ألغاز دبلوماسية المياه

يشرح هذا المقال المنشور على موقع "حلول للسياسات البديلة" مفهوم ديبلوماسية المياه، ويبين أهميتها في حل النزاعات بين الدول وإرساء سبل التعاون بينها.
2021-10-28

شارك
الصورة من موقع "حلول للسياسات البديلة"

مارتينا كليمس*

لماذا دبلوماسية المياه؟ 

يوجد في بعض الأحيان سوء فهم بشأن دبلوماسية المياه، حيث يتم اعتبارها الحل الشامل الكفيل بتسوية التوترات والنزاعات المتعلقة بالموارد المائية المشتركة. 

فمفهوم دبلوماسية المياه لا يقدم مخططاً شاملاً للتوصل إلى اتفاقات بشأن المياه المشتركة، إذ تكمن سمته الأساسية في توفير أدوات متنوعة للحوار بين أصحاب المصلحة الذين يتقاسمون مورداً مائياً. وفي أحسن الأحوال، تعمل دبلوماسية المياه على ربط المعلومات وتبادلها وتعزيز الشمول وتصميم مساحات للحلول، وذلك من خلال الربط بين مختلف منابر الحوار ومسارات المشاركة والأوساط العلمية. 

وهناك برامج التعاون التقني، ومن ضمنها الدراسات التقنية المشتركة وبعثات تقصي الحقائق، إلى جانب شبكات المجتمع المدني والحوارات السياسية. ويمكن للتعاون التقني أن يتضمن، على سبيل المثال، وضع نماذج مشتركة على نطاق الحوض بشأن كمية المياه التي ستكون متاحة وكمية المياه اللازمة خلال العقود القادمة، مع مراعاة النمو السكاني والصناعي في جميع بلدان الحوض والاحتياجات المستقبلية للاستثمار في البنى الأساسية. وقد حاولت البلدان التي تتقاسم نهري دجلة والفرات القيام بمثل هذه العملية من خلال البرنامج التعاوني لنهري دجلة والفرات (Food and Agriculture Organization, 2016). 

ويرى بعض الخبراء أن ربط المسارات التقنية ومشاركات المجتمع المدني بالحوارات السياسية، الرسمية منها وغير الرسمية، يمكن أن يؤدي إلى التسييس والجمود، بينما يرى البعض الآخر أن تبادل المعلومات عبر المسارات المختلفة سيساعد على إتاحة مجال أكبر للحلول الممكنة، فالأحواض العابرة للحدود في المناطق الهشة والمتأثرة بالصراعات أو تلك المتنازع عليها جغرافياً-سياسياً والتي لا يوجد بشأنها اتفاق حول إدارة الموارد المائية المشتركة تحتاج في كثير من الأحيان إلى حلول خارج نطاق قطاع المياه. وبشكل أكثر تحديداً، تحتاج المناطق التي تعاني من ندرة المياه، حيث يعتبر الأمن المائي مسألة أمن قومي، إلى إرادة سياسية لبناء آلية إقليمية للتعاون المستدام في مجال المياه. وسوف تؤدي هذه الآلية إلى تمكين الحوار وتنفيذ الحلول التقنية المشتركة، فضلاً عن الاستثمارات الاقتصادية في البنى الأساسية للمياه. 

وبالتالي، لا يزال السؤال مطروحاً، هل يمكن للمياه المشتركة والمخاطر المتعلقة بالمناخ أن تقترن أيضاً بفرص مشتركة للتعاون على نطاق الحوض؟ وهل يمكن أن يمثل التعاون والاستثمار في مجال القضايا البيئية إجراءات لا تبعث على الندم/ حلولاً تكون لصالح الجميع ويمكن أن تعود بالنفع على الحكومات عبر الحدود وتبني (على النحو الأمثل) الثقة والزخم في المسار السياسي؟ أم هل تعتبر الثقة السياسية شرطاً أساسياً لإيجاد مجال آمن للحوار حول التعاون التقني وفي نهاية المطاف للاستثمارات المشتركة؟

   لمحة عن التعاون في مجال المياه العابرة للحدود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا

