لا يملّ أصحاب المعاشات (التقاعد) في مصر من مواصلة نضالهم المطلبي من أجل تحسين أوضاعهم المعيشية، برغم أن غالبيتهم قد تجاوز السبعين عاماً، ومع ذلك يراهنون على عنصر الوقت والنفس الطويل، رافعين شعار "لا يضيع حق وراءه مطالب".
ولم تكن الوقفة الاحتجاجية التي قاموا بها مؤخرا في ميدان طلعت حرب الشهير بوسط القاهرة هي الأولى، فقد سبقتها وقفات مماثلة في المكان ذاته الذي أصبح بديلا لـ"ميدان التحرير" المغلق أمام الاحتجاجات منذ إزاحة الإخوان من السلطة، نظراً لكون"ميدان الاحتجاج الجديد" الأصغر حجماً، يقع في نقطة مركزية لافتة للنظر في قلب العاصمة، ويعج بالحركة الدائمة، فضلا عن قيام عشرات من أصحاب المعاشات بتنظيم اعتصامات متكررة خلال السنوات الأخيرة، سواء أمام البرلمان ومجلس الوزراء أو وزارة المالية أو هيئة التأمينات.
ومعاناة أصحاب المعاشات الذين تقدر أعدادهم بحوالي 9 ملايين انسان، تعود لسنوات بعيدة، بحكم أن الأجور في مصر لها وضعية خاصة، إذ إن ثمة أجراً ثابتاً ضعيفاً، وآخر متغيراً أعلى بكثير. ويكون التأمين الاجتماعي على الأجر الأساسي وليس على المتغير. وحين يخرج العامل أو الموظف للتقاعد، يجد أن دخله قد تأثر بشكل هائل. ومع الارتفاع الجنوني المتواصل في الأسعار، وزيادة التضخم باطّراد، لا يتمكن أصحاب المعاشات من تلبية احتياجاتهم التي تزداد مع تدهور أوضاعهم الصحية بسبب التقدم في العمر وأمراض الشيخوخة، وارتفاع تكلفة العلاج والدواء، في ظل سوء خدمات التأمين الصحي، وعدم توفير رعاية طبية كاملة.
ولا تكفي الزيادة السنوية التي لا تتجاوز 10 في المئة في تحسين أوضاع المعاشات ومواجهة تغول الأسعار، بينما يرى اصحاب تلك المعاشات أن أموال صندوقهم هي في حكم الملكية الخاصة، وأن عوائدها تكفل لهم دخلا أفضل مما تمنحه لهم الحكومة، وهي تشعرهم وكأنهم يتلقون إعانات أو هبات بشكل مهين، وبعد أن يُبح صوتهم بالشكوى.
وثمة شريحة أخرى من أصحاب المعاشات ظروفهم تبدو أسوأ، وهم من تم تسريحهم من أعمالهم مبكراً، في ظل برنامج الخصخصة الذي كان متسارعاً قبيل انتفاضة 25 يناير، وخاصة في ظل حكومتي عاطف عبيد وأحمد نظيف. وقد تم إغراؤهم بمكافأة مالية مع معاش محدود غير كامل، وأجبر البعض على قبول هذا الإجراء وهم في منتصف العمر، بسبب بيع الشركات والمصانع الحكومية لمستثمر هو في الأغلب عربي أو أجنبي، فإذا بالمكافأة قد تبخرت في مشروع خاص فاشل، أو في الإسهام في تجهيز مستلزمات الزواج للأبناء، وبقي المعاش الهزيل، مع العجز عن توفير عمل بديل، لأن طابور البطالة يتزايد يومياً حتى بين الشباب صغار السن ويعجز سوق العمل عن استيعابهم.
وكل هؤلاء راهنوا في تحسين أحوالهم على انتفاضة 25 يناير وشعاراتها المرفوعة التي تمزج الحرية بالعدالة الاجتماعية بالكرامة الإنسانية، وتصوروا أنها كفيلة بإنهاء معاناتهم. غير أن لا شيء من هذا تحقق، سواء في حقبة المجلس العسكري أو في ظل الإخوان. ومع ذلك لم يدب اليأس في قلوبهم، فكان رهانهم على الدستور الجديد ما بعد أحداث "30 يونيو" الذي غازل واضعوه من أجل تمرير هذه الفئة الواسعة، فكان النص على وضع حد أدنى ملائم للمعاشات، وهو ما يتمسكون به حالياً ويضعونه في مقدمة مطالبهم، فضلا عن ثقة قطاع منهم في الجنرال السيسي الذين لا يكفون عن مناشدته، وقد أرسلوا قبل أيام مذكرة تشرح مطالبهم وتدعوه لإصدار تعليمات بمراعاة أوضاعهم، بعد أن رأوا أن وعود رئيس الحكومة ووزير التأمينات الاجتماعية ووزيرة التضامن الاجتماعي، لا أثر لها على الأرض.
