لم أتوقع يوماً أن تجعلني الحظوظ ورحلة التنقّل بين الشقق والبيوت المؤجرة في عمّان جاراً للسفارة الإسرائيلية، التي لطالما اعتاد بعض الأردنيين الاعتصام بقربها من دون أن يعلموا عن مكانها بالضبط سوى انها موجودة في تلك المنطقة.
اجتهدت الدولة الأردنية في إخفاء السفارة الإسرائيلية التي استقرت منذ عام 1994 (تاريخ توقيع معاهدة وادي عربة) بين المباني السكنية في منطقة "الرابية" الواقعة في عمّان الغربية، حتّى أن السيارات التي تمرّ من هناك لا تعلم أن السفارة قريبة منها، فلا يوجد علم مرفوع على مبناها ولا تشديدات أمنية ضخمة.. لولا أنها محاطة بسيارات الأمن العام والدرك والكاميرات من جهاتها الأربع.
تطور ملحوظ
ولكن العلاقة الجديدة بين الأردن وإسرائيل غير قابلة للإخفاء كما اخفيت السفارة. فالمشاريع الإستراتيجية التي ستربط البلدين خلال السنوات القادمة أكبر من أن يتم تغطيتها بين المباني السكنية. اتفاقيات بمليارات الدولارات وقع بعضها ومن المنوي توقيعها كلها، وقد بات صعباً على الأردن إنكارها والتهرب من مواجهة الرافضين للعلاقات التطبيعية. فالمعتصمون بالقرب من السفارة كل خميس والذين أطلقوا على أنفسهم اسم "جماعة الكالوتي" أو "جك"، يعلمون التفاصيل الدقيقة لتطورات العلاقات الأردنية الإسرائيلية، على الرغم من عدم قدرتهم على التحشيد الشعبي الواسع لثني الحكومة عن إجراءاتها.
ويظهر التطور في الموقف الأردني جليّاً ومفاجئاً للغالبية الشعبية في البلاد عندما تم توجيه تهمة "تعكير صفو العلاقة مع دولة مجاورة" لنائب في البرلمان الأردني بسبب تغريدات له على موقع تويتر، طالب فيها بإلغاء معاهدة وادي عربة. كما يسعى الأردن بشكل حثيث لإعادة العربة إلى السكة فيما يتعلق بالمفاوضات المتعثرة بين السلطة الوطنية وإسرائيل، لدرجة وصلت الى حد السماح لأعضاء سابقين في حركة فتح بالتحرك بحرية بالمخيمات والجامعات الأردنية لكسب التأييد الشعبي للمفاوضات. وفي الملف الأمني، فإن الحركة الاسلامية اشتكت مراراً وتكراراً من التنسيق الأمني بين الأردن وإسرائيل، خصوصاً بعد حملة اعتقالات طالت عدداً من الأسرى المحررين ونقابيين وناشطين، جاءت على خلفية معلومات "وردت من العدو الصهيوني نتيجة اعتقاله أردنيين في الضفة الغربية" حسب الحركة، يحاكمون الآن أمام محكمة أمن الدولة بعد أن وجّهت لهم تهمة تشكيل خلية تابعة لحماس في الأردن.
مشاريع ضخمة
الأردن ماضٍ بالتطبيع الاقتصادي في قطاعات إستراتيجية وضخمة، كاتفاقية ناقل البحرين، حيث وقّع وزراء المياه في البلدين قبل فترة وجيزة اتفاقية مشروع "ناقل البحرين" الذي يقوم على بناء قناة تربط البحر الأحمر بالبحر الميت بطول 180 كيلومترا، بهدف رفع منسوب المياه في البحر الميت الذي أصبح مهدداً بالجفاف عام 2050 وفقاً لدراسات علمية.
