بدا الأمر كأسطورة غرائبية مستعصية على الفهم . من هو السلطان حامد؟ ولماذا اختار تلك البلدة الصغيرة في ريف الدلتا كي يموت فيها ويرتفع مقامه؟ وهل ثمة سلطان حقيقي بهذا الاسم بين سلاطين مصر على امتداد تاريخها الطويل؟ ولماذا يحظى بكل هذه المكانة التي تصل حد التقديس بينما لا يعرف أحد عنه شيئاً؟
تلك هي الأسئلة العسيرة التي واجهت الطفل عندما وجد نفسه ذات يوم وهو يقتحم السر المغلق، ويوقد شمعةً على شباك المقام وفاءً لنذر ورطه فيه جده المتيم بالسلطان الغامض .
الأسئلة واجهت جداراً مصمتاً من الناس الذين تعاملوا مع السلطان حامد كحقيقة أبدية لا تحتاج إلى إثبات أو برهان ... كشأن الكثير من تلك الأشياء التي تعودنا عليها ونشأنا بجوارها ومعها فصارت لا تقبل السؤال عن أصلها أو سببها .
يطرق الطفل الحائر كل الأبواب بلا جدوى . يذهب إلى الشيخ شلتوت شيخ كُتّاب القرية، فيخبره أن السلطان حامد كان رجلاً تقياً زاهداً، وأنه لن يستطيع الوصول إلى الإجابة عن تلك الأسئلة الحائرة إلا بالذكر. يواظب الصبي على حضور حلقات الذكر في منزل الشيخ، وترديد الأوراد والابتهالات التي ترفعها حناجر الرجال الخشنة. ثم يتوقف بعدها يائساً عن الوصول وعن الإجابة عن أسئلته. وعندما يلج باب "الأحمدي أفندي" أول متعلم في القرية وأول من لبس البدلة والطربوش، يخبره الرجل أن السلطان حامد محض خرافة رددها الفلاحون وصدقوها. أخبره بحزم أن حامد هذا ربما كان صعلوكاً أو مجنوناً أو مجرماً صنعت منه الخرافة سلطاناً مزيفاً.
وعندما يصل الطفل إلى مشارف اليأس ويحاول أن ينسى تلك الأسطورة الغامضة، يذهب في أحد صباحات الجمعة إلى قرية تبعد عن قريتهم عدة كيلومترات مع فريق الكرة من صبية قريته كي يلعبوا مع فريق القرية الأخرى. وهناك يكتشف الصبي أن ثمة مقاماً آخر لسلطان حامد آخر تُنذر له النذور، ومحاط أيضاً بالكثير من الطلاسم والغموض، وتسيل على شباكه الشموع المنذورة.
وفيما بعد يكتشف الفتى من خلال مباريات أخرى وقرًى أخرى أن لكل بلدة سلطانها الخاص لكنه يظل "حامد" في كل الأحوال، رمزاً لا يعرف الفناء تلتف حوله ضمائر الجميع وقلوبهم في كل قرية.
تشتعل تساؤلات الطفل من جديد لكنه في كل مرة يصطدم بجدران من التجاهل والدهشة، فيتعجب إلى حد الألم لهؤلاء الذين يأخذون الأمر بكل هذه البساطة، ويستطيعون النوم والضحك بعد أسئلته الملتاعة، وكأن من الطبيعي أن يوجد لكل قرية سلطان، وأن هذا السلطان يجب أن يكون اسمه حامد، سلطان شيطاني استيقظوا ذات صباح فوجدوا مقامه منتصباً عند حافة جباناتهم، ووجدوا مكانته سامقة في أذهانهم..
لقد اتفقوا فيما بينهم على ترك حقول الذرة بلا حصاد. انتُزعت ثمراتها وهي واقفة وتُرِكت عيدانها كي تصبح ملاذاً آمناً للاختفاء والهرب. وأعلنت كل قرية في الدلتا أنها أعدّت لحامد بيتاً وزوجة إذا قرر الاختفاء بها.
