أثار هرب الأسرى الفلسطينيين الستة من سجن عالي الحراسة في إسرائيل حبراً كثيراً وعواطف وسجالات أكثر. ولكن تبقى قصص وتفاصيل من المهم – أو المفيد معرفتها.
كتبتْ مصلحة السجون الإسرائيلية على بطاقة الأسرى أيهم الكممجي ومحمد العارضة ويعقوب قادري: خطر عالٍ للهرب"! وفعلاً وعلى الرغم من "التحذير"، فهم نجحوا بالهرب من زنزانة رقم خمسة التي اجتمعوا فيها وانتقل إليها زكريا الزبيدي ليلة قبل الواقعة.
أما السجن، سجن الجلبوع، والذي أقيم بعد الانتفاضة الثانية بجانب سجن شطة المحاذي لجبال فقوعة الفلسطينية، ليستوعب أكبر عدد من أسرى الانتفاضة ذوي الأحكام العالية والمؤبدات، فيطلق عليه اسم "الخزنة" كونه سجناً محصناً لا يمكن اختراقه، وبالطبع لا يمكن الهرب منه، فهو مبني من طبقات من الباطون المسلّح والمكثف.
أجمل من خيال
09-09-2021
أدى هرب الأسرى الستة إلى اهتزاز أسطورة "إسرائيل القادرة على كل شيء". فقد نجح ستة أسرى فلسطينيين لا يملكون أي أدوات بأيديهم إلا أيديهم ذاتها ولربما ملعقة، هي ليست بالأداة الحادة التي تمنعها سلطات السجن عنهم. نجحوا بالخروج من نفق امتد على طول 25 متراً وحفروا حفرة إلى خارج السجن لا تبعد إلا أمتار عن برج المراقبة وأعين السجان التي غفلت عنهم، وتبين لاحقاً أنه كان نائماً ساعتها.
وكيف لم تشعر سلطات السجن بأي حركة أو علامة كانت ستؤدي إلى إحباط عمليتهم التي استغرقت كما يبدو بين إعداد وتنفيذ أشهراً طويلة.
حدثت العملية عشية يوم رأس السنة العبري مما نغص على الإسرائيليين فرحتهم، وتناقلت الأخبار الإسرائيلية احتمال قيامهم بعملية أمنية، فاستنفرت كل أجهزة الدولة الأمنية من شرطة وحرس حدود وجيش ومخابرات ومصلحة السجون.
وتزامن هذا الحدث وبالأسبوع ذاته مع حادثة اقتناص القنّاص الإسرائيلي على حدود غزة من فتحة في الجدار! يضاف لذلك انتشار معلومة أن خرائط السجن وتصميمه الهندسي التفصيلي منشورة على مواقع الإنترنت، وتم عرضها على التلفزيون الإسرائيلي، فلم تعد هذه الخرائط سرّاً مخفياً على أحد لا من داخل السجن كما يبدو ولا من خارجه.
ليس الطريق مستحيلاً ولكنه صعب، وكل صعب ممكن
26-09-2021
كما تبين أن السلطات تلك لا تنجح بزرع عملائها بين الأسرى كما تظن وتدّعي، حيث لم تصلها أية معلومة عن هذه العملية. مقابل ذلك كان على إسرائيل بأجهزتها المختلفة، وعلى رأسها جهاز المخابرات، أن تبث للرأي العام صورة أخرى تعيد لها بعضاً من هيبتها، وأيضاً أن تكسر نشوة الانتصار الفلسطيني. فبدأ إعلامها الرسمي والمجند بالعمل لنشر هذه الصورة.
• تجنّد الإعلام الإسرائيلي لحملة إعادة الهيبة والردع للمنظومة الأمنية
في محاولة لإعادة الهيبة والردع، اهتم الإعلام الإسرائيلي بالكشف عن أسماء الوحدات الخاصة التي تملكها إسرائيل وتُسخّرها في البحث عن الأسرى الستة، فذكرت عن مشاركة وحدات خاصة من الجيش وحرس الحدود في عملية البحث وتم الحديث عن مشاركة أفراد وحدة "مرعول" (وهي وحدة تعقب وتقفي أثر تأسست عام 2014 في أعقاب عملية الخليل التي شهدت خطف ثلاثة مستوطنين، بحسب ما تناقلته وسائل الإعلام الإسرائيلية المختلفة). كما ذكر ذلك الإعلام مشاركة قوات أخرى من الشرطة منها "اليمام" و"اليمار" (وهي وحدات مركزية في الشرطة).
وحين اعتقل أربعة من الأسرى الستة بفارق ساعات، بدأت الدعاية الإعلامية الإسرائيلية بترويج رواية أن اعتقالهم تم لنباهة ووعي مواطنين ممن تسميهم "عرب إسرائيل". وزعمت الشرطة كما جاء في بيانها ونشر عبر وسائل الإعلام أن الاثنين الأولين اعتقلا في منطقة جبل القفزة في أطراف مدينة الناصرة بينما اعتقل الاثنان الآخران في منطقة أم الغنم بالقرب من جبل الطور.
