إثيوبيا من الداخل.. هل تتفكك وريثة الحبشة إلى دويلات؟

أزمة التيغراي ليست الوحيدة التي قد تعصف بأديس أبابا. فما الذي تواجهه إثيوبيا من الداخل؟
2021-09-05

رباب عزام

صحافية من مصر


شارك
أقاليم أثيوبيا

بين ليلة وضحاها، باتت جارتنا إثيوبيا حديث العالم برمته، تزاحم أخبارها الملفات العالمية الأكثر خطورةً، بسبب التوتر مع مصر والسودان، الناتج عن ملء "سد النهضة" الأضخم في أفريقيا. بل طرحت تساؤلات عما إذا كانت إثيوبيا ستكون نقطة الانطلاق في أول حرب عالمية حديثة على المياه؟ وسط تأكيدات بأن قوى خارجية [1]  مصممةٌ على استكمال بناء السد، حفاظاً على مصالحها، وما قدمته من استثمارات ضخمة.

لكن الناظر للداخل الإثيوبي يرى جيداً أنه ليس في حالٍ تسمح بخوض حروب خارجية، في وقت ازداد فيه تأجج التوتر بين قوميات تطالب بمزايا مضاعفة، وأخرى تطمح إلى الاستقلال عن الدولة الإثيوبية. ولعل أزمة إقليم تيغراي الأبرز، وما تظهره من تقدم قوات الإقليم العسكرية، وهزيمتها المتكررة لجيش آبي أحمد الرسمي، خير دليل على أن إثيوبيا مشتتةٌ من الداخل، وليست في وضع يسمح لها بخوض حرب خارجية في وقت قريب.

لكن أزمة التيغراي ليست الوحيدة التي قد تعصف بأديس أبابا، فما الذي تواجهه إثيوبيا من الداخل؟

كيف تكونت إثيوبيا الحالية؟

بين فيضان وجفاف، قدّس الإنسان النهر الجاري [2]  بين ثنايا الهضبة الأكثر شهرة في أفريقيا، الهضبة الإثيوبية، حيث عُثر على أقدم جمجمة مستديرة وحديثة تشبه جمجمة الإنسان الحالي، ما أجاز تكهنات بأنه ربما كانت تلك المنطقة هي مهد الإنسان الأول، أو ما يطلق العلماء عليه اسم الإنسان المنتصِب، وقد ذُكرت في إلياذة وأوديسة هوميروس الإغريقية، حين وَصف أن كل مناطق النوبة وكوش (بلاد النوبة وجنوبها) وصولاً إلى بونت [3]  ببلاد إثيوبيا، كما ذكرها سترابون [4] في سردياته واعتبرها جزءاً من مصر، بينما ورد ذكرها على جدران معبد الملكة المصرية حتشبسوت في الدير البحري، حينما أرسلت بعثاتها التجارية إلى بلاد بونت في العام 1496 قبل الميلاد.

هناك بدأ كل شيء، في منتصف القرن الرابع الميلادي، حيث مملكة أكسوم القوية (سميت في النقوش اليمنية بالحبشة وكان ذلك أول ذكر للاسم في القرن الثاني الميلادي) التي سيطرت على أراضي ما يعرف اليوم باسم إريتريا وجيبوتي والصومال وشرق السودان وساحل شرق أفريقيا بأكمله. دخلت المسيحية على يد رهبان مصريين كانوا قد هربوا من الاضطهاد الروماني باتجاه الجنوب، ومن بلاد النوبة وصلوا إلى إثيوبيا، حسبما تقول الباحثة المصرية المختصة في الشأن الإثيوبي داليا سعد الدين. وتضيف أنه تم ترسيم أول أسقف لإثيوبيا في العام 330 ميلادي، لتنشأ الكنيسة الإثيوبية ككنيسة تابعة لكرسي البابوية في الإسكندرية. ثم انهارت مملكة أكسوم بعدما ضعفت كثيراً عقب صعود نجم الممالك الإسلامية، وسيطرة الفرس على أجزاء من الجزيرة العربية والتي كانت تربطها معها علاقات قوية، كما برزت قوة مملكة الصومال المتاخمة لحدودها، والتي أصبحت مملكةً إسلامية. كان ذلك ما بين القرنين السابع والعاشر الميلاديين.