ولكن الصغير تجرفه أحداث الدنيا ويقرر أن يكف عن التفكير في الأمر وكأنه لم يوجد. تمضى أيامه كما تمضى بالناس، يصبح شاباً يجد نفسه ذات يوم وبصدفة قدرية في مدينة الإسماعيلية، وهناك يلتقي بأحد أصدقائه الأطباء الذي يصطحبه إلى ورديته المسائية في مستشفى الإسماعيلية حيث يلتقى بالسيدة "جين" والتي كانت سفينتها قد احتجزت داخل قناة السويس إبّان العدوان الثلاثي على مصر. وخلال ذلك قررت السيدة أنها بحاجة إلى علاج سريع فوجدت نفسها في المستشفى. وهناك، بينما كان ثلاثتهم يحكون عن أغرب ما مر بهم في حياتهم، استمعت السيدة إلى قصة بطلنا الحائر مع السلطان حامد فاستغرقتها الدهشة، ووعدته أنها سوف تراسله ذات يوم بما يمكن أن تعرفة عن تلك القصة.
انقضت بعدها شهور طويلة، وكان آخر ما يتوقعه صاحبنا أن يتلقى رسالةً من السيدة جين تخبره فيها أنها ربما تكون قد وجدت طرف الخيط الذي يمكن أن يقوده إلى حل لغز السلطان حامد. تسأله أولاً إن كانت ثمة قرية في الدلتا تسمى "شطانوف"؟ ثم تخبره أنها أرفقت بخطابها بضع صفحات من مطبوعة فرنسية هي عبارة عن مجموعة من الرسائل التي أرسلها السيد "روجيه كليمان" أحد علماء الحملة الفرنسية الذين قدموا إلى مصر إلى صديقه السيد "غى دو روان " وأن المطبوعة جرت مراجعتها وتدقيقها على يد الأستاذ "س مارتان " عضو الأكاديمية الفرنسية، ومن ثم فهي تحظى بثقة عالية.
فض صاحبنا الأوراق، فوجد أنها تحوي الرسالة الأخيرة من روجية كليمان إلى صديقه، يقول فيها "كنت وأنا أضع قدمي على أرض مصر أحس أنني مقبل على بلاد أفريقية مظلمة، أحمل لها شعلة الحضارة، وأذيقها طعم الجمهورية التي تنهل منها بلادي، فإذا بي اليوم .. ماذا أقول يا روان؟ هؤلاء الفلاحون يا روان، إذا رأيتهم عن قرب، ورأيت وجوههم التي تبتسم لك في طيبة وسذاجة، وأدركت خجلهم الفطري من الغريب، ربما يدفعك هذا للاستخفاف بهم، وتعتقد أنك لو ضربت أحدهم على قفاه لما جرأ على أن يرفع لك وجهه، ولتقبل الإهانة بكل سعادة وخشوع .. حذار أن تفعل شيئاً كهذا يا غي، فقد حاول الجنرالان كليبر وبيلو ولكنهم ندموا على ذلك. لا أحد يستطيع أن يسبر غور هؤلاء الناس. تلك القبيلة ذات الملامح المتشابهة التي هبطت ذات يوم إلى وادي النيل وآلت على نفسها ألا تتحرك أو تتفتت، القبيلة التي تعلمت أن تحني رأسها لعاصفة الغزاة، ثم تمضغهم على مهل، القبيلة التي تسكن وادياً مفتوحاً تستطيع بأي جيش صغير أن تغزوه.. ولكن المشكلة ليست في الغزو أبداً، المشكلة هي في ما يحدث بعد الغزو، وأتحدى التاريخ أن يثبت أن غازياً واحداً دخل هذه البلاد واستطاع أن يغادرها سالماً".
لوحظ أن عدد المقبوض عليهم من واشمي العصافير ومبتوري البناصر يزداد بكثرة شديدة. وبعد البحث اتضح أن الفلاحين كانوا يقومون بوشم العصافير على أصداغهم وبتر بناصرهم اليسرى حتى لا يصبح ممكناً تمييز حامد من بينهم. أصبح بتر الأصبع البنصر مجال تنافس بين رجال القرية وشبابها، ومرتبة من مراتب الشجاعة والبطولة.
"تمركزنا فى احدى القرى والتي كانت تضم قلعة للمماليك قمنا بهدمها وبنينا مكانها قلعة جديدة فأصبح المكان يسمى "شاتو نوف" أى القلعة الجديدة، وكان الفلاحون ينطقونها "شطانوف"، وكانت تعليمات الجنرال "بيلو" هي عدم الاحتكاك بالفلاحين أو استفزازهم، بعد أن شاهدنا بأنفسنا ما جرى لحملة "مارتن" التي أرسلها الجنرال نابليون لاحتلال المنطقة الشرقية من الدلتا، وكيف خرج عليهم الفلاحون فشتتوا شملهم وقتلوا منهم عدداً كبيراً، وعادوا في حالة يرثى لها. وهؤلاء الجنود يا روان هم صفوة الجيش الذين فتح بهم الجنرال النمسا وأسبانيا وبولندا وحقق بهم انتصارات هائلة في سالزبورغ وإيطاليا، بل ودحر بهم المماليك الشجعان في معركتين فقط. هؤلاء الفلاحون خرجوا على جنودنا وهم يصيحون صيحة غريبة "لهكبر. لهكبر" أي أن الله أكبر من كل الأعداء !
