اليمن ليس بلداً متخلفاً.. مواليد زمن الحرب يدخلون المدرسة

تستمر الحرب ويستمر معها تسرب الأطفال والشباب من المدارس إلى سوق العمل وإلى جبهات القتال، فيما تتكفل سلطات أطراف الحرب بمنح الملتحقين للقتال في صفوفها شهادات نجاح باعتبارهم "مجاهدين" أو "جنوداً في صف الوطن". ويحدث أن تصدر الشهادة وقد صار صاحبها "شهيداً".
2021-10-06

لطف الصَّرَاري

قاص وصحافي من اليمن


شارك
مدرسة مقصوفة في اليمن

أكثر من مليوني طفل في اليمن لا يذهبون إلى المدارس بسبب الحرب. أعادت منظمة "يونيسف" الأممية تذكير قادة الحرب بهذه الإحصائية... دون جدوى. تستمر الحرب ويستمر معها تسرب الأطفال والشباب من المدارس إلى سوق العمل وإلى جبهات القتال، فيما تتكفل سلطات أطراف الحرب بمنح الملتحقين للقتال في صفوفها شهادات نجاح باعتبارهم "مجاهدين" أو "جنوداً في صف الوطن"، ويحدث أن تصدر الشهادة وقد صار صاحبها "شهيداً".

أرقام تفصيلية

 أطلقت "يونيسف" هذه الإحصائية في أيلول / سبتمبر 2019، وكررتها ضمن تقرير أصدرته في تمّوز/ يوليو 2021 بعنوان: "عندما يتعرقل التعليم.. تأثير النزاع على تعليم الأطفال في اليمن". تزامن إطلاق التقرير مع اقتراب موعد بدء العام الدراسي الجديد في 14 آب / أغسطس المنصرم، متضمناً أن 400 ألف طفل من بين المليونين، دفعتهم الحرب للتسرب من المدارس، وأن 2507 مدرسة تضررت إما بالقصف الجوي والبري، أو باستخدامها لأغراض حربية، أو لإيواء نازحين. هناك أيضاً 8.1 مليون طفل "بحاجة إلى مساعدة تعليمية طارئة". ويبدو الفارق هائلاً بين هذا الرقم في تموز/ يوليو 2021 و1.1 مليون طفل تم الإبلاغ عن احتياجهم لمثل هذه المساعدة في كانون الأول / ديسمبر 2014.

لا يبدو أن أياً من الحكومتان المنقسمتان تقوم بفحص الإحصائيات الدولية الخاصة باليمن، بل تَستخدم بكل أُبّهة ما يناسبها من هذه الإحصائية أو تلك. تتعامل المنظمات الدولية العاملة في اليمن مع حكومتين منقسمتين لدولة واحدة، بالتزامن مع اشتعال الأرض بالقتال المستميت، ناهيك عن أن السياسة السكانية لليمن مرتبكة أساساً.

  تتوالى الإحصائيات المفزعة في تقرير يونيسيف عن العراقيل أمام تعليم الأطفال في اليمن، بما في ذلك تلك التي استجدت مع تفشي جائحة كورونا ومتحوراتها، وخطورة الوباء على 5.8 مليون من طلبة المدارس منهم 2.5 مليون فتاة. هذا فقط، "غيض من فيض" الوضع الذي واجهه ويواجهه أطفال اليمن خلال السنوات الست المنقضية في ظروف الحرب.

مواليد زمن الحرب

 بحسب قانون التعليم في اليمن، يلتحق الأطفال بالصف الأول من التعليم الأساسي بعمر السادسة. قبل الحرب كانت بعض العائلات تلحق أطفالها سنتين تمهيدي في "الروضة" قبل المدرسة، لكن ذلك صار الآن ترفاً لا يملكه سكان بلد يشهد حرباً للعام السابع على التوالي. كانت حرباً أهلية، لكنها لم تعد كذلك منذ أخذت انعطافتها الكبرى في 26 آذار/ مارس 2015. منذ ذلك التاريخ، تداخلت الحرب يوماً بعد آخر مع تعقيدات إقليمية ودولية، اتضح مع تكشّفها التدريجي، أن الجغرافيا اليمنية، في كل الأحوال، كانت تُهيَأ لاستضافة صراع إقليمي ودولي باتت ملامحه الآن أكثر سفوراً.. تماماً كما تمت تهيئة سوريا وليبيا، ومن قبلهما العراق، وبالطريقة نفسها المستخدمة منذ قرابة ثلاث سنوات، لتهيئة لبنان والسودان والجزائر، لصراعات جديدة.

