يتوالى انكشاف بعض فضائح الفساد في لبنان. ذاك النوع من الفساد المرتبط بمعيشة الناس المباشرة وأساسياتها، كإخفاء الدواء والمحروقات والطحين.. وأما الفساد البنيوي المعقّد، فيبقى محجوباً وعلمه عند الله، بينما هو بالطبع الأساس في هذه الحالة التي يعيشها الناس هنا.
بدايةً، إخفاء المازوت والبنزين من قبل أمراء حرب صغار، يطمحون لأن يصبحوا كباراً (ويلوذون بانتظار ذلك بحيتان أكبر منهم) ويطمحون لتكوين ثروات بجني أرباح هائلة من فارق السعر، ومن احتكار المواد الحيوية.. هي جريمةٌ تستحق العقاب الشديد.
لبنان يبتدع أصولاً دستورية وسياسية جديدة
18-03-2021
لبنان: فصل جديد من رواية انحطاط المافيا
04-06-2021
ولكن يا رباه، لماذا يبدو الكشف عن ذلك بين الحين والآخر – مخبأ هنا ومستودع هناك – حرتقات بين اللصوص ورعاتهم السياسيين، فتتحول أفعالاً استعراضية غير مقنعة للناس الملتاعين، قد تكون تنفيساً لاحتقان نفوسهم، أو ملهاةً لثرثراتهم، أو تلميعاً أمامهم لصورة مؤسسات ومسؤولين يتصدون للمهمة؟ لعل السبب أن مستودعات الدواء الكبرى، ومخابئ المحروقات المهولة ما زالت في مأمن، هي وأصحابها ومن يقف وراءها. الكشف الحالي جزءٌ من رواية أو "ستوري تيللينغ"، وهي تحجب الآليات الفعلية للنهب الذي جرى وما زال جارياً. ولكي يحدث تقدم فعلي ومقنع، ولكي تخرج المسألة من حيز "القصة" الأشبه بقصص "علي بابا"، فلتصدر إذاً قوانين – ولو تخص الحالة الاستثنائية التي نعيش في ظلها - تعلن إجراءات عقابية صارمة، بعد إعطاء مهلة قصيرة للمذنبين ليسلموا كل ما بحوزتهم مقابل العفو مثلاً. ولكن من يقرر؟ ومن ينفذ؟ بينما بلد يُظهر فحسب مقدار تفكك مؤسساته كلها، وتسيبها، وغياب مسؤوليه عن الوعي، وانشغالهم بما لا يهم سواهم.. ولتوضع آليات لتوزيع ما يُسلّم أو يصادر، تكون مفهومةً وعلنية وتفيد الناس.
وهناك ما هو غريب حقاً في هذا الموضوع. فقد بدأت تدرج موضة القول إننا "كلنا فاسدون"، بل وإن الناس أفسد من الحكام والمتنفذين! فالكل شريك في ممارسة الفساد، بدءاً من المواطن "المعتّر" الذي يدفع رشوةً لشراء غالون بنزين، وليس انتهاءً بذاك الذي قد يرضى بالاشتراك في تهريب ما مقابل استفادة ما. وبدأ يقال إن لا أحدَ يتعفف، أو يمتنع، لو طال فرصةً للكسب من أي شيء، وأن كثيرين مستعدون حتى لارتكاب جرائم قتل ونهب ونصب وترويع بلا وازع. وهذا على ما فيه من أمثلة صحيحة، إنما يعكس من جهة مفاهيمَ وقيماً أخلاقية قائمة، بل سائدة بقوة منذ زمن في البلد الحضاري الجميل، تجعل من سماسرة السلاح والمخدرات والدعارة والرشاوى (وهم يؤدون دور وسطاء في هذه الميادين في كل العالم، وبالأخص خلال عصر ذهبي مع دول الخليج)، "شخصياتٌ" تتقدم للمناصب الوزارية والنيابية، وتحظى بتسامح اجتماعي عام حيالها، باعتبارها ثريةً بشكل فاحش أولاً، ويمكنها شراء الولاءات والمجاملات، وباعتبار "لا مانع" حيالها ولا موقف من أصحابها. فهي تجسد "الشطارة" اللبنانية. والفارق بين هذه الحالة، وما يجري في بلدان أخرى من المنطقة (أو كلها ربما)، هي المباهاة و"الشرعية".
متنفذو العراق بعد 2003 مثلاً، الذين عملوا مع الأمريكان والذين يعملون مع إيران، أشد فعاليةً في الفساد من أقرانهم اللبنانيين، يشترون مناصبهم بملايين الدولارات وأسعارها "معلنة"، ويكدسون ثروات بمليارات الدولارات جراء نهب البلد المنكوب، ويمارسون حياةً من البذخ.. والمكان بالغ الثراء، بينما يتضور أهله من العوز لكل شيء.