لكن حدث، وقتل أحد جنودنا أحد الفلاحين. يومها صعد شيخ البلد ومعه مجموعة من أعيان القرية إلى القلعة، وطالبوا بيلو أن يقتل الجندي الذي قتل الفلاح أو يسلمه لهم ليقتلوه. ولكن بيلو رفض، فانصرف شيخ البلد ومن معه بهدوء. وفى اليوم التالي قُتل أحد جنودنا أثناء عودته إلى القلعة، فاستشاط بيلو غضباً، وقام بالقبض على شيخ البلد وعدد من الفلاحين، وأرسل منادياً في القرية أنه سوف يقتل شيخ البلد ومن معه إذا لم يسلم قاتل الجندي الفرنسي نفسه قبل غروب الشمس. وقبل غروب شمس ذلك اليوم، قام أحد الفلاحين بتسليم نفسه لحامية القلعة. كان اسمه حامد، ولم يكن هناك ما يميزه إلا وشم العصافير على صدغه، والذي يعتقد الفلاحون هنا أنه يقوّى البصر، كما أن إصبع بنصره الأيسر كان مبتوراً.
تمّ تشكيل محاكمة عاجلة لحامد في ساحة القرية وبوجود الأهالي، وتم تكليفي بالدفاع عن المتهم في الوقت الذي كنت أعلم أن قرار إعدامه قد تم توقيعه بالفعل. كانت مهزلة كاملة وأنا أترافع عن الفلاح، وأردد مقولات فلاسفة الثورة وشعارات الجمهورية عن الحرية والإخاء والمساواة في قلعة شطانوف .
انتقل جنود جيش فرنسا الجمهوري العظيم تحت جنح الظلام ليستخرجوا جثة هذا الفلاح، وقاموا بتمزيقها إلى أشلاء صغيرة، ثم بتوزيعها على فرق مضت تبذرها في طول البلاد وعرضها. أرادوا أن يبعثروا الأسطورة فلا يبقى لها أثر.. فهل انتهت الأسطورة حقاً؟ لقد جاءت الأنباء بأن المصريين أقاموا ضريحاً فوق كل قطعة من جسد السلطان المبعثر على امتداد البلاد.
ثم حدث كل شيء في دقائق معدودة. قام الفلاحون بالهجوم علينا، وهم يطلقون صيحتهم المرعبة التي أطلقوها على قوات مارتن.. لهكبر لهكبر. فهرب جنودنا فزعاً إلى داخل القلعة وعمت الفوضى أرجاء المكان، وفي أثناء ذلك استطاع الفلاحون أن يحرروا المتهم الذي اختفى كأنه لم يوجد قط.
فى هذه المرة شعر بيلو أن كرامة الجمهورية أصبحت على المحك. كان يجب أن يأخذ قراراً فورياً وصارماً يعيد به هيبتنا، فقام بالقبض على شيخ البلد والأعيان وأرسل منادياً مرة أخرى ليعلن أنه إذا لم يسلم حامد نفسه قبل غروب الشمس فإنه سوف يقتل شيخ البلد. ولما لم يسلم حامد نفسه عند الغروب، فقد قتل بيلو شيخ البلد بالفعل، وهو يدفع بحماقته نحو النهاية كما سترى.
كان لإعدام شيخ البلد دويٌّ شديد فى شطانوف والقرى المحيطة، وسرت شائعة أن حامد قد أقسم أنه سوف يقتل بيلو شخصياً انتقاماً لشيخ البلد.
ولكن بيلو لم يكن بالرجل الذي يخيفه التهديد، فخرج ذات يوم على رأس إحدى الدوريات للبحث عن حامد، لكنة عاد في ذلك اليوم للمرة الأخيرة محمولاً وجسده ممزقاً بالثقوب!
