كيف صار "رفع الدعم" مطلباً شعبياً في لبنان!

تعزز "اقتصاد موازي" كما يُسمّى بأدب ، بدءاً من التهريب بكل مستوياته، الى اللصوصية، الى "الخدمات" مقابل أجر، الى السمسرة من كل نوع. "اقتصاد حرب" بلا مدافع وصواريخ حتى الآن، ولكن برصاص حين يلزم الأمر. هكذا وصل حتى الفقراء الى تبادل جملة "يرفعوا الدعم ويخلْصونا" بعد صباح الخير، مع علمهم أن الغلاء سيتضاعف..
2021-09-23

نهلة الشهال

أستاذة وباحثة في علم الاجتماع السياسي، رئيسة تحرير "السفير العربي"


شارك
أحمد السوداني - العراق

بكلمات قليلة ومباشرة: لقد أُذلَّ اللبنانيون واللبنانيات على مدى السنتين الماضيتين، و"أُوسعوا رفساً وضرباً" على كل الصعد، فطفش منهم من تمكن من السفر – وهم مهما كثرت أعدادهم يبقون قلة قليلة – وانكفأ آخرون يطحنون مرارة خيبتهم – وهم أيضاً قلة قليلة يملكون "رفاهية" الانكفاء – بينما راح السواد الأعظم منهم يخوض غمار تأمين المستلزمات الاساسية للحياة التي انهارت أمام أعينهم بلمح البصر وبسرعة مجنونة.

يطوفون لتوفير الدواء، مستجْدين الصيدليات ثم مفعِّلين علاقات القربى والصداقة مع من هم خارج البلد للحصول على أدوية ضرورية، ومستغْنين عما يمكن الاستغناء عنه ولو بتعريض صحتهم للخطر. يُدركون أن 40 في المئة من أطباء لبنان غادروه كلياً أو جزئياً خلال تلك السنتين المشئومتين، وأن المستشفيات حذّرت المواطنين من أنها لن تستقبل إلا الحالات بالغة الاستعجال، بل وحتى أنها قد لا تستقبلها: فلا مستحضرات علاجية لديها ولا كهرباء لتشغيل معداتها أو حتى لانارة ممرات طوابقها وغرف العمليات.. هذا عدا المرضى المقيمين فيها، أطفالاً وكباراً، الموضوعين على آلات من كل نوع، وهم يمكن أن يتوفوا بدقائق لو توقفت تلك الآلات عن العمل. وقدموا أرقاماً – مرعبة – عن ذلك.

ثم يطوف الناس لتأمين سائر الأشياء، وهي مترابطة: الخبز، لأنه بلا مازوت فلا أفران، وبلا بنزين فلا نقل حتى عندما تعمل الأفران، وتوفير الطعام لعوائلهم بعدما انهارت قيمة أجور من يعمل منهم وتعاظم جيش العاطلين عن العمل.. وصاروا يقبلون باستهلاك أردأ أنواع الاطعمة – وهم يعلمون - ويحمدون الله على توفرها حين تتوفر. وجاع منهم كثيرون، وخرج من المدارس عدد مهول من الأولاد. وهذه كلها مشاهد متكررة في كثير من بلدان منطقتنا وسواها – بينما يزداد ثراء البضعة بشكل فاحش وبفضل النهب، وهم، الناس، كذلك "يعلمون" - ولكنها في لبنان هبطت على رؤوسهم وحيواتهم بلمح البصر.

ثم ينتظرون أمام محطات البنزين لتعبئة سياراتهم. فلا وسائل نقل عام في لبنان. بعضهم ينام في السيارة ليلاً ليحجز مكاناً معقولاً عند بدء التعبئة، في الخط الممتد لعدة كيلومترات، وبعضهم يعود خائباً على الرغم من ساعات الانتظار المنهكة والشجارات التي لا تنتهي خلال ذلك: فأما أن كمية البنزين نفدت، أو أنه جرى تمرير أصحاب الوساطات أو الرشاوي الكبيرة قبلهم، ولا يغيّر في الأمر أن الدرك والجيش متواجدون في المحطات.