  تضم منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا 12 بلداً من أصل الـ 17 بلداً التي تعاني من نقص المياه في العالم (Hofste et al., 2019). وتؤدي ندرة المياه إلى المزيد من العواقب على صعيد الأمن الغذائي وأمن العمالة والأمن البشري الأوسع نطاقاً، حيث تكون المجتمعات المحلية الضعيفة هي الأكثر تضرراً. إذ تعيق الصراعات السياسية والخصومات الجغرافية-السياسية في حوض نهري النيل والأردن فرص إجراء حوار تقني مثمر بشأن التوصل إلى حلول على نطاق الحوض لمعالجة تفاقم ندرة المياه. فعلى سبيل المثال، عانت عملية التفاوض بشأن سد النهضة الإثيوبي الكبير (سد النهضة)، التي يقودها وزراء المياه بشكل رسمي، من العديد من القضايا والمظالم "المتطفلة" والتي تجاوزت النقاط التقنية البحتة المتعلقة بملء السد وإدارته. وينبغي أن يتم النظر إلى ذلك في سياق عدم وجود مساحة آمنة، وعدم وجود منبر للحوار، للأطراف الفاعلة غير المعنية بالمياه من إثيوبيا والسودان ومصر لإجراء مناقشات بشأن الأمن الإقليمي والتعاون الاقتصادي والقدرة على مواجهة التهديدات المناخية. 

ولا يمتد التعاون السياسي والأمني دائماً إلى القضايا المهمة الأخرى مثل قضية المياه. فعلى سبيل المثال، لا توجد آلية حوار قائمة تركز على التحديات المرتبطة بالمياه المشتركة والمناخ بين إيران والعراق في حوض نهري دجلة والفرات، على الرغم من التعاون السياسي والأمني المتقدم بين البلدين. ولقد تم إحراز تقدم بين تركيا والعراق في نفس الحوض، وذلك في أعقاب مصادقة تركيا على مذكرة التفاهم المشتركة التي تعود إلى سنة 2014 بشأن بناء القدرات والتبادل العلمي في مارس 2021. ويحدث ذلك في ظل انعدام الأمن المتزايد في مجال المياه في المنطقة والجفاف غير المسبوق في العراق وانخفاض تدفق المياه في نهري دجلة والفرات بنسبة تصل إلى 50 في المائة (Abu-Hussein, 2021). 

وتؤثر المظالم التاريخية والسياسية الكامنة على علاقات البلدان المشاطئة في الأحواض العابرة للحدود الواقعة في مناطق متنازع عليها جغرافياً-سياسياً. ولذلك، فإن هذه الأحواض ستستفيد من وجود منابر إضافية للحوار تركز على مناقشة القضايا التي تعجز الحوارات التقنية بشأن المياه عن معالجتها. فيمكن للحوارات بشأن المياه أن تقدم في الواقع نقاط دخول لمحادثات تذهب إلى ما هو أبعد من قضية المياه. وفي نفس الوقت، لا يمكن أن يتوقع من هذه الحوارات أن تعالج أيضاً المظالم التاريخية والسياسية بشكل تلقائي. وثمة حاجة لاتصال فعّال عبر مختلف مسارات الحوار، لكن ينبغي بذل الجهود لمنع خروج العمليات عن مسارها بفعل التسييس المفرط. فعندما يتم تحليل عملية الحوار سيكون من المهم التأكد من أن تصميم العملية يضع الأشخاص المناسبين في مسارات الحوار المناسبة. وهذا يشمل الأفراد الذين بإمكانهم اتخاذ القرارات وخلق الإرادة السياسية اللازمة لتحقيق التعاون المستدام في مجال المياه، فضلاً عن الخبراء التقنيين الذين يمكنهم العمل من أجل التوصل إلى حل تقني قابل للتطبيق. 

بناء الإرادة السياسية مقابل التسييس 

يركز فن الدبلوماسية على إيجاد حلول مستدامة تستند إلى التعاون وإعادة صياغة التفكير القائل بضرورة فوز طرف وخسارة بقية الأطراف في سرد النزاع. وبالتالي، فإن إحدى القضايا الأكثر إلحاحاً على صعيد دبلوماسية المياه تتمثل في كيفية بناء إرادة سياسية كافية لدعم الحلول الوسط اللازمة للتعاون، دون تسييس القضية المتنازع عليها. وهذا يعني ضمان وجود اتصال فعال بين المسارين التقني والسياسي بمنأى عن التأثير السلبي للخلافات السياسية خارج نطاق المياه. وعلى العكس من ذلك، يحد تأطير الخلاف العابر للحدود تأطيراً تقنياً بحتاً من التركيز على الديناميات السياسية وديناميات السلطة الأساسية (Aggestam, 2018). 

