتت مشروع الحكم الذاتي والسلطة الفلسطينية. وبفعل اتفاقية أوسلو تحول الجزء الأكبر من هذا الجسم الى جهاز بيروقراطي للسلطة الفلسطينية.

الداخل المحتل: تحرير المجتمع

شهد الداخل المحتل في الثمانينيات نمو سياق عمل مختلف تمثل في محاولات تحرير حيز ما للفلسطيني الواقع تحت الاحتلال وإخراج ما يمكن إخراجه من قبضة الاحتلال وأجهزته. عبرت أنماط من النضال القطاعي الوطني عن هذا الجهد الذي كان يستند بالأساس للجان العمل التطوعي، وبنيت عليه مؤسسات جديدة مرتكزة على رؤى تمزج النضال النقابي بالوطني، حيث لعب اليسار الفلسطيني الدور الأساس في صوغها نظريا وتكريسها عمليا: اتحادات المزارعين والأطباء ومجالس الطلبة ذات القاعدة الشعبية الحقيقية التي عملت مع الجمهور مباشرة ونجحت في كثير من النقاط في إيجاد بدائل محلية، حررت اجزاء من المجتمع الفلسطيني من قبضة الاحتلال. وتجسدت هذه التجربة في انتفاضة 1987، إضافة لكون هذه المؤسسات هي الأداة الأساسية في يد قيادة الفصائل بالداخل لتحمل عبء آلاف الجرحى والأسرى بفعل القمع الإسرائيلي. فالفراغ الخدماتي الذي طال قطاعات مختلفة، بتأثير المقاطعة الفلسطينية لمنظومة الإدارة المدنية الصهيونية الملحقة بالحاكم العسكري، دفع بهذه الاتحادات والمؤسسات المجتمعية لتتقدم لملئ الفراغ، ولانتهاج أنماط إنتاجية قادرة على مقاومة العقوبات المتراكمة بحق السكان المنتفضين، وللمساهمة عبر أيام العمل التطوعي التي شارك فيها الآلاف في دعم صمود المزارعين بوجه تهديدهم بمصادرة أراضيهم، أو بتوفير رعاية صحية في مناطق تعرضت لعقوبات جدية من قبل الاحتلال. هذه الفعاليات كانت تتحول لمواجهات مباشرة مع جنود الاحتلال فتقدم صورة حية عن ارتباط "روافع النضال" بعملية النضال نفسه.
تم بتر هذا المسار بمجرد دخول السلطة الفلسطينية للأراضي الفلسطينية، وتراجعت تماما رؤية المجتمع الذي ينزع نفوذ الاحتلال من تفاصيل حياته في كل حي وشارع، إن لم يكن بإمكانه تحرير الأرض من الاحتلال. وبتأثير الضخ المالي الكبير للدول المانحة، سارعت هذه الجمعيات والتجمعات النقابية لاتخاذ إجراءات سريعة واحداث تعديلات هيكلية لتنتقل من مفهوم التطوع والشراكة المجتمعية الى مفهوم العمل وفق برامج ومشاريع ممولة:
فـ"مؤسسة الإغاثة الزراعية" التي بدأت نشاطها أواخر السبعينات على شكل تجمع لحماية المزارعين والأرض من سياسة المصادرة الإسرائيلية تعتبر احدى المؤسسات الرائدة في هذه التجربة. تؤرخ المؤسسة لذاتها انها بدءا من العام 1993 و"نظرا للثقة الكبيرة التي اكتسبتها الإغاثة من مختلف الجهات المحلية والدولية، كان لا بد من أن يتوج هذا العمل الدؤوب بضرورة الانتقال إلى مرحلة المأسسة وذلك بالتزامن مع تبلور السلطة الوطنية الفلسطينية على الأرض".
http://www.pal-arc.org/ahistory.html
و"لجان العمل التطوعي" لم يعد لها أي وجود الآن، و"اتحاد لجان العمل الصحي الفلسطيني" الذي قدم وعده وحلمه عند تأسيسه عام 1985 بـ"رعاية صحية للجميع"، تناظر عياداته اليوم العيادات الخاصة من حيث السعر رغم ان موازنته تضخمت الى ملايين الدولارات. http://gaza-health.com/ar/index.php?act=page&id=1