وبعض الناس صارت تلك مهنته. ينتظر في السيارة لتعبئتها لصالح الغير وينال مقابل ذلك أجره الذي تفاوض عليه، وهو مجزٍ أكثر من دخله السابق، سواء كان يعمل سائق أجرة أو معلماً في مدرسة أو في أي مهنة أخرى...

 وهناك تفاصيل تتعلق بالبيع باسعار فائقة الارتفاع، بالغالونات، على الطرقات أو في مداخل البنايات للمضطر الى قطرة بنزين. وصار هناك تبادل للمعلومات بواسطة واتساب عمن لديه بنزيناً للبيع ومفاوضات تخص سعره. "بزنس" كامل، له ناسه ومشتغليه ومن ينال منه كوميسيون ومن يلجأ اليه مضطراً، أي جميع الناس عملياً!

وأما المازوت لتشغيل مولدات الحارات التي تقابلها اشتراكات باهظة، والتي توفر الكهرباء لساعات قليلة حتى يمكن تشغيل الغسالة أو البراد وبعض الانارة ليلاً، فهو بضاعة نادرة يتحكم فيها "شبيحة" يفرضون ما يشاؤون على المشتركين، بل وينالون أحياناً الاشتراك مقابل صفر كهرباء لأنه لم تتوفر لدى صاحب المولد المادة، مهدِّداً من لا يسدد اشتراكه، بقطع خطه وعدم وصله لاحقاً. ومعلوم أن بين الشبيحة المحميين بالميليشيات على أنواعها (وبلا أي فارق بين الاحزاب والتيارات المختلفة) اتفاق "جنتلمان"، يقضي بتقاسم الجغرافيا، فلا أحد يتجاوز على حيز أحد، ولا اشتراك إلا مع هذا الشبيح تحديداً، وإلا تسيل دماء كثيرة بين الشبيحة انفسهم.

وفي ظل كل ذلك (وسواه) تعزز "اقتصاد موازي" كما يُسمّى بأدب ، بدءاً من التهريب بكل أنواعه الى اللصوصية، الى "الخدمات" مقابل أجر، الى سماسرة من كل نوع. "اقتصاد حرب" بلا مدافع وصواريخ حتى الآن، ولكن برصاص حين يلزم الأمر. هكذا وصل حتى الفقراء الى تبادل جملة "يرفعوا الدعم ويخلصونا" بعد صباح الخير، مع علمهم أن الغلاء سيتضاعف. ولكنهم يعتقدون أنهم "سيتدبرون أمورهم"، لأن الغلاء الفاحش قائم على أية حال، ولكن ستتوفرعلى الأقل المواد التي يحتاجونها. فإن كان بذل الوقت لا يهم – والوقت ليس له ثمن هنا - فهم يأملون بتوفير تلف الأعصاب، والخيبات والمخاطر...

وبالطبع، فلا أحد يأبه بالحكومة الجديدة ولا بما يقول فلان وعلان.. فهم بنظر الناس أداة لتنفيذ بعض التدابير. وليس في الأمر أي "سياسة"، بمعناها الأصيل: خيارات واتجاهات ومصالح عامة فقد انفك الناس تماماً عن هؤلاء الذين ما زالوا يعتقدون أنهم "زعماء"، أو هم أيضاً "يعلمون"، ولكنهم لا يأبهون، ف"همهم" في مكان آخر.

و... ستُطرح حين "تستقيم الامور"، ولو برفع الدعم (!)، مشكلة عاطلين جدد عن العمل من تلك الشرائح البائسة التي اشتغلت في اقتصاد الحرب ذاك، ولكن سيولد سواها بالتأكيد.. 

مقالات من لبنان

للكاتب نفسه

ماذا الآن؟

وقعتْ إسرائيل في خانة المستعمِر، واهتزت بقوة "شرعيتها" المصنوعة بتوأدة. حدث ذلك بفعل مقدار منفلت تماماً من همجيتها في الميدان وصل إلى التسبب في الصدمة للناس، وكذلك بفعل التصريحات والخطب...