قوبل خبر اعتقال الأربعة بحزن شديد في الشارع الفلسطيني وقلق من تعريض حياتهم للخطر أثناء إخضاعهم لتحقيقات الشاباك، في محاولة من الجهاز للانتقام ولفهم كيف تمت العملية وكل حيثياتها ولتقصي معلومات عن زميليهما الكممجي والنفيعات اللذين اعتقلا بعد ذلك بعدة أيام. وزاد من هذا القلق صورة لزكريا الزبيدي تظهر تعرضه كما يبدو للضرب أثناء اعتقاله، ودارت معركة للسماح للمحامين بلقاء الأسرى وهو ما انتزع انتزاعاً بعد تعنت. وقامت النيابة الإسرائيلية بتوجيه تهمة الهروب من السجن وهي ليست تهمة أمنية، وإضافة تُهم أمنية عليها، حاولت تصويرها بالخطيرة مثل "التخطيط لعملية إرهابية".
• ثلاث صور موازية حاول الإعلام الإسرائيلي بثّها
عمل الإعلام الإسرائيلي على بث ثلاث صور موازية: الأولى، تأكيد صورة "النجاح" الأمني الإسرائيلي وبث رواية المؤسسة الصهيونية، من خلال الحديث عن الوحدات الخاصة التي شاركت بالاعتقال، والحديث عن مئات الحواجز الكثيرة التي نشرتها في طول البلاد وعرضها، والحديث عن الأدوات الخاصة والطائرات التي استعملتها للكشف عن مواقعهم وتقصي أثرهم.
في الثانية، عمل الإعلام الإسرائيلي على تحطيم صورة البطولة التي ارتسمت عن الأسرى بوعي الناس، فتم مع اعتقال الزبيدي والعارضة تصويرهما مكبلي الأيدي ومكممي الأعين، ويتم إخفاض رأسيهما بالقوة وإدخالهما لسيارة الشرطة من قبل امرأة "شرطية"! وسُمح للإعلام بدخول قاعة المحكمة أثناء تمديد الاعتقال وتصويرهما في بدلات السجن البنية التي يلبسها الأسرى المصنفون أمنيين (لتمييزهم عن الجنائيين الذين يلبسون اللون البرتقالي)، وكانوا مُكبلي الأيدي والأرجل ومحاطين برجال الأمن الذين يلتصقون بهما. وبالتوازي بُثّت فكرة أن الأسرى كانوا في "حالة يرثى لها"، مرهقين لا يعرفون إلى أين يتجهون، "يطرقون الأبواب طلباً للطعام".
فلسطين: تعدّدت الأدوات والاعتقال واحد
22-02-2021
في صبيحة اعتقال الزبيدي والعارضة قامت القناة 13 الإسرائيلية في برنامج الصباح "العالم هذا الصباح"، باستضافة من اسمته "مخرب سابق"، ادعى البرنامج - كما كتب على الشاشة وكما قال المذيعون - إنه يعرف عن قرب الأسرى الأربعة، ليتبين حين بدأ الحديث أنه لا يعرفهم ولم يصادفهم بتاتاً. كانت مهمة هذا الشخص هي تشويه صورة البطولة والتهجم على الأربعة وعرضهم على أنهم فاشلون، مقابل مدحه للمنظومة الحاكمة ولأمن إسرائيل ولمصلحة السجون، واختتم كلامه بأن سجون إسرائيل علمته وجعلته إنساناً، وأنه أكل فيها أفضل الطعام، والذي يفوق بمستواه حتى الطعام الذي أكله في بيته.
الصورة الثالثة التي عمل الإعلام، وخاصة التلفزيون الإسرائيلي على بثّها هي فكرة العمالة لدى فلسطيني 1948 الذين يسمونهم "عرب إسرائيل". شددت الرواية الرسمية على أن القبض على أول اثنين تم جراء تبليغ عائلة من الناصرة عن الأسرى، وأن صاحب البيت يعمل في الأمن الإسرائيلي.
وعمل الإعلام على تدعيم هذه الفكرة من خلال استضافة شخص يتحدث العربية في التلفزيون الإسرائيلي (القناة 13) ادعى أنه من قرية أم الغنم التي اعتقل فيها الزبيدي والعارضة. وكان يدعي أنه إنسانٌ بسيط من أهل البلد التقاه المراسل بالصدفة بالشارع. لكن كان من الواضح من المعلومات الدقيقة التي يملكها الرجل عن نوع الوحدات التي اعتقلت الاثنين أنه ضليع في الأمن الإسرائيلي ومحتمل أنه من رجاله.