الإسلاميون يقاتلون

باختيارها المقاومة بعد انسحاب "المشروع الوطني الفلسطيني" منها، واجهت الحركات الإسلامية في فلسطين الرمزية التاريخية لمنظمة التحرير كقائد للكفاح الوطني الفلسطيني، ما دفع بأبناء "حماس" و"قسم" (الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي آنذاك) للسجون وأبشع أنواع التعذيب، علاوة على الحرمان الوظيفي، في ظل نوع من التنكر المجتمعي لمشروعهم في بدايات سنوات أوسلو (1994-2000). وقد فجر من وقف ضد أوسلو من أبناء هذين الفصيلين أجسادهم ضد اهداف للعدو الصهيوني لإيقاف مشروع التسوية. أثمرت هذه التضحيات جماهيريا في حالة حماس التي توسع تأييدها، وكذلك اثبتت جدواها سياسيا مع اندلاع انتفاضة الأقصى لتلتحق معظم فصائل المشهد السياسي الفلسطيني بهذا المسار. وبحلول العام 2005، كانت حماس القوة الأهم في قطاع غزة كقوة مقاومة، لتصل الأمور في 2007 الى سيطرتها على القطاع وإخراج ما تبقى من السلطة الفلسطينية منه. وقد ثبتت أهمية الاستثمار في جهاز عسكري ناجع وذو عقيدة قتالية صلبة في ساحة مثل فلسطين، خصوصا إذا كان هذا الجهاز هو الذي صد ثلاث حروب إسرائيلية في اقل من 8 سنوات.
ولكن وحتى يستمر ذلك فهو بحاجة لمنظومة من التحالفات الداخلية والخارجية وتركيبة اقتصادية اجتماعية تحمله. وفي هذا الجانب، استطاعت مؤسسات حماس الخيرية (كـ"جمعية الصلاح" مثلا) لعب دورها في نهاية التسعينيات ومطلع الألفية الثانية. لكن الأمر كان ولا يزال أكثر تعقيدا من ان تحمله ثقافة الإحسان والعمل الخيري، خصوصا حينما أصبحت حماس تدير القطاع بعد 14/6/2007. فلمواجهة الأعباء الجديدة، أقامت حماس منظومة حكومية بدت كأنها استنساخ للجسم الإداري للسلطة، إذ استبدلت فيها العناصر الفتحاوية المستنكفة عن العمل بعناصر أخرى. إضافة لذلك، نفذت إصلاحات إدارية جادة تقلل من الفساد والتسرب المالي في ظل موازنة متقشفة بلغت حوالي 2 مليار دولار، مقابل موازنة السلطة التي كانت تبلغ 5 مليارات دولار سنويا. وقد تم تركيب هذا الجسم كما لو كان هناك دولة حقيقية واستقرار دائم، وتم تجاهل السبب السياسي في وجوده، وهو تولي المسؤوليات المدنية التي لا يمكن ان يتولاها الجسم العسكري للمقاومة، أي إدارة عملية تلبية احتياجات البيئة الحاضنة. النموذج الاقتصادي الاجتماعي المتبنى كان خليطا من مشاريع مركزية يشرف عليها هذا الجسم ومن التوسع في سياسة تعزيز الاستثمار المحلي من قبل رؤوس الأموال الفلسطينية. وكان فخره هو الاحتفاء بتجميل واجهة غزة البحرية وافتتاح المزيد من المشاريع السياحية الكبرى التي بادر اليها مستثمرون فلسطينيون من القطاع والضفة. أعفيت هذه المشاريع الكبرى من الضرائب، إذ "ينص القانون على إعفاء أي مشروع رأسماله أكثر من 100 ألف دولار من الضرائب، وإعفاء المشاريع السياحية من أي ضرائب على ما تستورده".
وبذلك بقي العبء الضريبي في قطاع غزة تتحمله المشاريع الصغرى والورش والمزارع، التي شكلت النمط الاقتصادي الذي كان يقوم عليه بالفعل الاقتصاد في الضفة والقطاع حتى قدوم السلطة 1994. وهذا النمط هو بالتأكيد اكثر قابلية للبقاء من المشاريع السياحية التي تحتاج للاستقرار وليس لوضع الحرب، لصعوبة استهداف إسرائيل لآلاف الورش، بينما يمكنها ضرب مصنع ضخم أو استثمار عقاري. المحصلة أن النمط الاقتصادي الذي تم الاستثمار فيه هو نمط "محب للسلم"، بجانب انه سمح للأثرياء ان يزدادوا ثراء ويساهم في زيادة سوء وضع معظم أهالي القطاع المحاصر، وهم البيئة الحاضنة للمقاومة، الذين تم التعامل معهم كحالة إنسانية تتولاها مؤسسات الإغاثة والإحسان الدولية والمحلية. وبنظرة سريعة لطبيعة المطالب الفلسطينية في اتفاقيات التهدئة السائدة في الأعوام الأخيرة بين الفصائل والعدو، يمكن ان نلحظ انها سعت للإجابة على احتياجات المنظومة الاقتصادية القائمة بدلا من ان تشكل هذه المنظومة بديلا عن حاجة المقاومة لصفقات جزئية مع عدوها.
تنقل الباحثة ليندا طبر في دراستها عن " البدائل التضامنية في مواجهة الاستعمار" تعريفا للسيادة على الغذاء: "مفهومنا للسيادة الغذائية هو حق الأفراد في تطبيق سياساتهم واستراتيجياتهم الخاصة لضمان استمرارية الإنتاج وكذلك استهلاك وتوزيع الغذاء بما يضمن حق جميع أفراد الشعب في الغذاء". بالإمكان تعميم هذا المفهوم عن السيادة على الغذاء على احتياجات أخرى للإنسان الفلسطيني الواقع تحت الاستعمار. وقد تنجح بدائل تضامنية كالتي سادت في عقد الثمانينات في تحرير الفلسطينيين من القيود التي تفرضها منظومة الاقتصاد المرتبطة بالاستعمار. فهذه القيود تشكل دافعا للنكوص نحو تطبيع الفلسطينيين لوضعهم مع الحالة الاستعمارية ومحاولة التعايش معها، بدلا من الايمان بان كل بقعة محررة ستكون حتما محاصرة وعليها نسج خياراتها بناء على ذلك، من دون أي أوهام.