الحالة الراهنة للحرب في اليمن تتراوح بين جهود دولية ومحلية للتهدئة تمهيداً لاستئناف مفاوضات قد تفضي إلى سلام (لم تتضح ملامحه بعد)، وبين تصعيد إقليمي ومحلي لا ينظر أبعد من المكاسب العسكرية وفرض السيطرة. وعند الحديث عن معاناة الناس التي طال أمدها، تخرج الرطانة في أكثر صورها إثارة للشفقة: نعم، اليمن أكبر أزمة إنسانية في العالم، الصحة؟ نعم، يموت اليمنيون بينما الأمم المتحدة والمجتمع الدولي لا يقومان بواجبهما الإنساني، التعليم؟ التعليم كذلك ينهار والعالم يتفرج، التعليم ينهار وأطراف الحرب لا يصغون للتحذيرات! أكثر من ذلك يقال ويحدث، بينما لا يلاحظ أطراف الحرب حتى أولئك المواطنين الذين يسلخهم فيروس كورونا وأمراض أخرى قد تكون أخطر منه! سلطات كهذه، هل تُدرك معنى أن مواليد العام 2015، صاروا في الصف الأول من التعليم الأساسي؟

كانت حرباً أهلية، لكنها لم تعد كذلك منذ 26 آذار/ مارس 2015 حيث تداخلت الحرب مع تعقيدات إقليمية ودولية، اتضح معها أن الجغرافيا اليمنية كانت تُهيَأ لاستضافة صراع إقليمي ودولي باتت ملامحه الآن أكثر سفوراً.. تماماً كما تمت تهيئة سوريا وليبيا، ومن قبلهما العراق، وبالطريقة نفسها المستخدمة منذ قرابة ثلاث سنوات، لتهيئة لبنان والسودان والجزائر، لصراعات جديدة.

400 ألف طفل دفعتهم الحرب للتسرب من المدارس، و2507 مدرسة تضررت إما بالقصف الجوي والبري، أو باستخدامها لأغراض حربية، أو لإيواء نازحين. هناك أيضاً 8.1 مليون طفل "بحاجة إلى مساعدة تعليمية طارئة". ويبدو الفارق هائلاً بين هذا الرقم في تموز/ يوليو 2021 و1.1 مليون طفل تم الإبلاغ عن احتياجهم لمثل هذه المساعدة في كانون الأول / ديسمبر 2014. 

هؤلاء المواليد، أو من حالفه الحظ منهم في البقاء حياً حتى سن السادسة، يُفترض أن يلتحقوا بالمدارس هذه السنة 2021/2022. لن نسأل: هل جميعهم فعل ذلك؟ لأن إحصائية المليوني طفل خارج المدرسة، وما نشاهده على الواقع، يقولان إن الأجنّة الذين كانوا يسمعون دوي القذائف والصواريخ بينما تهرع أمهاتهم للاختباء، صاروا الآن أطفالاً يُعدّون بالملايين، ويحتاجون للتعليم، وكل ما يلزم الطفل للنمو والتعلم. هذا الجيل تحديداً، سيظهر فجأة بعد خمسة عشرة سنة على الأرجح، وسوف يرى من سيعيش إلى العام 2036، وربما قبل ذلك، خيره وشرّه. هل تستطيع حكومة عدن المعترف بها دولياً، أو حكومة صنعاء التي انقلبت على آخر سلطة منتخبة، التفكير باستثمار مربح وطنياً وإنسانياً كهذا؟ والسؤال الأكثر حساسية: هل جميع المنظمات الدولية العاملة في اليمن وفي الشأن اليمني عموماً، تنظر للأمر من زاوية مشابهة، أم أن زاوية نظر المانحين وممولي العمليات الإنسانية تغلب عليها.