تؤثر الحرب والنزاعات الدائرة فيما بين الأقاليم الإثيوبية ومع حكومة أديس أبابا على الدول المحيطة بإثيوبيا. فالبلاد البالغ عدد سكانها 110 مليون نسمة، تتاخم حدودها 6 دول، منها من سيتأثر بشكل خاص، كالسودان، التي اندفع إليها مئات الآلاف من اللاجئين عقب اشتعال الحرب.

تتخذ إثيوبيا نظام الحكم الفيدرالي الإثني، حيث يوفر نهج التمثيل النسبي في ظل نظام فيدرالي التعاملَ مع التعددية الاجتماعية. واعتبر الدستور الإثيوبي الفيدرالية الإثنية وسيلةً للقضاء على أسباب الحرب الأهلية، وتمكين الأقليات المضطهدة داخل المجتمع الإثيوبي الكبير. وتتكون إثيوبيا الحالية من تسعة أقاليم. 

ظلت أكسوم الحبشية في ضعف إلى أن اجتاحتها الملكة جوديت وأسست ما عرف بالأسرة الزجوية، والتي حكمت ما يقارب مئتي عام. حتى ذلك الوقت، كانت اللغة الجعزية هي اللغة الرسمية والدينية للمملكة. لكن بعد سيطرة الأسرة السليمانية في العام 1270 الميلادي، وبمساعدة مقاتلين من الصومال المسلمة بجانب قوات من أمهرا و تيغراي، انتهى حكم الجعزية وثقافتها، وبسطت أمهرا سيطرتها على كافة الأمور حتى إنها أجبرت القوميات المختلفة على تعلم لغتها الأمهرية، وأصبحت لغة الإمبراطورية الرسمية. لكن اضطهاداً شديداً حدث للمسلمين رغم أنهم لم يكونوا أقليةً، إلى جانب اضطهاد اليهود الإثيوبيين المعروفين باسم الفلاشا (كان أحد أسباب اضطهاد المسلمين هو الرد على اضطهاد ديني للمسيحيين المصريين في مصر في فترات حكم الخليفة الحاكم بأمر الله وخلال بعض فترات حكم المماليك). وأدى اشتباك الأمهرا بشكل عنيف مع المسلمين إلى تدخل المملكة الصومالية المسلمة واجتياح الحبشة، كان ذلك بالتزامن مع اجتياح العثمانيين مصر. من هنا بزغت جذور الصراع الديني والذي هو بالأساس صراعٌ عرقي كانت أداته الدين، ما بين عرقيات متعددة مثل: الهرر وعفر (الدناكل) المسلمين، وبين الأمهرا والتيغراي ذات الأغلبية المسيحية الأرثوذكسية. وعززت الحملات العسكرية التوسعية للإمبراطور منليك الثاني (1889-1913) من الصراعات ووسعت دائرتها، خاصةً بعد أن قامت قواته بالسيطرة على أقاليم الأورومو وأوغادين الصومالي وهرر وفيهما أغلبيةٌ مسلمة، وضمهما قسراً تحت راية الإمبراطورية. وأعقب الاجتياح العسكري لأراضي تلك الأقاليم محاولات عديدة لتحويل سكانها عن الديانة الإسلامية إلى الديانة المسيحية، لكنهم لم يستجيبوا واعتبروا حكم الأمهرا احتلالاً يجب مقاومته. وواصل الإمبراطور الحبشي الأخير هيلا سيلاسي قمعه للمسلمين بعد الحرب العالمية الثانية في كل أقاليم إثيوبيا، كما قمع الأرمن والمسيحيين الكاثوليك ولم يسمح لهم ببناء كنائس في إثيوبيا، مبرراً أنهم مسيحيون ولابد لهم من الصلاة مع الأرثوذكس.