• كاتب من فلسطين
            
 

مقالات من فلسطين

خالدة جرار مسجونة في قبر!

2024-11-21

"أنا أموت كل يوم، الزنزانة أشبه بصندوق صغير محكم الإغلاق، لا يدخله الهواء. لا يوجد في الزنزانة إلا دورة مياه ونافذة صغيرة فوقه أغلقوها بعد يوم من نقلي إلى هنا...

اقتصاد البَقاء: الدّلالةُ والمفهوم في ظلّ حرب الإبادة

مسيف جميل 2024-11-17

لا توجد جدوى للصمود، ما لم يرتبط بالتصدي للاحتلال. استخدم المانحون "الصمود" كإطار جديد، يتماشى مع المرحلة الفلسطينية، ويراعي المشاعر الفلسطينية والحس الوطني السياسي، وكأن التنمية تحدث بتسمية وتبنِّي مصطلحات...

كلّ ما يتحدّى اكتمال الإبادة..

صباح جلّول 2024-11-10

شبعت أعين العالم أكلاً في مأساة غزّة. لن تغيِّر صور الموت ما لم يغيّره الموت نفسه. لذلك، فهذه هنا صور لقلبٍ ما زال ينبض، لملمناها من صور شاركها الصحافي يوسف...

للكاتب نفسه

الدين السعودي في غزة!

لسنوات خلت، حتى أواسط السبعينيات من القرن الماضي على الأقل، عرف سكان قطاع غزة مثلما هو الحال لدى بقية الفلسطينيين أن المذهب الإسلامي الفقهي الذي يعتنقونه هو المذهب الشافعي، نسبة...