علاوة على ذلك، من الضروري وجود إرادة سياسية لدعم الاتفاقات المستدامة والتعاون طويل الأمد لكي يتم إيجاد حيز لإجراء دراسات تقنية مشتركة وتبادل البيانات واستكشاف المنافع المتبادلة للإدارة الجماعية للموارد المائية المشتركة. وتحتاج المفاوضات الجارية بشأن ملء وإدارة سد النهضة إلى حيز آمن في شكل منبر للحوار تستطيع من خلاله الأطراف المتفاوضة مناقشة القضايا غير المتعلقة بالمياه، مثل المظالم السياسية والتاريخية والتعاون الإقليمي خارج نطاق المياه والتجارة الإقليمية والقدرة على التكيف مع تغير المناخ والمنافع الاقتصادية المشتركة الناتجة عن التعاون في مجال المياه. ويمكن لمنبر من هذا النوع أن يكون بمثابة محفل لمناقشة التحديات الناشئة حديثاً مثل الضعف المتزايد لصغار المزارعين أمام المناخ. وبالمثل، فإن الإفراط في تسييس التعاون في مجال المياه في حوض نهر الأردن يعوق التعاون الفعال على صعيد إيجاد الحلول ضمن نطاق الحوض للتخفيف من حدة أزمات المناخ الحالية والمستقبلية، بما في ذلك تفاقم ندرة المياه. فالسؤال الذي يطرح نفسه إذاً هو: كيف يمكن للحكومات التحدث بشأن بناء الإرادة السياسية ودعمها دون تسييس قضية المياه و/أو إضفاء الطابع الأمني عليها ؟ 

ربط المسارات 

يمكن لأصحاب المصلحة المختلفين أن يتوقعوا نتائج مختلفة لعمليات دبلوماسية المياه وذلك بحسب تصورهم بشأن النزاع. فبينما يرى البعض أن الفائدة الرئيسية لدبلوماسية المياه تتمثل في زيادة الوعي بشأن الحالة المتعلقة بمجموعة معينة من أصحاب المصلحة، يرى البعض الآخر دبلوماسية المياه على أنها فرصة لتمهيد الطريق للتوصل إلى اتفاق. كما يمكن لأدوات دبلوماسية المياه أن تدعم حشد الدعم الشعبي للتعاون في مجال المياه العابرة للحدود، مع تسليط الضوء على منافع التعاون عبر الحدود.

 ونادراً ما يكون هناك تنسيق شامل وربط بين مختلف المسارات، ويمكن دعم ذلك من خلال الجهات الخارجية التي تمول في كثير من الأحيان أجزاء من مبادرات الحوار المختلفة. ومن شأن هذا أن يشجع على تبادل المعلومات، فضلاً على تسليط الضوء على آثار ندرة المياه على الفئات الأكثر ضعفاً ومنع تصاعد التوترات السياسية أو العنف على المستوى المحلي. وغالباً ما يوصف النزاع بين بلدان شرق النيل بأنه نزاع حول كل شيء سوى المياه. وبالتالي، يجدر استكشاف ما إذا كان الحوار التقني بشأن المياه سيستفيد من وجود منبر حوار مختلف لإعطاء أصحاب المصلحة فرصة لمناقشة القضايا المتعلقة بالتعاون الإقليمي والأمن والمنافع المشتركة المتأتية من التجارة الإقليمية في حيز آمن، وفي شكل منابر حوار سرية ومنتديات مماثلة. 