لم تنج الإمبراطورية الحبشية - والتي تغير اسمها إلى الإمبراطورية الإثيوبية في العام 1948 عقب تأسيس عصبة الأمم - بسبب الأحداث والحروب الداخلية المستمرة، ليصبح العام 1987 هو عام قيام الجمهورية الإثيوبية الديمقراطية الشعبية [5]  ذات المنحى الماركسي. لكن الحاكم منغستو هيلا مريام لم يبعد كثيراً عن الصراعات، وقامت في عهده الذي وصف بالديكتاتوري إبادات عرقية أداتها الدين في كثير من الأحيان.

تسببت كل تلك الأفعال العنصرية والتمييزية في ثورة الأقاليم على أديس أبابا. وبدأت حركات تحررية في الظهور، قائمةٌ على أساس عرقي أو ديني، مثل: حركة تحرير إريتريا، وحركة تحرير غرب الصومال حيث إقليم أوغادين، لتسقط الجمهورية الديمقراطية الشعبية في العام 1991، ويظهر ما سمّي "الجبهة الديمقراطية الثورية الشعبية الإثيوبية" وهي التحالف السياسي الحاكم في البلاد من وقتها وحتى صعود رئيس الوزراء الحالي آبي أحمد. وهو تكوّنٌ من جبهة تحرير تيغراي، ومنظمة شعب الأورومو الديمقراطية، وحركة الأمهرا الوطنية الديمقراطية، والحركة الديمقراطية لشعوب وقوميات جنوب إثيوبيا، وكان التحالف الجديد قوياً إلى الحد الذي سمح له السيطرة على السلطة.

لكن جبهة تحرير تيغراي كانت قد تمكنت وبقوة من فرض سيطرتها على التحالف حتى العام 2018، حين صعد آبي أحمد القادم من قومية الأورومو إلى رئاسة الوزراء في أديس أبابا. وهنا تغير كل شيء.

شكل نظام الحكم بعد منغستو هيلا مريام؟

تتخذ إثيوبيا نظام الحكم الفيدرالي الإثني، حيث يوفر نهج التمثيل النسبي في ظل نظام فيدرالي التعاملَ مع التعددية الاجتماعية. واعتبر الدستور الإثيوبي الفيدرالية الإثنية وسيلةً للقضاء على أسباب الحرب الأهلية، وتمكين الأقليات المضطهدة داخل المجتمع الإثيوبي الكبير. وتتكون إثيوبيا الحالية من تسعة أقاليم هي: هرر، تيغراي، أمهرا، أروميا، شعوب جنوب إثيوبيا، العفر، الصومال الإثيوبي، بني شنقول جومز، غامبيلا، إضافةً إلى إقليم سيداما الجنوبي والذي أجرى استفتاءً ناجحاً للانفصال عن إقليم الجنوب في العام 2019.

وقد أقر الدستور الإثيوبي في العام 1995، الحكم البرلماني كنظام حاكم لدولة إثيوبيا الفيدرالية الديمقراطية، ويغلب تحليل شكل الدولة المعيار الإثني كسمة مميزة للتقسيم الإداري، خاصةً وأنه يظهر جلياً في خمسة أقاليم تتميز بأغلبيات إثنية مسيطرة هي: الأمهرا و تيجراي و أوروميا والعفر والإقليم الصومالي، بينما لا يبدو معيار الإثنية واضحاً في الأقاليم الجنوبية التي توحدت إدارياً في دستور العام 1995 تحت اسم ولاية "أمم وقوميات وشعوب جنوبي إثيوبيا" حيث تتشكل من 45 جماعةً إثنية مختلفة.

يروج آبي أحمد وحكومته إلى أن نظام الفيدرالية الإثنية هو ما يقف عائقاً أمام تنمية إثيوبيا، بل قد يفككها إلى دويلات صغيرة مستقلة استناداً إلى المادة 39 من الدستور الإثيوبي، والتي تعطي الحق للشعوب والقوميات الإثيوبية في تقرير مصيرها.