العراق 2021: العيب
06-05-2021
لكن هؤلاء ما زالوا لليوم مدانين بنظر المجتمع، ولم تُبيّضهم أموالهم. لا يأبهون؟ ربما! ولكن هذا ما يحمل عشرات ألوف الشباب العراقيين على التصدي لهم على مدى أشهر طوال حتى من قبل 2019، ويفسر وقوع أكثر من 700 ضحية من بينهم فقدوا حياتهم في تلك المواجهات، و24 ألف جريح وعشرات المغتالين غدراً، وغيرهم من المغيبين.
وهذا مثال من بين سواه، ويمكن الكلام في هذا الصدد عن "سواه"* ذاك، سواء أكان في سوريا المنكوبة هي الأخرى، أو في الجزائر البعيدة، والتي تَبين بالمناسبة أن لشبكاتها المافياوية علاقات وطيدة مع الشبكات اللبنانية، كما للشبكات السورية والعراقية مثل تلك العلاقات!
القيم، والقناعات هي أحدى مستويات المشكلة، وإنكار أهميتها يترك الباب مشرعاً لتبرير الممارسة الفاسدة على كل المستويات. ولكنها ليست كل شيء كما قد توحي بعض ردود الأفعال في مهرجان التعاطي مع الفساد هذا، الذي يساوي بين الكل، ويصل في انحرافه إلى اعتبار من يكشفون الفساد، أو من يطالبون بمنظومة أخرى لإدارة البلاد "مشبوهين" و"أمريكان"، والنكتة الجديدة أن مصيرهم يشبه مصير أقرانهم من أبناء "المجتمع المدني" في أفغانستان بعد انسحاب واشنطن منها.. فهل هم يهددون الجمعيات اللبنانية بطالبان مثلاً، أو بما يشبهها؟؟ ولو كان قسم من هؤلاء فاسداً أو عميلاً – وهو وارد وممكن بالتأكيد - فهل يبرر ذلك اعتبارهم أصل البلاء، كما قيل عنهم بكثافة هذا الأسبوع من قبل أركان السلطة باختلاف اتجاهاتها، ومعهم أدواتهم الإعلامية، بغاية التشويش على المشهد وتضييع المسؤوليات؟
وبعد ذلك، فالمسألة الأساسية تبقى أن الفساد هنا منظّمٌ بشكل "دستوري" لو جاز القول. أساسه النظام السياسي القائم على المحاصصة في الثروة والسلطة، أي على توزيع لها تنفيذُهُ مستعصٍ، وهو بكل الأحوال غير مرضٍ لأي طرف، ويدفع كل طرف إلى اختراقه بكل الوسائل، الشرعية وغير الشرعية، باعتبار تطبيق ما يراه إحقاقاً للحق وتعديلاً للظلم "بيديه". وهكذا نمر من أزمة إلى أخرى، بينما أوقات الهدوء هي الاستثناء.
لبنان: ريع من نوع خاص
12-11-2020
ويحدث أن تعجز السلطة عن "الضبط وعن إدارة الحشود"، لأنها انكشفت تماماً، حيث لا تعود الاستقطابات الطائفية مثلاً - والتي جرت رعايتها وتنميتها طويلاً - سوى غرائز وليس قنوات للنفوذ، ولا يبقى للزعماء أي احترام أو مصداقية، ولا يُهدئ من روع الناس أملهم ببعض الخدمات أو بالعيش بستر، ويصبح الفساد سرقةً مباشرة ومكشوفة، وليس توزيعاً وإن غير عادل للفتات... فتفلت الأمور في كل اتجاه وعلى كل المستويات.. كما هو الحال اليوم.
*منذ بضعة اشهر، أصدر "السفير العربي" كتاباً بالعربية والإنجليزية والفرنسية، وضعنا له عنوان "الفساد والنهب في ممارسة السلطة"، وقدّمنا فيه حالتي الجزائر والعراق، البلدين الغنيين ليس فحسب بالنفط، بل بموارد شتى، والشاسعين، بمقابل عدد سكان متوسط ومناسب، وما يُفترض أنه امتلاكهما لتجربة سياسية واجتماعية ثرية، ومستويات من التعليم مرتفعة، وتقاليد ثقافية مبهرة، وعلى ذلك يعاني مجتمعاهما من بؤس مكين، ومن انهيار الخدمات العامة، وتعاني "الدولة" من ابتذال السلطة القائمة. قلنا في واحدة من الاستنتاجات: "لكي نفهم نظام الفساد بأكمله، فلا بد من أن ننطلق من فرضية أن هناك نوعاً من التماثل بين الاضطرار الذي يُرْغِم البعض على اللجوء إلى الفساد لأنهم "خارج" الشبكات، والوفرة المفرطة في الحصول على الثروات بالنسبة للآخرين. والفساد هو، بالتالي، وفي الوقت نفسه، جزءٌ لا يتجزأ من نظام الزبائنية وأداةٌ لإدارة الحشود وضبطها".