إيجاد الصيغة الصحيحة للجهات الفاعلة الخارجية 

تعد جميع عمليات دبلوماسية المياه محددة السياق إلى حد كبير، وبالتالي، فعلى الجهات الفاعلة الخارجية – بدءاً من ميسري الحوار والوسطاء ومقدمي الدعم لبعثات تقصي الحقائق التقنية والملاحظين والمراقبين والبلدان والمنظمات التي تقدم المساعدة الإنمائية – أن تصمم مشاركتها على أساس ما هو مطلوب وما الذي يمكن لكل جهة خارجية أن تقدمه. ويجب على الأطراف المتفاوضة أن تسأل من هي الجهة الأنسب للقيام بدور نشط في تيسير الحوار ومن هي الجهة الأنسب لتقديم الدعم التقني. وقد يتراوح ذلك من توجيه البلدان بعيداً عن التفكير القائل بضرورة فوز طرف وخسارة بقية الأطراف، والتعامل مع أوجه عدم توازن القوة بين الجهات الفاعلة واتخاذ القرارات القائمة على الأدلة ومساعدة البلدان على تحديد المنافع المشتركة. 

وفي مسار الحوار السياسي، يُترك الأمر في نهاية المطاف للأطراف المتفاوضة لتحدد الولاية التي ستمنحها لميسر الحوار. وينبغي تحديد ذلك بشكل واضح، إلى جانب الهدف الرئيسي للعملية. وهذا لا يعني بالضرورة التوصل إلى اتفاق إطاري بشأن إدارة الموارد المائية المشتركة، ولكن يمكن أن يتمثل الهدف في تحديد آلية تعاونية بشأن كيفية التعاطي مع المستقبل الغامض لجميع بلدان الحوض. ويمكن لآلية من هذا النوع أن توفر منبراً للإنذار المبكر بشأن الجفاف ورصد الفيضانات والتخطيط الاستراتيجي للاستثمارات على نطاق الحوض وتدفقات الهجرة بسبب تغير المناخ واستراتيجية مشتركة لتعزيز القدرة على التكيف. 

كما أن هناك طيفاً واسعاً من الأدوار التي تضطلع بها الجهات الفاعلة الخارجية في شكل دعم المسارات غير الرسمية التي تهيئ بيئة مواتية للتعاون في مجال المياه. ويمكن أن يشمل ذلك المسارات التي تركز على توعية الجمهور من خلال العمل مع الصحفيين وغيرهم من بناة الرأي، علاوة على دعم إنشاء شبكات بحثية ومجموعات المشاركة الشبابية عبر الحدود والشبكات النسائية. ويمكن أن تستفيد البلدان المتفاوضة من هذه الأنواع من المجموعات والشبكات. حيث بإمكان العلاقات، وفي أحيان أخرى الثقة، التي يتم بناؤها في هذه المنابر، أن تساعد في دعم العمليات رفيعة المستوى. وفي نفس الوقت، ستستفيد جميع مسارات دبلوماسية المياه من تمكين المواطنين وتوسيع نطاق مشاركة الجمهور في تعزيز القدرة الإقليمية على التكيف مع تغير المناخ. وسيكون من الأسهل على مفاوضي المسار الأول (الدبلوماسية ضمن القنوات الحكومية الرسمية) الحصول على دعم الجمهور للحوارات عبر الحدود حول المياه إذا كان المواطنون على علم جيد بشأن التحديات المناخية والمائية القادمة ومستعدون لها. 

______________

*د. مارتينا كليمس مستشارة المياه والسلام في معهد ستوكهولم الدولي للمياه (SIWI) والمركز الدولي للتعاون في مجال المياه (ICWC)، خبرة 15 عامًا في حل النزاعات والتحليل السياسي والأمني، وكذلك العمل الميداني والدبلوماسية غير الرسمية. تشتغل حاليا بدبلوماسية المياه والتعاون في مجال المياه والمناخ والأمن، وهي عضو لجنة البرنامج العلمي (SPC) لأسبوع المياه العالمي وباحثة في معهد سياسات الأمن والتنمية (ISDP) في ستوكهولم.

مقالات من العالم

جوليان أسانج حرّ

2024-06-27

فعل أسانج المحظور الأكبر في هذا العالم. كشف اللثام عن أكبر أكاذيب العالم وأكثر أساليب الدول وحشية، وفضح تلك البرودة الفظيعة التي يتمتع بها الجميع خلف الكواليس، وتلك السهولة الرهيبة...