نعرف أنه لا شيء يلزم المنظمات الإنسانية العاملة في اليمن بأن تقوم بدور الدولة إزاء مواطنيها بأي حال، ومع ذلك تتولى يونسيف وغيرها من المنظمات، جمع الأرقام والإحصائيات عن وضع الأطفال في اليمن بالتزامن مع استمرار الحرب. غير أنها تجري أبحاثها ودراساتها وفق مناهج "وضع الطوارئ"، وهو وضع يشبه المبدأ السياسي: "فنّ الممكن". ومن مصلحة مواليد زمن الحرب في اليمن، إيصال الأسئلة إلى هذا المستوى. فاللاوعي لا يزال حتى الآن يحتل مساحته الكبرى من دماغ كل إنسان.

أما الحكومتان المنقسمتان، فلا يبدو أن أيا منهما تقوم بفحص الإحصائيات الدولية الخاصة باليمن، بل تستخدم بكل أُبّهة ما يناسبها من هذه الإحصائية أو تلك. تتعامل المنظمات الدولية العاملة في اليمن مع حكومتين منقسمتين لدولة واحدة، بالتزامن مع اشتعال الأرض بالقتال المستميت، ناهيك عن أن السياسة السكانية لليمن مرتبكة أساساً. فآخر تعداد سكاني جرى تنفيذه في 2004، وعندما حان موعد التعداد التالي في 2014، كان قادة البلاد يوجهون العتاد والرجال والفتيان نحو الحرب، غير آبهين بالأطفال - رجال ونساء المستقبل.

هل اليمن بلداً متخلفاً؟

طالما وُصف اليمن بالبلد المتخلّف قياساً إلى نسبة التحاق أفراده بمؤسسات التعليم الحديث، مدارس وجامعات، وشهادات معتمدة وفق المعايير الدولية الحديثة. ما لا يلاحظه، على الأرجح، المختصون بتصنيفات التعليم، أن بلداً كان لديه لغة مكتوبة موغلة في القدم، لا بد أنه كان لديه نمط تعليمي من نوع ما. وغير بعيد عن اللغة القديمة، هناك العربية الفصحى التي تشكلت قبيل الإسلام وسط الجزيرة العربية، وحلت محلّ اللغات القديمة في أقطار الوطن العربي، ووصل تأثيرها إلى لغات أوروبية وغيرها.

اليوم، وصل الأمر بالحكومتين المتحاربتين إلى اعتبار التعليم أمراً ثانوياً مقارنة بأولوية استئصال الخصم. يمنيين كُثر صاروا اليوم يلومون الحكومتين لاتكالهما على المساعدات الدولية في كل شاردة وواردة، ويرون بوضوح نتائج استخدام أطراف الحرب للتعليم كسلاح. فطلاب الثانوية الذين تأثروا بدوي الانفجارات ولعلعة الرصاص بالقرب منهم في بداية الحرب، صاروا ينظّمون أنفسهم في عصابات مدرسية على طريقة المافيا.

صارت العربية الفصحى لغة اليمن الرسمية منذ القرن الثامن الميلادي على أقل تقدير. وبين المرحلتين، كان زمن ظهور خط الزبور، الذي لا بد أن التعليم في اليمن شهد معه نقلة نوعية من استخدام الحجر والمعادن في الكتابة، إلى استخدام جريد النخيل وجلود الحيوانات في ما عُرف بـ"الزبور اليماني" (1). هذا الانتقال في تقنية الكتابة رافقه انتشار للتدوين شمل المعاملات التجارية والشؤون اليومية للناس، بعد أن كان التدوين يقتصر على أحجار المعابد والمرافق الدينية والملكية. بعد ذلك استمر تعليم القرآن، قراءة وكتابة بالعربية الفصحى، وتطور من شكل الكتاتيب – "المِعلامة" باللهجة اليمنية - إلى أشكال أوسع سُميت أبرزها بـ"هِجرة العلم" و"الرباط" الذي يوحي اسمه بالمرابطة التي تتطلبها الدراسة فيه. وظل الأمر كذلك حتى أدخل العثمانيون نظام التعليم التركي إلى صنعاء وبعض مدن الشمال، كما فعلت بريطانيا في عدن ومدن الجنوب.