إضافةً لذلك، اهتمت القناة ذاتها باستضافة امرأة تتحدث العربية وتلبس الزي العسكري، وعرفت نفسها بـ "مسلمة تحمل الهوية الإسرائيلية"، تحدثت عن تجربتها في الانخراط بصفوف الجيش الإسرائيلي اقتناعاً منها بهويتها الإسرائيلية وانتمائها لهذه الدولة، وتحدثت عن عملها لتجنيد فتيات أخريات للانضمام لصفوف الجيش والانخراط في الخدمة المدنية (مشروع بديل للخدمة العسكرية سوقته وطرحته إسرائيل لتشجيع انضمام العرب لأجهزتها مقابل إغرائهم بالكثير من التسهيلات في التعليم والعمل وما إلى ذلك).
وبثت وسائل الإعلام الاسرائيلية أخباراً مفادها أن من تسمّيهم "عرب إسرائيل" لم يتعاونوا مع الأسرى الذين طلبوا من أهل القرية المجاورة لسجن الجلبوع نقلهم إلى جنين.
• رد الفعل الفلسطيني على هذه المشاهد الثلاثة
كلتا الصورتين الثانية والثالثة رفضت من قبل الفلسطينيين وجرى التشكيك بهما. ولم تكن الصورة الأولى بحاجة أن يُحاججها أيٌّ كان، فعلى الرغم من اجتهاد إسرائيل ببث صورة نجاحها وتفوقها لدى اعتقال الأربعة فإن فكرة أنها فشلت أمنياً تحققت حين الخروج من الحفرة، ولن تستطيع إسرائيل ترميمها.
تناقلت وسائل التواصل الإعلامي، خاصة فيسبوك وتويتر الكثير من التعليقات التي تظهر أنه على الرغم من الحزن لاعتقالهم والخوف على حياتهم تبقى صورتهم في الوعي صورة الأبطال الذين رفعوا معنويات كافة الشعب الفلسطيني ووحدوه بين داخل وخارج، بين غزة ورام الله والناصرة.
وتم التشكيك تماماً برواية المؤسسة الإسرائيلية في أن يكون الأسرى جائعين لدرجة يطرقون فيها أبواباً غريبة لا يعرفون من يقف خلفها، خاصةً أن الحديث عن أسرى مروا بالأصعب في السجن من تحقيقات وتعذيب، وبعضهم محكوم بالمؤبدات وشاركوا بإضرابات عن الطعام وتحملوا الجوع، فلا يعقل أن يطرقوا الأبواب طلباً للطعام.
إضافةً لذلك، كان هناك رفض تام لفكرة "الوشاية" الفلسطينية، فحتى من صدّق بدايةً رواية أن من أبلغ عنهم هو فلسطيني من الناصرة، حزن وعبر عن خيبة الأمل. لكن الغالبية العظمى لم تصدق هذه الرواية وشككت بها. وتساءل البعض كيف يعقل أن يصادف أن أول بيت يدق بابه الأسرى -إن حصل أصلاً- يبلغ عنهم بينما الناصرة يفوق عدد سكانها 75 ألفاً، وتغنّى الكثيرون بناصرة توفيق زياد بكل تاريخها الكفاحي الوطني. وكلما ازدادت الأخبار التي تفيد أن فلسطيني 1948 رفضوا مساعدة الأسرى بنقلهم للضفة وعبروا عن "مواطنتهم" الصالحة، تعمّق الإدراك بأن هذه الأخبار هادفةٌ ومغرضة تبغي تشويه صورتهم.
ويرفض الفلسطينيون تصديق التسريبات التي تخرج من قاعة المحكمة وكأنها تقال على لسان الزبيدي.
أثار مصطلح "عرب إسرائيل" النقاش ورفضه أغلب من علقوا عليه باعتباره نتاجاً استعمارياً إسرائيلياً يحاول تفكيك الهوية الوطنية الفلسطينية وتعزيز الانتماء الفردي ومفهوم المواطنة.
الوجود الفلسطيني بحزب صهيوني
13-03-2021
ولتأكيد ذلك كله، ففور الإعلان عن القبض على الاثنين الأولين في الناصرة، تمت الدعوة لمظاهرة غضب في المدينة، رافضة للمتعاونين، وحين أُعلن عن إحضار الأربعة إلى المحكمة في الناصرة لتمديد الاعتقال من أجل استمرار التحقيق المخابراتي معهم، وتزامناً مع جلسة المحكمة، انتقلت المظاهرة إلى المحكمة وشكلت بذلك استقبالاً للأسرى الأربعة ودعماً معنوياً لهم، وأطلقت هتافات تشيد بهم، وبالحُريّة ورفض المتظاهرون الإدلاء بأي تصريح للإعلام الإسرائيلي، بل اشتبكوا بالأيدي مع مواليه، معبرين بذلك عن رؤيتهم له كناطق باسم الجهاز الحاكم وليس كسلطة مستقلة كما يفترض بالصحافة أن تكون.