لا يتوقف من يحبون الظهور الإعلامي في لبنان عن النعيق كالغربان، والتنبؤ بأن الأوضاع السيئة ستسوء أكثر، وأن "الآتي أعظم"، إلى آخر ذلك مما يبدو أنه صار مهنة "بصّارين" هواة. الوضع طبعاً في غاية السوء على كل الصعد، ولكن الإيحاء بأن الأمور ستنهار أمنياً، ليس على شكل بعض الفوضى التي نعيشها، ونتحملها، بل "بالحرب" – وهي المصيبة الوحيدة التي لم تحل بعد بالبلد - ليس استنتاجاً وفق أي تحليل، بل تهويلاً يلعب على قلق الناس وتوتراتهم، وعلى انسداد الافق أمامهم. وحين يصدر عن "أيٍّ كان"، فهو يكون بغاية جذب الأنظار ومنح النفس بعض الأهمية، ولكنه حين يصدر عن أحدهم ممن له "صفة"، سواء كانت علنية أو "معلومة"، وسواء كانت راسخة أو خفيفة، فهو يبدو تهديداً. ولأن الكلام صار يُلقى على عواهنه، فلا أحد يتوقف أمامه في الحالتين، إلا حين "يقع الفأس بالرأس" كما يقال، مثلما اليوم في بيروت، فيندلع جدل ضار عن قال فلان وألمح علاّن، في استعادة لما مُرر قبل أيام، كعلامة أو دليل على تفسيرات معينة يتبناها كل حسب هواه.
وتسود طبعاً في هذه الأجواء الروايات التآمرية: لمن يتبع هؤلاء القناصة الذي ركبوا أسطح البنايات في منطقة الطيونة، خلال تظاهرة حزب الله وحركة أمل المتجهة إلى المجلس العدلي القريب، للاعتراض على القاضي طارق البيطار؟ ولولا العيب، وابتذال الفرضية من فرط ما مُسِح فيها كل شيء، لقلنا هذا سيناريو يليق كثيراً بإسرائيل.
لبنان: شراكة في النهب وفي القتل
19-08-2021
لبنان: ريع من نوع خاص
12-11-2020
ولكن الغريب أن درجة التوجس من حزب الله دفعت الكثيرين إلى وضع تعليقات على مواقع التواصل الاجتماعي تشير إلى أنه هو نفسه من أرسل هؤلاء إلى حيث تموضعوا، ومن قتل ناسه! وهذا بالطبع غير معقول، وهو سريع الانكشاف. كما يفترض أن بيد حزب الله، لو أراد جعل مهمة القاضي البيطار مستحيلة ودفعه للاستقالة، أو لو أراد كما يقال، حجة للقيام بمسرحية على منوال 7 أيار/ مايو 2008 سيء الذكر (حين احتل عسكرياً بيروت لثلاثة أيام في استعراض لقوته وإمكاناته حيال حكومة فؤاد السنيورة التي كادت تقْدم على إجراءات رعناء ضده، أو تخطط لها)، فيمكنه أيضا إيجاد سيناريوهات أخرى مختلفة، "أخف" مما يمكن أن يبدو إشعالاً لحرب أهلية بغيضة ومرعبة، ولا يمكنها إلا أن تحمل الويلات للبلد المنكوب. وهذا يَفترض أيضاً أن لدى حزب الله الحد الأدنى من الذكاء السياسي ليعرف أن سطوته الحالية على كل مقدرات لبنان لا يمكنها أن تلغي تماماً الأطراف الأخرى، وأنه بعيد عن الحصول على أي إجماع، وأن لبنان يختلف عن اليمن – حيث الحوثيون وهم طائفة من بين سواهم، يحاولون احتلال البلد أو على الأقل إشغال السعودية بهم وبه بشكل مباشر، وباسم "حكم الإمامة الذي كان بيدهم" قبل 1962 – بأنه في واجهة المشهد تقليدياً وعالمياً، مهما ضعف الاهتمام الحالي به. وحزب الله، ولو أنه يرى النموذج السوري لحكم آل الاسد واحداً إثر الآخر في سوريا، لا يجهل أن ذلك تمّ بالأساس باسم ايديولوجيا كانت تحوز على رضا معقول إن لم يكن واسع، وباسم برنامج تحرر وطني وتقدم اجتماعي – ولو مدّعى أو فاشل - وفي زمنه. وأنه حين تصفّى من كل هذا، فقد تحول إلى قوة قاهرة وقمعية خالصة، وهو فعلياً خسر السلطة في سوريا لولا تفاهة وسوء ما آلت إليه المعارضة التي واجهته، ولولا الحماية العسكرية الفجة لإيران ثم لروسيا، في لعبة جيواستراتيجية مكشوفة. وقد أدى ذلك كله على أي حال إلى تدمير البلد.
لمن القناصة إذاً؟ نفت "القوات اللبنانية" انتماء هؤلاء لها، بعد إشاعات أنهم كانوا مستفَزين من دخول جمهور حزب الله وحركة أمل إلى "مناطقهم" (؟؟). ولكن... لمن هؤلاء القناصة يا ترى؟ ليته يأتي جواب يكون ولو بالمصادفة صحيحاً - وهناك مصادفات في التاريخ – ولا يكون من قبيل المهاترات.
وأخيراً، فهناك أيضاً من يمتهنون "صب الزيت على النار"، فيخرجون بضاعتهم الكلامية المعتادة في لحظات التوتر، عساهم ينالون التفاتة اعلامية تُذكّر بهم. ويا ليتهم يصمتون ولو قليلاً!
لبنان: ملهاة سوداء
25-02-2021
وأخيراً ثانية وهي الأهم: لا لأي نوع من أنواع الحرب الأهلية في لبنان (وفي سواه)، ولا لأي درجة من درجاتها (والمقصود بها المسلحة والدموية، لأن التوترات الأخرى قائمة، والله غالب). الحرب الأهلية لا تحسم شيئاً، ولا تفضي لشيء، والتوصل إلى تسويات لإيقافها ليس متاحاً في مشهد اليوم، وهي يمكنها إذاً الاشتعال لأمد طويل قاضية على النذر اليسير المتبقي من الحياة في البلد. وبلا طائل.