هذه الأنماط من التعليم آلت بعد ثورتي سبتمبر في الشمال وأكتوبر في الجنوب، إلى شكل المدرسة / الجامعة / المعهد كما نعرفها اليوم، مع بقاء الأشكال القديمة في الخلفية: "المعلامة" للصغار في القرى والأحياء الشعبية في المدن، أما "هِجَر العلم"، والأربطة التي يرتادها المتصوفون غالياً، فكلاهما اقتصرا على تدريس الفقه والحديث والنحو والتجويد، وعلوم دينية حصراً. استثناءات حدثت في فترات زمنية متقطعة تمّ فيها إدراج الجغرافيا والفلك والحساب ضمن مناهج المدارس الملحقة بالمساجد. وخلال الاستعمارين التركي للشمال والبريطاني للجنوب، افتتحت مدارس ثانوية ومتخصصة. وفي موازاة ذلك ظلت الأشكال التقليدية للتعليم في اليمن هي الأكثر حضوراً، حتى راج التعليم الحديث ومؤسساته منذ ستينيات القرن العشرين الماضي. تفرع الكُتّاب إلى اتجاهين: رياض أطفال تسبق دخول المدرسة - وهي الوظيفة الأساسية للكُتّاب، ومدارس تحفيظ القرآن الملحقة بالمساجد - وفيها مورس الاستقطاب المذهبي والتعليم الموجه طائفياً. أما "هجر العلم"، فتطورت إلى معاهد ومراكز تعليم ديني طائفي، خاصة منذ تسعينيات القرن العشرين الفائت. واليوم يتخبط سير مؤسسات التعليم الحديث، ويتعلّم آلاف الطلبة في أماكن تشبه الكاتيب قديماً، يدرسون فيها مناهج التعليم الحديث اعتماداً على الذكاء الفطري وما بقي من ثقافة شعبية لدى الآباء والأمهات.

تعليم الحرب

أسفر تطور التعليم التقليدي في خلفية التعليم الحديث عن نبش خلافات طائفية لم تأخذ أكثر من 25 سنة حتى تسربت إلى "جينات" ساسة البلاد وقادتها، فحقنوا بدورهم الجموع على الفور. وفي الضفة الأخرى، أنتجت مؤسسات التعليم الحديث كمّاً لا بأس به من الكتب والدراسات التي يمكن أن تسهم في تجويد التعليم الحديث، ولكنها عاجزة عن تطوير وتجويد التعليم التقليدي وسحبه إلى المساحة الآمنة. في الغالب لم تسمح السلطات السياسية والدينية للتربويين والأكاديميين فعل ذلك، كما لم تساعدهم طريقتهم المتعالية على الثقافة الشعبية في كسب المؤيدين. وما أن اندلعت الحرب مطلع العام 2014، وتخلقت مطلع 2015، حتى صار التعليم أمراً ثانوياً مقارنة بأولويات الحفاظ على الحياة ولقمة العيش.

اليوم، وصل الأمر بالحكومتين المتحاربتين إلى اعتبار التعليم أمراً ثانوياً مقارنة بأولوية استئصال الخصم. أما المنظمات الدولية التي تعوض غياب الدولة بتوفير المعونات للطلبة، فكم سيطول عطاؤها؟ لحسن الحظ أن يمنيين كُثر صاروا اليوم يلومون الحكومتين لاتكالهما على المساعدات الدولية في كل شاردة وواردة، ويرون بوضوح، نتائج استخدام أطراف الحرب للتعليم كسلاح. ذلك أن طلاب الثانوية الذين تأثروا بدوي الانفجارات ولعلعة الرصاص بالقرب منهم في بداية الحرب، صاروا ينظمون أنفسهم في عصابات مدرسية على طريقة المافيا المنفلتة. من حوادث هذه العصابات مقتل الفتى محمد محمود الخياطي على يد أحد زملائه في الصف يوم الأربعاء 8 أيلول / سبتمبر 2021. هذه نتائج الجيل الذي حظي بقليل من السلم في طفولته المبكرة، فماذا نتوقع من الجيل الذي رضع قسوة الحرب؟ 

______________

1) منها "كتابات المسند وكتابات الزبور في اليمن القديم". دراسة منشورة في حولية "أبجديات" التابعة لمكتبة الإسكندرية، العدد الثالث 2008، إبراهيم محمد الصلوي، أستاذ اللغات اليمنية القديمة بجامعة صنعاء.

مقالات من اليمن

للكاتب نفسه