لم ينم الجنرال نابليون ليلتها يا روان، وعهد بالقيادة إلى الجنرال كليبر بنفسه كي يقضي على حامد الذي تحول إلى أسطورة أصبحت تقض مضاجعنا جميعاً، والتف حوله الفلاحون كرمز للمقاومة والنضال، وأصبحوا يصيحون في وجوهنا باسمه فكأنهم يطلقون علينا عشرات البنادق. لقد اتفقوا فيما بينهم على ترك حقول الذرة بلا حصاد، انتزعت ثمراتها وهي واقفة، وتركت عيدانها كي تصبح ملاذاً آمناً للاختفاء والهرب، وأعلنت كل قرية في الدلتا أنها أعدت لحامد بيتاً وزوجة إذا قرر الاختفاء بها. كانت الأنباء تصل إلى الجنرال بمكان حامد فتنطلق القوات للقبض عليه، فينزلق في حقول الذرة حتى تبتلعه القرية المجاورة، وكان كل من وشم العصفورة على صدغيه وبتر أصبع بنصره يتم القبض عليه فوراً. ولكن لوحظ أن عدد المقبوض عليهم من واشمي العصافير ومبتوري البناصر يزداد بكثرة شديدة. وبعد البحث اتضح أن الفلاحين كانوا يقومون بوشم العصافير على أصداغهم، وبتر بناصرهم اليسرى حتى لا يصبح ممكناً تمييز حامد من بينهم. أصبح بتر الأصبع البنصر مجال تنافس بين رجال القرية وشبابها، ومرتبة من مراتب الشجاعة والبطولة.
ثم سرعان ما تكونت عصابات من هؤلاء أصبحوا يُسمّون أنفسهم أولاد حامد، وأطلقوا عليه لقب السلطان، ثم صاروا يقطعون الطريق على قواتنا حتى تلفتْ أعصاب جنودنا، فصاروا يطلقون النار عشوائياً على الفلاحين، وكلما قتلوا منهم واحداً قتل الفلاحون واحداً من جنودنا.
وبعد أن نمت الأسطورة وامتدت من الدلتا إلى القاهرة، حدث الأمر ببساطة شديدة.. قُتل حامد. هكذا! صادفه أحد جنودنا في أحد الأسواق، وكان قد شهد محاكمته التي جرت في القلعة، ويعرف وجهه، فأطلق عليه النار وفر هارباً على الفور.
لن أحدثك عن الغضب الجامح الذي رج مصر من أقصاها لأقصاها. يكفي فقط أن تعرف أن إحدى نتائجه كانت حرق قلعة شطانوف بما فيها. وثارت القاهرة للمرة الثانية وأعلن المماليك استقلال الصعيد وأصبح الوضع وكأننا على حافة بركان.
لم ينقل الفلاحون حامد من مكان مصرعه. ظل في مكانه لا يمسه أحد، وفي ظرف ثلاثة أيام كانوا قد بنوا فوقه ضريحاً ذا قبة عالية. وأصبحت الناس تأتي إليه من كل مكان في مصر، وبعد أن كان حامد في نظر الجنرال مجرد فلاح هارب، أصبح رمزاً عالياً ومكاناً معروفاً يُحج إليه من كل مكان. التفوا حوله يا روان كما يلتف النمل على قطعة الخبز، وجدوا فيه ضالتهم وأملهم في التحدي والمقاومة .
لقد جئنا نغزو هؤلاء القوم بتفوقنا، بمدافعنا وموسيقانا النحاسية ومطبعتنا، وتفاعلات كيميانا، ولكن أنّى لنا بمقدرتهم الخارقة على التكتل والحب والبقاء؟ أنّى لنا بإيمان كهذا ؟ أنّى لنا بالقدرة على أن نكون أفراداً إذا أردنا، وكتلة واحدة حين نريد؟
هل تتصور يا روان أن جنود الجيش الجمهوري العظيم ينتقلون خفيةً في جنح الظلام كي يستخرجوا جثة هذا الفلاح، ويقوموا بتمزيقها إلى أشلاء صغيرة، ثم يقوموا بتوزيعها على فرق مضت تبذرها في طول البلاد وعرضها. أرادوا أن يبعثروا الأسطورة فلا يبقى لها أثر.. فهل انتهت الأسطورة حقاً يا صديقي؟! لقد جاءت الأنباء بأن المصريين قد أقاموا ضريحاً فوق كل قطعة من جسد السلطان المبعثر على امتداد البلاد!