وسيعمل المشروع الذي يكلف 900 مليون دولار، على إنشاء محطة تحلية مياه في خليج العقبة لتحلية قرابة 70 مليون متر مكعب من مياه البحر الأحمر، من المفترض أن يتم تزويد مدينة العقبة بـ 20 مليونا منها، فيما سيتم تحويل 50 مليونا لمدينة إيلات الإسرائيلية، وستحصل السلطة الفلسطينية على 30 مليون متر مكعب من المياه. ويستعد الأردن لشراء الغاز المستخرج من أحواض البحر الأبيض المتوسط من إسرائيل، وتبلغ قيمة اتفاقية الغاز 15 مليار دولار، يخطط الأردن للاستفادة من الغاز الواصل لأراضيه عبر أنابيب جر لتوليد الطاقة، ومن المتوقع أن يبدأ المشروع نهاية عام 2017 ويستمر لمدة 15 عاماً.
وتعتبر الحكومة أن الغاز القادم من إسرائيل هو الخيار المفضل للتخفيف من حدة أزمة الطاقة في المملكة بحلول نهاية العقد، ولا يبدو أنها مرتابة من أن يصبح الغاز وسيلة للي ذراع الأردن أو وسيلة لضغط عليه.
ويجري الحديث مؤخراً عن مشروع ضخم للنقل البري بين الأردن وإسرائيل ومصر كي يربط بين أوروبا وإفريقيا، مرهون بانجاز اتفاقية السلام والتسوية النهائية.
اللعب بالنار
باشرت إسرائيل ببناء مطار تمناع في المنطقة الجنوبية المحاذية للحدود الأردنية الإسرائيلية، ويخترق سياجه الأمني الأراضي الأردنية بقرابة 200 متر ويخالف ميثاق شيكاغو للطيران المدني، ويتقاطع مع الأجواء الأردنية بمواقع الاقتراب المستخدمة للهبوط والإقلاع بمساحة 11 كيلومترا مربعا. الحكومة الأردنية تدّعي أنها منتبهة للمطار وستتخذ إجراءات بحق إسرائيل لوقف العمل فيه، إجراءاتٌ سمع عنها الأردنيون ولم يروها.
وتستمر الانتهاكات في المسجد الأقصى من قبل قوات الاحتلال، دون الالتفات للوصاية الهاشمية عليه والغضب الذي عبّر عنه القصر الملكي تجاه هذه الاعتداءات مؤخراً. ولا يبدو أن هناك أي تطورات في ملف الأسرى الأردنيين في سجون الاحتلال والبالغ عددهم 25 شخصاً مما دفع أهاليهم للطلب من حماس بشملهم في مفاوضات تبادل الأسرى.
استطعتُ لملمة أغراضي على عجل ومغادرة ذاك الحي سريعا رغم هدوئه وأمنه، مسترجعاً في ذاكرتي المواقف المؤلمة التي سردها فيلم "السفارة في العمارة". استطعت الابتعاد لكن السفارة بقيت مكانها، والعلاقات الأردنية الإسرائيلية الرسمية تتضخّم بفضل عمل حثيث تدريجي وبطيء لترسيخ فكرة أن اسرائيل حليف استراتيجي. وقد جاءت فرصة مؤتمر دافوس /البحر الميت المفتتح في 22 الشهر الجاري أيار/مايو لتثبت بعض ذلك بشكل علني. وهذا هو النسخة الخاصة بمنطقتنا من الاجتماع العالمي للسلطات ورجال الأعمال الذي ينعقد كل عام في كانون الثاني/يناير في منتجع دافوس بسويسرا. وكعادته، حضر شمعون بيريز الاجتماع (بصفته الشخصية هذه المرة حسبما قيل)، جالسا في الافتتاح بملاصقة وزير الخارجية الأردني، مرتشفاً فنجان قهوة عربيّة من يد رجل بدوي.. في صورة أعادت للأذهان فنجان القهوة الذي ارتشفه نتنياهو في الاردن منذ اقل من عشر سنوات.