في الشهرين الأخيرين من العام 2020، دخلت أديس أبابا في عدد من المواجهات المسلحة مع أقاليم تيغراي وأوروميا وبني شنقول - جوموز، إضافةً إلى الاشتباكات العنيفة بين إقليمي العفر والصوماليين، وداخل إقليم الجماعات الجنوبية. 

واستطاعت جبهة تحرير تيغراي وضع نظام لتوزيع المقاعد في المجلس التشريعي الانتقالي يمكّنها من السيطرة على أكبر عدد من المقاعد والحلفاء، فاختصت نفسها والجبهة الثورية بـ 32 مقعداً من إجمالي 87 مقعداً، وجبهة الأورومو 12 مقعداً، ووزعت المقاعد المتبقية بين مقعد أو اثنين لكل جماعة إثنية، ووزعت على حلفائها 23 مقعداً لتحوز أغلبيةً كاسحة مكنتها من السيطرة على مقاليد الأمور في الدولة منذ تسعينيات القرن الماضي وحتى العام 2018. بينما تتكون السلطة التشريعية من مجلسين: مجلس النواب والذي يتكون من ممثلي الأقاليم، ووفقاً للنظام الانتخابي يبلغ عدد أعضائه 547 عضواً منهم 20 عضواً يمثلون الأقليات، ويتم انتخاب أعضائه كل خمس سنوات، وتسيطر عليه قوميتي الأورومو والأمهرا بنسبة 59.4 في المئة من إجمالي المقاعد، بينما تيغراي تستحوذ على نسبة 6.84 في المئة من إجمالي المقاعد، ما يبدو مقلقاً لها إذا ما حدثت تحالفات مضادة، أو إذا تم حل تحالف الجبهة الثورية وهو ما شرع آبي أحمد في استبداله عقب صعوده إلى الحكم بـ"حزب الازدهار". أما المجلس الثاني فهو المجلس الفيدرالي ويتكون من ممثلي الأمم والقوميات المنتخبين من المجالس الإقليمية، حيث يخصص مقعد لكل مليون فرد من الأمم أو القوميات. وعلى ذلك فإن المجلسين التشريعيين يوزعان التمثيل بداخلهما على أساس حجم السكان المنتمي إلى كل إثنية، ما يعكس سيطرة الإثنيات الكبرى على مقاليد السلطة التشريعية أيضاً.

الانتخابات الأخيرة وبداية صراع جديد

في حزيران/ يونيو 2021، ووسط أجواء مشحونة ومنددة، أجريت الانتخابات التشريعية الإثيوبية وأسفرت عن استحواذ "حزب الازدهار" الحاكم على نحو 410 مقاعد من أصل 435، ما يعني صعود آبي أحمد إلى فترة ثانية بحلول تشرين الأول/ أكتوبر المقبل، بعد انتهاء الجولة الثانية من الانتخابات في أقاليم الصومال الإثيوبي وأوروميا و تيغراي. وحتى إذا ما خسر الحزب جميع أصوات تلك الأقاليم في دوائرها الـ111، فلن يلتفت إلى تلك الأصوات بعد أن نال أغلبيةً ساحقة تمكنه من تشكيل الحكومة الجديدة.

وفي حين أن هناك صراعاً على السلطة داخل إثيوبيا بين جبهتين، إحداهما قديمةٌ، وتتمثل في الجبهة الثورية الحاكمة منذ تسعينيات القرن الماضي، والتي كانت تيغراي تسيطر عليها وتحكم بنظام فيدرالي يمنح كل إقليم حكومةً منفصلة وحكماً ذاتياً، وربما حق تقرير المصير والانفصال عن الدولة حسب ما جاء بالدستور الإثيوبي، وبين الجبهة الجديدة التي يتزعمها آبي أحمد ووسيلته حزب الازدهار والذي تشكل في تشرين الثاني/ نوفمبر من العام 2019، وهو تحالفٌ جديد يضم 3 أحزاب من الجبهة الحاكمة سابقًا (حزب الأورومو الديمقراطي، وحزب أمهرة الديمقراطي، والحركة الديمقراطية لشعوب جنوب إثيوبيا) إلى جانب بعض التحالفات من أقاليم عفار والصومال الإثيوبي وغامبيلا وبني شنقول جوموز وهرر (رفضت جبهة تحرير شعب تيغراي الانضمام إليه واعتبرته انقلاباً دستورياً)، ويتطلع إلى تحويل إثيوبيا من دولة ذات حكم فيدرالي إلى دولة موحدة ذات حكومة مركزية.