هل تعلم أنني تسللت خفيةً لزيارة أحد هذا الأضرحة بالأمس، فأدركت أن ما تحت الضريح ليس هو المهم. المهم هو النداء الواحد الصادر من عشرات الآلاف من الأفواه الواسعة الجائعة، هو الأجساد الخشنة الغليظة الملتفة حول الضريح، هو الوجه الآخر للوحش الخرافي الذي خلع قلوب جنودنا بضربة واحدة من يده. المهم هو ما تفرزه هذه الجموع ويتصاعد منها ويتجمع ويتداخل ويتبلور ويختلط بأضواء المشاعل وأنوار الشوارع وقرع الدفوف واهتزازات الأجسام."
***
... فهل انتهى يوسف إدريس من كتابه "سره الباتع" أم إن القصة ما زالت تكتب حتى الآن؟!
عندما قرأت هذه القصة للمرة الأولى شغلني كثيراً مدى واقعية الحدث، وبحثت بشغف عن أصل خطابات المسيو روجيه إلى صديقه روان. الشغف نفسه الذي دفع ذلك الصبي إلى البحث عن سر السلطان حامد، وإن كان الصبي قد عثر أخيراً على ضالته، فإنني لم أعثر قط على ما يدلني على طرف الخيط إلى واقعية ما جرى، والحقيقة أنه لم يعد يهمني ذلك الآن . فمن المؤكد أن الفترة التي خضعت فيها مصر للاحتلال الفرنسي قد جرى على أرضها مئات الوقائع المشابهة لما جرى في تحفة يوسف إدريس الباقية.
"لقد جئنا نغزو هؤلاء القوم بتفوقنا، بمدافعنا وموسيقانا النحاسية ومطبعتنا، وتفاعلات كيميانا، ولكن أنّى لنا بمقدرتهم الخارقة على التكتل والحب والبقاء؟ أنّى لنا بإيمان كهذا؟ أنّى لنا بالقدرة على أن نكون أفراداً إذا أردنا، وكتلة واحدة حين نريد؟"
"تسللتُ خفيةً لزيارة أحد هذا الأضرحة بالأمس، فأدركتُ أن ما تحت الضريح ليس هو المهم. المهم هو النداء الواحد الصادر من عشرات الآلاف من الأفواه الواسعة الجائعة، هو الأجساد الخشنة الغليظة الملتفة حول الضريح.."
أعتقد أننا جميعاً بحاجة إلى قراءة هذه القصة مجدداً بعد أن تكفلت الأحداث المتعاقبة بأن نفقد إيماننا بأنفسنا كما لم يحدث في أي فترة من فترات التاريخ.
نحن بحاجة أن نقرأ ما قاله المسيو كليمان لصديقة في نهاية خطابه "لقد وقفت خاشعاً واجفاً أراقب الجموع وهي تفرز الإيمان المشترك في خلقه لتعود تؤمن به، ويتصاعد النداء الواحد من القلب الواحد فيصبح حين يلتقي بغيره مادة سامية حية تعود تنسكب في كل قلب، تطهره وتقويه وتغذي فيه روح البقاء".
حدوتة "بلد الغلابة" و"دولة الغيلان"
31-12-2018
تلك هي المسألة، إيماننا بأنفسنا مهما بلغت قسوة الاستبداد أو صعوبة المكابدة. ربما لا يكون المصريون في حاجة إلى رمز إلا بالقدر الذي يعيد لهم إيمانهم بتلك الذات التي أوشكت أن تذوب كما ذابت تلك الشموع العديدة على شباك المقام، وإلا بالقدر الذي يستنهض فيهم تلك الروح التي أذهلت الفرنسيين، وجعلت المسيو روجيه يقرر البقاء في مصر بعد رحيل الحملة.
إيمانناً بتلك الهوية التي لا تظهر إلا كلمعات خاطفة عندما تشتد المحن أو تتراكم التحديات.
ثروة المصريين الحقيقية الباقية، على الرغم من أمراضهم المستعصية التي أورثهم إياها الاستبداد الطويل والعدل الغائب، هي في تلاحمهم الباقي الذي تضرر الآن كما لم يتضرر من قبل. فهل أنجب أولاد حامد هؤلاء الذين وقفوا في ميادين تحرير مصر ذات يوم يدقون على باب الطغاة يريدون أن يستردوا وطنهم من جديد؟ وهل ما زال هؤلاء ينتظرون تلك اللمعة الخاطفة التي تجمعهم كنفس واحدة حرص الطغاة على تمزيقها إلى أشلاء مبعثرة؟