بتوقيعه على الاتفاق السياسي مع الفريق أول عبد الفتاح البرهان، طوى الدكتور عبد الله حمدوك مرحلة، وفتح الباب أمام مرحلة أخرى.
داخلياً، جاء الاتفاق ليضع حداً للحراك الشعبي الذي انطلق منذ عامين وكان يأمل بوضع السودان على طريق التحول الديمقراطي. أجهض الاتفاق ذلك التوجه، ومن ثم أضعف وجود العنصر المدني في مفاصل السلطة، وهو تطور له تبعاته الخارجية، إذ يعتبر السودان آخر قلاع الموجة الثانية من "الربيع العربي"، إثر التعثر الذي شاب التجربة التونسية.
فالإعلان السياسي حلَّ محل الوثيقة الدستورية التي كان طرفاها المجلس العسكري الانتقالي، ومجموعة "الحرية والتغيير" التي تمثل المدنيين. جاء الإعلان بترتيب جديد بين طرفين هما المكون العسكري من ناحية بقيادة البرهان، بينما اقتصر وجود المدنيين على حمدوك كفرد، مما يجعله أكثر ضعفاً، وأقل قدرة على تنفيذ ما يعتزم. وأهم من ذلك أن العسكريين أصبحوا هم المسيطرين على العملية الانتقالية، وبالتالي أكثر تحكماً في التأثير على الانتخابات المزمع أجراؤها بعد أقل من عامين، الأمر الذي يضع مسيرة السودان في اتجاه ترتيبات معهودة في المنطقة، تلعب فيها الجيوش الدور الأهم سياسياً واقتصادياً، إضافةً إلى أنه سينضم إلى واقع متشابه في مختلف أنظمة الحكم بعد انحسار موجة الانتفاضات، وهو ما يمكن أن يعضد من قدرة واستمرارية هذه الأنظمة.
بالعودة إلى الداخل السوداني، يتضح أن تضاريس المسرح السياسي تشهد متغيرات مهمة. فالحركة الانقلابية التي قادها البرهان تضع في واقع الأمر حمَلة السلاح من الجيش والدعم السريع وحركات الكفاح المسلح في جانب، والمكونات المدنية من أحزاب كانت تنضوي تحت راية "الحرية والتغيير" و"لجان المقاومة" في جانب آخر.
أدى فشل "قوى الحرية والتغيير" في تحويل الدعم الشعبي، والمساندة الدولية ضد الانقلاب إلى أوراق تفاوضية ومكاسب سياسية، إلى تطورين سلبيين: راحت هذه القوى تلهث للحاق بالشارع الذي تقوده "لجان المقاومة"، خاصةً بعد تهميشها على ضوء الواقع السياسي الجديد الذي أوجده الاتفاق. ومن ناحية أخرى، فإن بعض قياداتها كانت ضالعةً في "المبادرة الوطنية" التي أنتجت اتفاق البرهان وحمدوك.
وفي الوقت الذي نجح فيه الطرف الأول في خلق حقائق جديدة على أرض الواقع بعد الاختراق الذي حققه باستقطاب حمدوك بكل ما له من رمزية وقبول دولي، فإن الجانب المدني لجأ إلى الشارع متظاهراً بأمل إسماع صوته، وتغيير الأوضاع. لكنه يعاني من مشكلتين: إن الشارع الذي تؤثر فيه بصورة كبيرة "لجانُ المقاومة" يبدو متقدماً على القوى السياسية المدنية، وأنه هو الذي يرفع شعار اللاءات الثلاثة، بألا يكون هناك تفاوض مع العسكريين، ولا شراكة معهم، ولا عودة للوثيقة الدستورية الموؤدة، بينما "قوى الحرية والتغيير" كانت تقف عند مطالبتها بعودة الشراكة والأمور إلى ما كانت عليه قبل الانقلاب. ولهذا، وحتى على افتراض القبول من قبل القوى المسلحة بالعودة إلى الوثيقة الدستورية، وترتيبات ما قبل الانقلاب، فإنه من الصعب على "الحرية والتغيير" تسويق أي اتفاق من هذا النوع لدى لجان المقاومة، كما أنه من الصعب عليها إقناع المجتمع الدولي بالإبعاد الكلي للعسكريين من المشهد خلال الفترة الانتقالية.