ويروج آبي أحمد وحكومته إلى أن نظام الفيدرالية الإثنية هو ما يقف عائقاً أمام تنمية إثيوبيا، بل قد يفككها إلى دويلات صغيرة مستقلة استناداً إلى المادة 39 من الدستور الإثيوبي، والتي تعطي الحق للشعوب والقوميات الإثيوبية في تقرير مصيرها. وقد حظي آبي أحمد تأييد قومية أمهرا (الحكام السابقون للإمبراطورية الحبشية)، بينما أكبر معارضيه قوميتا الأورومو والتيغراي اللتان تمثلان تقريباً نصف سكان إثيوبيا، إلى جانب قوميات أخرى ترى أن المضي في نظام مركزي للحكم ما هو إلا عودة إلى الماضي حين سيطرت الأمهرا على مقاليد البلاد، ونّحَت كل القوميات الأخرى تماماً.

ووضعت الباحثة داليا سعد الدين 3 سيناريوهات محتملة في ظل الأزمة الدائرة. جاء السيناريو الأول مرجحاً لقدرة آبي أحمد في فرض سياساته الجديدة، وتحويل إثيوبيا إلى نظام الحكم المركزي، وإلغاء حكومات الأقاليم وفقاً لتعديلات دستورية كبيرة ربما تصل إلى إلغاء الدستور ذاته وفرض دستور جديد، وبالتالي التوسع في السلطات الممنوحة لرئيس الوزراء وبداية حكم الفرد. أما السيناريو الثاني فهو استمرار الحرب الأهلية، واشتعال الصراع العرقي، وتوسعه بين آبي أحمد وحليفته أمهرا من ناحية، وبين القوميات الأخرى من ناحية، فالغالبية من الشعب الإثيوبي ترى أن الأمهرا تنصّب نفسها وصيةً على إثيوبيا كوريثة عرش الإمبراطورية الحبشية السالفة.

 وترى الباحثة أنه وفقاً لهذا السيناريو، فإن آبي أحمد لن ينجح في فرض سياسته المركزية الجديدة، وتظل الفيدرالية قائمةً، خاصةً مع الانتصارات المتتالية لقوات تيغراي على أرض الواقع. أما السيناريو الثالث، وهو الأكثر قتامةً، فيركن إلى إمكانية تفكك الدولة الإثيوبية، استنادًا إلى المادة 39 من الدستور المحدّدة لحق تقرير المصير، وفي هذه الحال ستكون هناك ضغوطٌ إقليمية ودولية كبيرة على أديس أبابا للتفاوض وإنهاء حالة الحرب، منعاً لإشعال حرب كاملة في دول القرن الأفريقي، وحفاظاً على وحدة إثيوبيا والاستثمارات فيها.

احتمالات الحرب الأهلية والأطراف الفاعلة

في الشهرين الأخيرين من العام 2020، دخلت أديس أبابا في عدد من المواجهات المسلحة مع أقاليم تيغراي وأوروميا وبني شنقول - جوموز، إضافةً إلى الاشتباكات العنيفة بين إقليمي العفر والصوماليين، وداخل إقليم الجماعات الجنوبية. وعلى الرغم من أن مجيء آبي أحمد إلى السلطة تمّ بدعم كامل من قوميته الأورومو، وفقاً لتحركات احتجاجية واسعة قادها السياسي جوهر محمد، إلا أنه وفور صعوده إلى السلطة تخلى عنهم، وظهرت اختلافات عديدة أدت إلى حملات واسعة ضدهم، وقتل واعتقال بعض الرموز مثل جوهر محمد نفسه.

