سنروي الوقائع من زاوية نظر الشعب السوداني بالطبع، وليس من زاوية نظر القتلة، ولا من زاوية نظر المتسلقين من السياسيين العاجزين..
كان الاتفاق الذي وُقّع في احتفالية مهيبة ومؤثرة– بعد مفاوضات شاقة بالطبع – ينص على مرحلة انتقالية من ثلاث سنوات وثلاثة أشهر، يتعاقب على رئاستها العسكريون والمدنيون، كما يتقاسمون مناصفةً مجلس السيادة (مع غلبة للمدنيين)، وحكومة مدنية يحتفظ العسكريون فيها بوزارتي الداخلية والدفاع.. كان ممثلو المكوّن المدني في عز قوتهم، بعد انتفاضة سلمية شعبية كاسحة، انطلقت في 19 كانون الأول/ ديسمبر 2018 من "عطبرة"، المدينة العمالية، من حيث بدأ كل شيء هذه المرة.
سودان الغد: الرسائل - التعهدات الخمسة عشر
22-08-2019
استمرت الانتفاضة أشهراً، ولم ينفع شيء في إيقافها.. وكان شعارها "رحيل النظام"، وتقدمتها النساء، كثيرٌ من النساء، و"تجمع المهنيين" (محامون ومهندسون وأطباء ومعلمون وصحافيون وفنانون...) و"لجان المقاومة في الأحياء". فالناس استفادوا من تجربة انتفاضة الخبز في 2013-2014 لكي يُنظّموا صفوفهم. وقد أعلنوا في كانون الثاني/ يناير 2019 "ميثاق الحرية والتغيير" الذي وقّعت عليه الأحزاب السياسية علاوةً على هؤلاء المبادرين. وقد بدا أن هناك إجماعاً على التغيير... على الرغم من كل التفاوتات بين تلك القوى، ومن إلتباسات تاريخ بعضها أو مواقفه.
هكذا سقط عمر البشير الذي التف عليه فعلياً مساعدوه من الجنرالات وأقالوه، بعدما طلب منهم إبادة الآلاف من المعتصمين أمام المجلس العسكري، قبل انبلاج الصباح. أدرك هؤلاء، وعلى رأسهم الجنرال البرهان، أن البشير جُنّ، ولم يعد يدرك ما يجري في الواقع. والجنرالات كانوا قد حاولوا فض الاعتصام بالقوة، فقتلوا من قتلوا، واغتصبوا عدداً من المعتصمين من الجنسين قيل إنه تجاوز الـ 70 ضحيةً، ورموا بالجثث في النهر، مثلهم مثل المستعمرين الفرنسيين بوجه العمال الجزائريين المتظاهرين سلمياً في باريس... ولم ينفع! كما لم تنفع المستعمرين الفرنسيين جرائمهم، ومنها ما ارتكبوه في 17 أكتوبر 1961 ذاك، فاضطر الجنرال ديغول إلى إجراء محادثات جدّية في "إفيان" (آذار/ مارس 1962)، أعلنت وقف إطلاق النار، واستقلال الجزائر العنيدة، بعد ثماني سنوات من محاولات إركاع ثورتها، وبعد 132 سنة من استعمارها.
تُظهر تجربة السودان - كما سواها! - أن إسقاط الأنظمة أسهل الخطوات على طريق التغيير. فهذه الأنظمة قد تعفنت، بلا أي منجز، ولا أي قدرة على إدارة حياة البلاد، ومع اتساع الفساد بشكل مريع، إلى حد أنها تَعرّت من كل شرعية – ولا ينفعها التستر بالدين، ولا بامجاد الثورات السالفة، ولا بالافكار "العظيمة"، الى آخره - وصارت لا تقوى سوى على الكذب والتخبط المفضوحين، وعلى القمع المباشر: الرصاص في الشوارع. إلا أن "إسقاط النظام" ليس سوى مبتدأ الأمر. وأما ما يلي فهو الشاق!
الموقف المقلق والعصيب اليوم في السودان لا يسمح بالتبصّر في الأخطاء والهنّات، ولا في تعيين شروط النجاح، وهي بالطبع مهمات ضرورية وعاجلة سيتولاها حتماً أبناء هذا البلد الرائع، بالغ الثراء والتنوع، والذي قاوم دوماً كل محاولات سحقه.
وعلى الرغم من أن السودان محط أنظار أطماع دولية (منها هذا الصراع الأمريكي الروسي عليه، وانحياز موسكو إلى العسكر!) وإقليمية مهولة، وعلى الرغم من إفقاره البشع والمديد، ومن بؤر العنف المتأججة فيه... فهو يمتلك كل عناصر الخروج من الوضع البائس الذي زُجَّ فيه. ليس فحسب الإمكانات الاقتصادية المهولة في بلد يُجوَّع أهله، بل التصميم الذي يمتلكه الناس، والذي ظهر مراراً على طول تاريخ السودان الحديث، الذي أسقط سلمياً دائماً انقلابين عسكريين في 1969 و1989، وبعدهما حكم "الانقاذ" الدموي البشع... وسيبدد هذا الأخير.
انتخابات وبنادق
21-10-2021
وأما العسكريون في السودان، فليس أنهم يخشون محاسبتهم على الجرائم الممتدة التي ارتكبوها (إذ لم يرتكبها عمر البشير وحده)، ومنها جرائم دارفور، وآخرها جريمة ذاك الاعتصام في 2019، وليس على النهب المنفلت من كل عقال الذي يمارسونه، وليس على تمزيق البلد، وعلى تضييع جنوب السودان... العسكريون يريدون صون قاعدة إن السلطة هي باب الثروة في بلادنا. ومن أجل ذلك خانوا المواثيق، وهو المتوقع منهم..
وهكذا يبقى سؤال التغيير وسبله كاملاً.
***
اقرأ/ي أيضاً:
السودان: انفجر الغضب، لكن السؤال القائم هو ما العمل؟
السودان: الحراك الشعبي المستمر وتخليق البديل
الشعر والأغنية في انتفاضة السودان: خطاب مجتمعات المقموعين