ومن الملاحظ، أن ثمة عقلاً سياسياً يحرك هذا النضال المطلبي، الذي يبدو سلمياً وهادئاً إلى حد كبير، وينظم ممارسة الضغوط، تارة بالاعتصام والتظاهر (الذي لا يقومون به إلا بعد أخذ تصريح من وزارة الداخلية)، أو بالمفاوضات مع مسؤولي الحكومة، بالإضافة إلى تقديم شكوى للنائب العام ضد مسؤولين سابقين يتهمونهم بإضاعة أموال التأمينات، وخاصة منهم وزير المالية الأسبق الهارب في لندن يوسف بطرس غالي، الذي ضمَّ أموال التأمينات للموازنة العامة وأدرجها في البورصة، ما أسفر عن خسارتها، فضلا عن لجوء قيادات أصحاب المعاشات المستمر للإعلام بعقد مؤتمرات صحافية أو إصدار بيانات في كل مناسبة، وحتى وسائل التواصل الاجتماعي لم يتركوها ودشَّنوا صفحات عبرها لشرح مطالبهم والترويج لها، ومحاولة لجذب التأييد لها جماهيرياً.
والتحرك المنظم يعود لوقوف شخصيات لها خبرة سياسية وتنظيمية وراء هذه المعركة المفتوحة، وقد انشأوا نقابة ثم اتحاداً ليكون هناك جهة مسؤولة تتحدث بصوت هذه الملايين من كبار السن.
مواضيع
أصحاب المعاشات في مصر.. نضال مطلبي بعقل سياسي
مقالات من مصر
المؤتمر العام السادس لنقابة الصحافيين في مصر: وصفة الخروج من عنق الزجاجة... فهل من مستجيب؟
جاءت نتائج استبيان أُجْرِيَ حول أوضاع الصحافيين، شارك فيه 1600 صحافي، صادمة. فقد أظهر أن 72 في المئة من المشاركين يتقاضون رواتب أقل من الحد الأدنى للأجور البالغ 6000 جنيه،...
ثمانون: من يقوى على ذلك؟
إليكم الدكتورة ليلى سويف، عالمة الرياضيات المصرية بالأصالة، البريطانية بالولادة، على صقيع رصيف وزارة الخارجية في لندن، تُعدُّ بالطباشير – ككل المساجين - أيام اضرابها.
الباب المُقفل: معضلة تعليم الفلسطينيين في مصر
هناك إصرار متزايد في أوساط أطفال وشباب جيل النكبة الفلسطينية الجديدة على حقهم في التعليم، وتشكيل مستقبلهم بأيديهم من جديد، على الرغم من الظروف القاسية عليهم. إلا أن ذلك، بالمقابل،...
للكاتب نفسه
مصر وترسيخ "مجتمع الخرافة"
ليس عاديا أن يتخطى مؤخرا معدل مشاهدة حلقة برنامج مصري عن الجن والعفاريت حد الثلاثة ملايين على الانترنت، ناهيك عن عدد مشاهدي التلفزيون، مع استثمار برامج إعلاميين آخرين هذا الشغف...
"تجنيد فتيات مصر" دعاية للجيش أم احتياج مجتمعي؟
دعوة تجنيد الفتيات في الجيش المصري واحدة من القضايا التي أخذت مؤخرا حيزا واسعا من الجدل المجتمعي ومن التركيز الإعلامي، فضلا عن مواقع التواصل الاجتماعي، جنبا إلى جنب مع الحديث...
الانتحار: صرخة احتجاج أم يأس من التغيير؟
ربما لا تكون أعداد المنتحرين في مصر ضخمة، لكن بالنظر إليها من زاوية أخرى غير إحصائية، وبالمنظور المجتمعي العام، فهي تعطي مؤشرات على تحول في بنية الشخصية المصرية التي باتت...