تحالف أحمد مع الأمهرا لم يلقَ قبولاً عند أغلبية الأورومو. لكن في الوقت ذاته، يحوز رئيس الوزراء على ثقة وتأييد قادة حزب أورومو الديموقراطي، وهو أحد الأركان الأساسية في تحالف حزب الازدهار، الحاكم الجديد، ما أدى لاندلاع اشتباكات عنيفة، وانقسامات داخل الإقليم في نهاية العام 2020، قابلتها أديس أبابا بمزيد من العنف وقتل مئات المعارضين.

أما في بني شنقول جومز، وهو الإقليم الأكثر شهرةً نتيجة استمرار إنشاءات سد النهضة على أرضه (إقليم سوداني في الأساس، منح لإثيوبيا عقب اتفاقيات العام 1902 مع سلطات الاستعمار)، فإن معارضةً قوية تتصاعد ضد أديس أبابا، على الرغم من تمثيل الجبهة الديمقراطية لوحدة شعب بني شنقول- جومز في الحزب الحاكم. ومنذ مطلع العام 2020 تكونت جبهة تحرير بني شنقول المعارضة لآبي أحمد بالاتفاق مع عناصر من جبهة تحرير الأورومو، لتنفيذ عمليات عنف ضد مسؤولي الإقليم المتعاونين مع أديس أبابا، وضد الأمهرا المنتشرين داخل الإقليم أيضاً. رضخت أديس أبابا وأحالت عدداً من المسؤولين للمساءلة، إلا أنه مع استمرار العنف ضد الأمهرا، شنت القوات الإثيوبية حملةً عسكرية ضد المحتجين من الإقليم في كانون الأول/ ديسمبر 2020، أسفرت عن مقتل المئات. ولا تزال العمليات قائمةً، خاصة بعد تقدم قوات تيغراي وإعلانها محاولة السيطرة على الإقليم وسد النهضة.

لا تخلو قومية أمهرا، والتي تتميز بالانتشار في كافة أنحاء إثيوبيا جغرافياً، من المعارضة لآبي أحمد أيضاً، رغم كونها أكثر القوميات معاضدةً له، فهو يمنحها الكثير من الميزات مثل: تولي حقائب وزارية ومسؤوليات كبيرة داخل مقاطع الدولة، لكن أديس أبابا تخشى من ميليشيات أمهرا في منطقة الفشقة في شرق السودان، والتي يستوطنها آلاف المزارعين من الأمهرا منذ عقود، وربما تؤجج تلك الميليشيات في يوم ما صراعاً جديداً في تلك المقاطعة ما يفتح باباً للحرب مع السودان. كما أن أبي أحمد يخشى مطالباتهم بإعادة ترسيم الحدود مع إقليم تيغراي في المناطق المتنازع عليها بينهما، ما سيفتح النزاعات الحدودية في كافة أنحاء إثيوبيا.

عادت الجبهة الوطنية لتحرير أوغادين (الإقليم الصومالي) للعمل بعد صعود آبي أحمد إلى الحكم، مع توجه نسبة كبيرة من سكان الإقليم المؤيدين لخيار الانفصال عن إثيوبيا كخطوة أولى قد تسبق إعادة توحيد "الصومال الكبير". ورغم إعلان هذه الجبهة خيار التفاوض حتى الآن للاستقلال وتقرير المصير، إلا أنها لا تستبعد العمل المسلح إذا ما تعنتت أديس أبابا... بينما تطالب أقلية العفر والتي تتنازع مع أوغادين على مناطق حدودية، بالاستقلال التام عن إثيوبيا، وهي المطالبات التي تتجدد بشكل مستمر وتحدث قلقلةً سياسية، خاصةً وأن هذه القومية مقسمةٌ بين إثيوبيا وجيبوتي وإريتريا، وتطمح لتأسيس دولة عفرية على ساحل البحر الأحمر. وفي حال استقلال عفر إثيوبيا، ستنشأ حروبٌ داخلية في كلتا الدولتين المجاورتين، مما يسبب مشكلات سياسية وأهلية إضافية في منطقة القرن الأفريقي.

