ترفض العبودية إلا أن تظل أهم القضايا الحاضرة في المشهد الموريتاني، واَخر مظاهر ذلك، قيام رابطة العلماء الموريتانيين، وهي هيئة غير رسمية، بإصدار فتوى حول "عدم شرعية العبودية"، استناداً إلى فتوى سابقة، صدرت سنة 1981، التي ترتب عليها إلغاءٌ قانوني للرق في موريتانيا، لكن مع السماح للملَّاك بأخذ التعويض من "عبيدهم" المحررين. اعتبرت الرابطة أنه لم يعد هناك عبودية شرعية، ورافقت الفتوى خطوة قانونية، إذ أصدر مجلس الوزراء مشروع قانون يلغي القانون المجرِّم للعبودية والمعاقب للممارسات الاستعبادية الصادر في ايلول / سبتمبر 2007، ويحل محله. القانون الجديد شدد من العقوبات المتعلقة بالعبودية، وكذلك أسس محاكم في عموم البلاد متخصصة في المحاكمات المتعلقة بجريمة الرق، وسيعرض القانون في وقت لاحق على البرلمان من أجل المصادقة عليه.
المطلوب التجريم
خطوة رابطة العلماء لم تقابَل بالتبجيل من طرف الجسم الحقوقي الموريتاني، وخاصة المنظمات والشخصيات المهتمة بقضية العبودية، بل اعتبرها البعض عودة للوراء. فقد صدر بيان من حزب التحالف الشعبي الذي يقوده مسعود ولد بلخير الزعيم المنحدر من شريحة "الحراطين" (العبيد السابقين)، جاء فيه أن أي محاولة لاعتماد فتوى 1981 الخاصة بالاسترقاق في موريتانيا من شأنه أن يعيد البلد إلى المربع الأول ويفتح الباب على جميع المخاطر، حيث قال: "أكدت رابطة علماء موريتانيا في بيانها الصادر بتاريخ 31 /03/ 2015 أنه لم يعد هناك رق شرعي في البلد بناء على تشخيص وتحليل قام به مكتبها التنفيذي تطبيقاً للفتوى الصادرة عام 1981". بدورها عبرت حركة "إيرا" عن امتعاضها من الفتوى، وقالت إنها في مضمونها ترجِّح الكفة لمصلحة الأسياد بدلا من أن تنصف الضحايا الذين تعرضوا لظلم تاريخي بشع لا تزال تلاحقهم أضراره المادية والمعنوية وحتى النفسية. فالمطلوب هو فتوى تجرِّم وتدين العبودية التاريخية في موريتانيا. في الأثناء أفتى العالم الموريتاني الشهير محمد الحسن ولد الددو بعدم شرعية العبودية في موريتانيا، وقال إن الرق الذي كان موجوداً في موريتانيا "ليس الرق الذي شرَّعه الإسلام"، وأكد على أنه لم يعد مقبولاً شرعاً، وهو ما قوبل بالترحيب من طرف المنظمات الحقوقية. وهناك مطالبة بأن يقوم "مجلس الفتوى والمظالم"، وهو هيئة رسمية، باتخاذ خطوة في هذا الاتجاه وإصدار فتوى على ذلك النحو حتى يقطع الشك باليقين، وينسجم الطرح الفقهي مع الحقوقي ومع القوانين المتعلقة بالرق.
الأزمة أعمق
وعلى الرغم من أن القانون الموريتاني يجرِّم العبودية، وأن النصوص القانونية المتعلقة بالعبودية مرضية للنشطاء الحقوقيين، إلا أن ذلك لم يقضِ على الظاهرة. ومن أسباب ذلك عدم تطبيق القانون وبقاؤه حبراً على ورق. فالقضاء الموريتاني يعاني من عدم الاستقلالية ويناصر الأقوياء، وهذه القوانين لا تعدو كونها محاولة لتجميل صورة النظام أمام المجتمع الدولي وجلب التمويلات الأجنبية، لكنها تبقى ميتة. والمطلوب تطبيق القانون لأن ذلك سيساهم في ردع من تسوِّل له نفسه الاستمرار في استرقاق البشر. هناك معضلة أخرى هي الإشكالية الاقتصادية والفقر والفاقة التي يعيش فيها الانسان الموريتاني. والعبيد السابقون هم أكثر من يعاني وهي السبب الرئيس في الإبقاء الفعلي على العبودية، لكون الكثيرين من المواطنين الموريتانيين يرضخون ويسكتون بسبب "حاجتهم" لأسيادهم وعدم قدرتهم على تحقيق الاستقلال المادي. وحتى من يتحرر ويترك أسياده يعاني الأمرَّين ويظل مهمشًا ولا يجد من يهتم بأمره.
