4 آب/ أغسطس يمكنه أن يتحول إلى "مناسبة"، يجري اليوم إحياؤها، في ذكراها الأولى، بحماس وحزن وغضب، ولكنها بالضرورة ستبهت وتصبح اعتياداً مضجراً ورتيباً. وهذا أفضل ما يمكن أن يحصل للمجرمين المتفلتين من المحاسبة، سواء عن مسؤوليتهم عن الإهمال المتمادي، أو عن مقاصدهم من وراء جلب تلك الأطنان من نيترات الأمونيوم وتخزينها والتصرف بها، لغايات ما زالت مجهولة.
المناسبات تُحيا كل عام. نفعل لنقول أننا لم ننسها، سواء كانت حزينة – وهي على الأغلب كذلك، هنا في هذه البقعة من العالم – أو كانت احتفالاً بإنجاز ما، ثورة، أو نصر الخ.. غالباً ما يصادره من يرون أنهم آباؤه الشرعيون... فيفقد أي معنًى حتى لو كان يمتلك هذا المعنى بداية. وبشكل ما، فالاحتفاءات من هذا القبيل فيها اجترار بليد لواقعة كبرى لم يتم التفوق عليها أو تجاوزها، بمعنى تحقيق إنجاز ما هو أعلى منها، أو هي تمسك بدلالات يُخشى أن تندثر وتفتقد.
كيف انفجر مرفأ بيروت؟.. نظرة عن قرب
19-11-2020
كارثة بيروت تتخطى الوصف
07-08-2020
هكذا جرى الاحتفال بالذكرى العاشرة لانتفاضات 2011، بينما كانت منطقتنا قد عاشت نكوصاً عنها أو مفاعيل ثورة مضادة عليها، بالغة القسوة، وعاشت في الوقت نفسه انتفاضات جديدة في 2019... هذا بينما لم يتقدم قيد شعرة الإدراكُ المطلوب لهذا الذي جرى في 2011، وكان مزلزلاً بكل المعايير، فلا وثّقنا، ولا حلّلنا، ولا نعرف اليوم أكثر عن نقاط قوة الانتفاضات وعن أعطابها، ولا خصوصاً عن نقاط قوة المتصدين لها وعن مخططاتهم، وكيف ينجحون؟ ولماذا؟..
وما الذي جرى في البلد الصغير، الجميل والمندثر؟ بدءاً من الإعلان "الرسمي" – بصمت تام وبلا كلام ولا شرح - عن انهيار منظومته الاقتصادية، قبل عام من انفجار مرفأ بيروت الذي هو أحد ركائزه الكبرى.
هل يمكن اعتبار ما جرى نوعاً من أنواع إلزام لبنان بالقبول بـ"عادية" وضعه؟ القول له إنه لا يمتلك – لم يعد يملك - مزايا أو صفات خاصة، ربما كانت تشكّله أو تحميه فيما مضى، وأنه يشبه سوريا مثلاً، جارتَه الكبرى، والعراق من ورائها، ولا مجال لتوهم سوى ذلك؟ هناك تسود قوًى مافياوية تتخذ من المذهب، أو من روابط أخرى، ذريعةً للسيطرة والنهب والاستباحة... وهي غير مكترثة بمصير البلاد نفسها، وليس فحسب بمصير أهلها والمجتمع القائم فيها، سواء هاجروا بكل السبل، أو ماتوا من العوز والبؤس والمرض، أو بالقصف والاغتيال والاعتقال.. غير مهم!
وأما أن الشريحة الحاكمة في لبنان – تلك التي في مناصب السلطة، وتلك التي تطمح إليها، ولا فارق بينهما، وتلك الثالثة التي تحتضن هؤلاء جميعاً بأشكال مختلفة – فاسدة حتى النخاع العظمي، وهي منتظمةٌ في شبكات مافياوية تجيد التفاهم فيما بينها، فهو مما صار من المسلّمات. ولم يعد هناك من يجادل فيه، أو يحاول استثناء أي فئة من هؤلاء منه. بل وفعلياً، فلم يعد هناك من ينتمي إلى هذا أو ذاك من الزعماء، أو يجد فيه أملاً ما. تقلصت العلاقة الزبائنية نفسها، وصارت فجةً ومكشوفة، يعبّر أطرافها عنها بشكل صريح. وبهذا المعنى فقد مات النظام السياسي في لبنان، ذاك الذي يُنظّم تقاسم السلطة والثروة، ويستنفر أجزاءَ من المجتمع لصالح الزعيم المدافع عن حصتها. ولكن الجثة ما زالت طافيةً، لم تدفن، وهي تتعفن، وتتفكك في الهواء.
لبنان ينتفض
20-11-2020
وأما المشكلة ففي غياب البدائل. تلك البدائل هي ما اندثر في لبنان، وقد حدث ذلك خلال مدًى طويل (وهو ما جرى أيضاً في سائر المنطقة). وهذا الاندثار هو بالتأكيد نتاج أسباب بعضها موضوعي، بل وعمومي، يتبع الـ"تراند" السائد في كل مكان، في منطقتنا كما في العالم، وبعضها الآخر نتاج معطيات خاصة بلبنان نفسه، كالقيم التي اعتبرت مميزات له، وخاصيات، وهي القائمة على الشطارة والدفاع عن الأساليب المافياوية نفسها أو قبولها، وكالسنوات الطويلة من الحضور السوري الاستباحي فيه بغطاء دولي، أو كالاختلال المريع في كل توازناته، وفي ما يمكن لمكوناته أن تنتجه أو تتوافق عليه، والذي تمثله ظاهرة حزب الله اليوم...
والمشكلة الأعظم هي أنه، على الرغم من بعض المواقف الجميلة أو البراقة، ومن بعض النوايا المتفرقة التي تخص مأساة لبنان - طالما أنه موضوعنا اليوم – فيصعب تخيّل تبلور إرادة دولية يمكنها إنقاذه، على الرغم من السهولة النسبية للمهمة، بالنظر إلى صغر حجمه، وإلى وجود تقاليد تذهب إلى هذا المنحى، وأسباب ودوافع قد تكون محركة له. ذلك أن العالم كله، بتكويناته وعلاقاته والقوانين التي تنظمه، هو في طور تغيّر كبير، يبدو حتى الآن أنه يجري نحو الأسوأ: مزيد من التحلل من مبادئ يفترض أنها نتاجٌ متتابع لعصر حديث ما، ومزيد من سيادة شريعة الغاب في السياسة والاقتصاد والبيئة وكل شيء... والله أعلم!