في بني شنقول جومز، وهو الإقليم الأكثر شهرةً نتيجة استمرار إنشاءات سد النهضة على أرضه (إقليم سوداني في الأساس، مُنح لإثيوبيا عقب اتفاقيات العام 1902 مع سلطات الاستعمار)، فإن معارضةً قوية تتصاعد ضد أديس أبابا، على الرغم من تمثيل الجبهة الديمقراطية لوحدة شعب بني شنقول - جومز في الحزب الحاكم.

لا تخلو قومية أمهرا، المنتشرة في كافة أنحاء إثيوبيا، من المعارضة لآبي أحمد، مع أنها أكثر القوميات معاضدةً له، فهو يمنحها الكثير من الميزات. لكن أديس أبابا تخشى ميليشيات أمهرا في منطقة الفشقة في شرق السودان، والتي يستوطنها آلاف المزارعين منذ عقود، فقد تؤجج صراعاً جديداً في تلك المقاطعة، ما يفتح باباً للحرب مع السودان.

وتطالب القوميات الجنوبية أيضاً بالانفصال وتكوين أقاليم خاصة بقومياتها، خاصةً وأن هناك أكثر من 45 قوميةً مختلفة يتجمعون في إقليم جنوبي واحد.

وتعد مسألة تيغراي الأكثر اشتعالاً مع الحكومة الاتحادية في أديس أبابا، نظراً لقوة الإقليم وقوة جيشه التي صعب على الجيش الاتحادي مواجهته منفرداً. وعقب تولي آبي أحمد الحكم جاءت سياساته تجاه تيغراي متشددةً، ما خلق عداءً متصلاً بين الجانبين، فأقال كافة الوزراء منهم من الحكومة والعديد من قادة الجيش الاتحادي ومسؤولين في شركات ومناطق صناعية وتجارية كبيرة. وفي تشرين الثاني/ نوفمبر 2020، شنت قوات التيغراي هجوماً للسيطرة على مقر القيادة الشمالية للجيش الإثيوبي المتواجد في عاصمة إقليمهم، "ميكيلي"، لكنه قوبل بهجوم من قوات الجيش الإثيوبي وبعض الأقاليم مثل أمهرا، وتمكنت أديس أبابا من استعادة مقر القيادة للجيش، وأعلنت حل حكومة الإقليم. واستمرت العمليات العسكرية بين الجانبين إلى أن سيطرت قوات تيغراي على الإقليم ثانيةً، وبدأت في شن هجوم خارجه حتى إنها ألحقت هزيمةً مذلة بالجيش الإثيوبي.

التداعيات على منطقة القرن الأفريقي

تؤثر الحرب الدائرة فيما بين الأقاليم الإثيوبية ومع حكومة أديس أبابا على الدول المحيطة بإثيوبيا. فالبلاد البالغ عدد سكانها 110 مليون نسمة، تتاخم حدودها 6 دول، منها من سيتأثر بشكل خاص، كالسودان، التي اندفع إليها مئات الآلاف من اللاجئين عقب اشتعال الحرب، وهي المنهكة اقتصادياً من الأساس، فضلاً عن التوتر الذي يظهر بشكل دوري بين ميليشيات سودانية وأخرى أمهرية في شرق السودان. وجاء موضوع سد النهضة ليزيد من حدة التوتر بين أديس أبابا والخرطوم، حتى إن هناك مخاوفٌ لدى حكومة أبي أحمد من اتفاق بين القاهرة والخرطوم لاستغلال الانقسام والحرب الداخلية.

تطالب أقلية العفر التي تتنازع مع أوغادين على مناطق حدودية، بالاستقلال التام عن إثيوبيا، وتحدث قلقلةً سياسية، خاصةً وأن هذه القومية مقسمةٌ بين إثيوبيا وجيبوتي وإريتريا، وتطمح لتأسيس دولة عفرية على ساحل البحر الأحمر. وفي حال استقلال عفر إثيوبيا، ستنشأ حروبٌ داخلية في كلتا الدولتين المجاورتين، مما يسبب مشكلات سياسية وأهلية إضافية في منطقة القرن الأفريقي.