ولا فائدة إذاً من دون تحسين أوضاع هذه الشريحة من المواطنين، ووضع خطط لانتشال العبيد والعبيد السابقين من واقعهم المزري ودعمهم حتى يندمجون في الحياة الاقتصادية، وكذلك وضع خطط لدمج أبناء هذه الطبقات في التعليم بل الانتقال إلى سياسة التمييز الإيجابي لمصلحة هذه الشريحة.
العدالة في الأراضي
التوزيع العادل للأرض الزراعية حلٌ آخر من بين الحلول التي تُطرح للقضاء على العبودية ومخلفاتها. ويذكر أنه بدأت قبل فترة منظمات حقوقية تنادي بضرورة إعادة النظر في ملكية الأراضي الزراعية في موريتانيا، وطالبت بوضع حد لما وُصف بالعبودية العقارية، حيث اعتبرت أن تلك الخطوة هي الأهم في مشوار تحرير العبيد، لما تتيحه من استقلال اقتصادي. وحسب المنظمات فإن الأرض الزراعية لا توزع بشكل عادل، فالإقطاع ما زال مستمراً، والقبائل هي التي تملك الأرض، ويُحرم منها الفلاحون من شريحة العبيد والعبيد السابقين، برغم أنهم من يزرعها. وتطالب الجمعيات بالرجوع إلى الإصلاحات التي حدثت في الثمانينيات حين صدرت قوانين منصفه لشريحة العبيد والعبيد السابقين، مثل قانون الإصلاح الزراعي الصادر سنة 1983 الذي ألغى ملكية القبائل للأراضي ووزعها على المواطنين من دون تمييز، وجعل السلطة الإدارية صاحبة الاختصاص في الفصل في الخلافات العقارية الجماعية. لكن ذلك الأمر انتهى سنة 1986، حين صدر تعميم يفرض على ممثلي الإدارة المحلية العمل على تمكين كبار المالكين من الاستحواذ على مساحات تفوق تلك التي كان مسموحاً بتملّكها في القوانين السابقة. وفي سنة 2000 جاءت الضربة القاضية، حيث، صدر المرسوم رقم 2000 الذي نزع تسوية الخلافات الجماعية من يد السلطات الإدارية وأحالها على اللجان المحلية والجهوية المسيطَر عليها من طرف ممثلي الإقطاع التقليدي، فهي مكونة من وجهاء القبائل ومَن يدور في فلكهم.
ومن أشهر القضايا التي ظهرت مؤخراً، قضية إبراهيم ولد بلال الذي نُزعت منه الأرض الزراعية التي كان يعمل فيها، بحجة أنه عبدٌ وأن مال العبد لسيده، حيث يقول أحد أحفاده، وهو الشيخ ولد أعبو أن بداية الاستحواذ كانت سنة 2004، حيث قدم السيد إليه وطلب منه مغادرة الأرض مع كل أبنائه، وحين رفضوا الخروج أتاهم حاملاً سلاحاً ليتم لاحقاً صلح قبلي. لكنه عاد سنة 2008 وأخذهم إلى القضاء مصراً على أن الأرض له. ويضيف الشيخ: "لم نستسلم وحاولنا بكل الطرق القانونية وعبر المنظمات الحقوقية، لكن في 2014 صدر حكم بتوقيفنا عن زراعة الأرض". ويرى الشيخ أنه من غير المعقول أن يتم أخذ أبقارهم بحجة أن مال العبد لسيده، مثلما حدث في "شلخت التياب" حين قام "أسياد" أهل المتحدث بالاستحواذ على الأبقار المملوكة لأهله بحجة أنها لعبيدهم. واليوم يأتي دور الأرض. ويأخذ الشيخ على القضاء والحكومة أنه يتم تجاهل شكاياتهم من السيد الذي يستحوذ على أرضهم بحجة أنها تركة له.
ومن المعلوم أن موريتانيا تحوي مساحات كبيرة من الاراضي الصالحة للزراعة، لكن الحيز المستخدم منها ضئيل جداً، إذ تقدر مساحة الأرض الصالحة للزراعة في موريتانيا بنصف مليون هكتار، منها 137 ألف هكتار على الضفة الموريتانية لنهر السنغال، والحيز المستغلّ من أراضي تلك الضفة لا يتجاوز العشرين ألف هكتار. وتستورد البلاد 70 في المئة من احتياجاتها الغذائية. وبالتالي فانتهاج سياسة زراعية تضع التوزيع العادل للأرض في أولوياتها يسهم في انتعاش الاقتصاد المحلي وحلّ مشكلة الأمن الغذائي.. ويساهم في حلّ فعليّ لمعضلة العبودية.