انقسامات
كذلك أدى عدم نجاح "قوى الحرية والتغيير" في تحويل الدعم الشعبي، والمساندة الدولية ضد الانقلاب إلى أوراق تفاوضية ومكاسب سياسية، إلى تطورين سلبيين. فقد وجدت هذه القوى السياسية نفسها تلهث للحاق بالشارع الذي تقوده لجان المقاومة، خاصةً في ضوء تهميشها على ضوء الواقع السياسي الجديد الذي أوجده الاتفاق، ومن ثم الادعاء بأن لديها حضوراً وشعبيةً في الشارع. ومن ناحية أخرى، فإن بعض قيادات هذه القوى السياسية كانت ضالعةً في "المبادرة الوطنية" التي أنتجت اتفاق البرهان وحمدوك. ويُذكر أن من أبرز مهندسي هذا الاتفاق فضل الله برمة ناصر، الرئيس المكلف لحزب الأمة، وهو عسكري في المعاش. لكن المعارضة التي أبداها شباب الحزب، جعلته يتراجع عن دعم الاتفاق، بل طلب الحزب من ناصر والأمين العام للحزب، الواثق البرير، عدم حضور حفل التوقيع على الإعلان. ويرى بعض المراقبين أن الحزب يتبع التكتيك نفسه الذي مارسه من قبل، أيام زعيمه الراحل الإمام الصادق المهدي، حيث قبل ابنه عبد الرحمن العمل مستشاراً لعمر البشير على الرغم من وجود أبيه في المعارضة. وبرر الحزب ذلك بالقول إن عبد الرحمن اتخذ قراره ذاك منفرداً، وأنه لا يعكس موقف الحزب. وهو ما تكرر الآن بالقول إن الرئيس المكلف ناصر كان يتصرف بصفته الشخصية.
على أن الجديد هذه المرة، هو الحيوية التي أبداها الشباب، سواء داخل الأحزاب، أو لدى الأغلبية غير المنتمية حزبياً، وإصرارهم على إبعاد العسكريين من المشهد السياسي، بدليل المظاهرات المتكررة حتى الآن. ويبدو أن هذه المظاهرات ستستمر مدفوعةً بثلاثة عوامل رئيسية:
- شعور هؤلاء الشباب بحالة من الغبن تجاه العسكريين، وتحميلهم مسؤولية الفضّ الدموي للاعتصام في 2019 أمام القيادة العامة للقوات المسلحة، ولو من باب فشلهم في حماية المعتصمين، على فرض أنهم لم يكونوا مسؤولين مباشرة عن تلك المجزرة.
- ثانياً، هناك الأفق المسدود أمام هؤلاء الشباب بعدم وجود فرص للعمل أو الهجرة والانخراط في حياة طبيعية لبناء مستقبل ما.
ثلاثة عوامل ستحدد مستقبل انقلاب البرهان
04-11-2021
- وأخيراً هناك خيبة الأمل من أداء القوى السياسية، خاصةً تلك المنضوية تحت لواء "الحرية والتغيير" التي شكلت أحد أعمدة السلطة خلال العامين الماضيين، وذلك في جانبي الأداء الضعيف لكوادرها في المواقع السياسية والتنفيذية التي تسلموها، وعدم إتاحة الفرصة للشباب في أن يجدوا أنفسهم في هياكل الدولة الجديدة، إلى جانب الفشل في حسم التحقيق في جريمة فضّ الاعتصام، وعدم تشكيل المجلس التشريعي الذي كان يمكن أن يشكل متنفساً لهؤلاء الشباب.
تحديات
ولهذا فالتحدي الرئيسي أمام الإعلان السياسي هذا، وأمام حمدوك شخصياً، هو ضمان عدم حدوث المزيد من الخسائر البشرية، أو وقوع ضحايا إضافيين في المظاهرات الاحتجاجية، وأيضاً التمكن من تحقيق اختراق ما، وإبراز بعض الإنجازات التي يمكن أن تنعكس على حياة الناس العادية. وهذا يتطلب من الناحية الأخرى إقناع الولايات المتحدة والمؤسسات المالية الدولية والإقليمية بفك تجميد المعونات الاقتصادية التي كانت وعدت بها السودان، وقامت بتجميدها إثر انقلاب البرهان. وبهذا يظل دور واشنطن محورياً خاصةً إذا أجاز الكونغرس مشروع القرار الخاص بتوقيع عقوبات على الشخصيات التي تعيق التحول الديمقراطي، وكيفية تعامل إدارة بايدن مع القرار، علماً أن كلمة "مدنيين" الذين يفترض أن يقودوا المرحلة الانتقالية التي يصرّ عليها الأمريكان لا تعني بالضرورة "قوى الحرية والتغيير"، وهو ما يمكن ان يفتح مجالاً للمساومة.