وبالنسبة لدولة جيبوتي، وهي الميناء الذي تمر منه 90 في المئة من تجارة إثيوبيا عبر البحر، فإن هناك قلقاً متزايداً لديها بعد إبرام آبي أحمد اتفاقية للسلام مع إريتريا، خاصةً وأن بين جيبوتي وإريتريا نزاعاً على بعض المناطق الحدودية. ولا يختلف الوضع في الصومال عن الوضع الإثيوبي كثيراً، فالأقاليم متنازعةٌ وتنتشر فيها قوات حفظ السلام الدولية، درءاً للخطر، وتعتمد على حضور إثيوبي كبير لحفظ السلام من أجل المساعدة في تقليص إراقة الدماء الطائفية. لكن الجيش الإثيوبي أعلن عقب تصاعد حربه مع تيغراي سحب أغلب قواته، ما يترك الصومال دون مساندة وسط تكهنات بأن المنطقة ستكون أكثر عرضةً لتوغلات محتملة من "حركة الشباب" التي تمثل التمرد المرتبط بتنظيم "القاعدة" والتي تحاول الإطاحة بالحكومة في الصومال.

أما إريتريا التي وقعت معاهدة سلام مع آبي أحمد، فيبدو أن تأجج الصراع يأتي لصالحها، حيث تتنازع مع إقليم تيغراي على مناطق حدودية ترغب أسمرة في ضمها، ومن الممكن أن تنجح في حال هزيمة التيغراي هزيمة ساحقة.

.. وعلى الرغم من التكهن بسيناريوهات متعددة للمستقبل الإثيوبي، لكن أحداً لا يمكنه التوقع عن أيها سوف تغلب، في ظل وضع متأزم ويتصاعد بشكل يومي، وخاصةً مع تقدم قوات التيغراي في مناطق مختلفة، واشتداد الاشتباكات بينها وبين قوات أمهرا والتي تدعم آبي أحمد بشدة.  

______________

[1] للاطلاع على مزيد من التفاصيل: "التاريخ السياسي لمياه نهر النيل"، رباب عزام، السفير العربي .
[2] يتكون نهر النيل من النهرين الأزرق والأبيض. ينبع الأول من بحيرة تانا في الهضبة الإثيوبية ويمثّل مصدر معظم المياه الوافدة إلى مصر والسودان، أما الثاني فيبدأ من بحيرة فيكتوريا بين كينيا وأوغندا، وتصب فيه بعض الأنهار المجاورة في رواندا وبوروندي، ويتلقي النهران في الخرطوم بالسودان ومنهما يتكون نهر النيل في مصر
[3] قامت مملكة بونت في الصومال وامتد نفوذها حتى شواطئ جنوب اليمن، وشمالاً إلى إريتريا وحتى الهضبة الإثيوبية
[4] مؤرخ وجغرافي إغريقي، ولد وعاش في آسيا الوسطى، أو تركيا الحالية، في مطلع الالفية الأولى.
[5] إثيوبيا الحالية في منطقة القرن الأفريقي وتتشارك حدودها الشمالية مع إريتريا والتي استقلت عنها في العام 1993، وجيبوتي من الشمال الشرقي، والصومال من الشرق، والسودان وجنوب السودان من الغرب، وكينيا من الجنوب. وتعتبر دولة حبيسة. 

مقالات من أثيوبيا

ما الذي يجري في إثيوبيا القريبة؟

محمود عبدي 2016-08-30

في 3 تشرين أول/أكتوبر، قتل في التدافع  100 شخص خلال فض السلطات الأثيوبية لاحتفال تقليدي بنهاية موسم الأمطار عند أثنية الأورومو، مستخدمة الغاز المسيل للدموع. وقد عادت الاحتجاجات الى الاشتعال...

للكاتب نفسه

العاصمة المصرية في مفترق طرق..

رباب عزام 2024-11-21

على الرغم من الأهمية الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، بالنسبة إلى المواطنين، للمنشآت والمباني المقامة حالياً على أراضي "طرح النهر"، خاصة في العاصمة القاهرة، إذ يشمل أغلبها كثيراً من الأندية الاجتماعية التابعة...