لكن الجديد هذه المرة، هي الحيوية التي أبداها الشباب، سواء داخل الأحزاب، أو لدى الأغلبية غير المنتمية حزبياً، وإصرارهم على إبعاد العسكريين من المشهد السياسي، بدليل المظاهرات المتكررة حتى الآن.
من ناحية أخرى ظلت القوى السياسية السودانية تتبنى تقليداً يقوم على مواجهة أي حكم عسكري برصّ الصفوف، وبتجميد خلافاتها سواء داخل هيئاتها الحزبية التنظيمية، أو مع القوى الحزبية الأخرى، وأهم من ذلك تجميد أي نقد لتجربتها، وذلك بالتركيز على مواجهة العدو الرئيسي وهو النظام الانقلابي. حدث ذلك بعد انقلاب الفريق إبراهيم عبود في 1958 والنميري في 1969 والبشير في 1989. وبما أن الأول استغرق ست سنوات، والثاني 16 عاماً، والثالث قرابة الثلاثين عاماً، فإن ذلك أثر بصورة واضحة على الأحزاب التي عادت أضعف مما كانت عليه عند حدوث تلك الانقلابات.
السودان في مواجهة تحديات إعادة التأسيس
22-09-2021
قوى التغيير في السودان: هل تكسِر "الحلقة الشريرة"؟!
17-11-2021
ومع أن فترة العامين التي كان لـ"قوى الحرية والتغيير" القدح المعلى لم تكن كافيةً لتضع بصماتها على مشوار التحول الديمقراطي، إلا أنها كانت كافيةً للحكم على أن أداءها كان ضعيفاً. فبخلاف الفترتين الانتقاليتين في 1964 و1985 حيث استغرقت كل واحدة منهما فترة عام واحد فقط للإعداد للانتخابات، وتسليم السلطة إلى حكومة مدنية، فإن الترتيب هذه المرة كان طموحاً. فميثاق الحرية والتغيير الأول كان ينص على فترة انتقالية لمدة أربع سنوات، يتم فيها حسم قضايا الحرب والسلام، وعقد المؤتمر الدستوري، والإصلاح الاقتصادي، وتهيئة الملعب عبر تفكيك نظام الإنقاذ، ومن ثم تُجرى الانتخابات، وتوضع البلاد على طريق التحول الديمقراطي.
العسكريون اعترضوا على طول المدة، وتم الاتفاق فيما بعد أن تكون الفترة الانتقالية ثلاث سنوات. لكن بعد إبرام اتفاق سلام جوبا مع بعض الحركات المتمردة، تم الاتفاق على أن تبدأ الفترة الانتقالية مع بدء تنفيذ اتفاق السلام هذا، الأمر الذي أضاف سنةً أخرى إلى الفترة الانتقالية.
التحدي الرئيسي أمام الإعلان السياسي هذا، وأمام حمدوك شخصياً، هو ضمان عدم حدوث المزيد من الخسائر البشرية، أو وقوع ضحايا إضافيين في المظاهرات الاحتجاجية، وأيضاً التمكن من تحقيق اختراق ما، وإبراز بعض الإنجازات التي يمكن أن تنعكس على حياة الناس اليومية.
على الرغم من أن فترة العامين التي كان لـ"قوى الحرية والتغيير" فيها القدح المعلى، لم تكن كافيةً لتضع بصماتها على مشوار التحول الديمقراطي، إلا أنها كانت كافيةً للحكم على أن أداءها كان ضعيفاً. وقد اتضح غياب البرنامج العملي القابل للتطبيق.
لكنه، وفي كل الأحوال، اتضح عدم وجود برنامج عملي يمكن تطبيقه كما صرح حمدوك نفسه بذلك، ثم أن الفترة القصيرة التي بقيت حتى إجراء الانتخابات تجعل الأهداف محدودةً، وتتركز بصورة رئيسية في كيفية تحسين الأوضاع الاقتصادية، والإعداد للانتخابات. وفي لقائه مع بعض "لجان المقاومة"، طرح حمدوك فكرة إجراء انتخابات قاعدية للجان الخدمات كتمرين على التحول الديمقراطي من ناحية، ولاكتساب هذه اللجان شرعيةً شعبية، وهو ما اعتبرته بعض هذه اللجان محاولةً لشق صفوفها، وتحويلها عن هدفها الرئيسي بإسقاط الشراكة القائمة مع العسكريين.
... وهكذا يبقى الوضع مفتوحاً على مختلف الاحتمالات.