هم كثرٌ في منطقتنا، بطولها وعرضها. وهم - تبسيطاً للتعريف - الممسكون بالسلطة والنفوذ والمال. وبين هذه – ثلاثتها - وشائج قوية، حتى لتكاد تتطابق. وبين أصحابها أيضاً علاقات متينة، لا يفسدها التصارع على الحصص في أي مجال كان، بل ولا حتى الثارات الدموية التي يُفترض أنها تحركهم حيال وقائع حدثت، وطالت حياة أفرادٍ من عائلاتهم. وبهذا المعنى، فهم أسوأ من المافيات كما تُعرف، التي تحافظ على "مواثيق شرف" خاصة بها، وتتشدد في بعض الضوابط.
لبنان: ريع من نوع خاص
12-11-2020
ولبنان، لصغره ربما، ولوضوح بنيته، صالحٌ كمثال يمكن تعميمه. نَشر مؤخراً موقع "بي بي سي" عربي وثائقياً من إنتاجه عن ملف الكهرباء في لبنان. ما يبقى في الذاكرة ليس الغش المهول الذي يحيط بهذا الملف، ليس الكذب الصارخ الذي لا يتوانى عن ارتكابه المسئولون عنه، ولا حتى المبالغ الأسطورية التي تسربت من خزينة الدولة، وكانت سبباً أساسياً من أسباب الأزمة المالية القاتلة التي يعاني منها اللبنانيون اليوم، حيث صاروا عراةً حفاة، وبلا كهرباء! وصارت الخزينة فارغةً، والبلد عاجز عن سداد ديونه وقروضه (هذا لدى الأفراد يسمى "الإفلاس")، بينما توقفت المشافي عن العمل للنقص في كل شيء، وهاجر الأطباء والطاقم الصحي - وهم يمكنهم ذلك - وافتقدت الأدوية، وراح الناس على الإنترنت يتبادلون بعضها فيما بينهم على سبيل الإقراض، بينما يمضي غيرهم ساعات طوال في الانتظار أمام محطات الوقود. ويهدد ذلك الحياة في الصميم، وكل شيء، في مشهد "أبوكَليبتي" أسود.
المبالغ الخيالية التي دُفعت رسمياً للكهرباء المفقودة؟ مليار دولار سنة وراء أخرى ككلفة تشغيلية، ومليار دولار ثانٍ كثمن للمحروقات.
الشبكات المافياوية المعنية بهذا القطاع - وبسواه حتماً – تضم ممثلين عن كل القوى السياسية التي ما زالت مزدهرةً في لبنان. بلا استثناء! وزراء وقضاة وموظفين كبار ومستشارين ورجال أعمال.. يعملون يداً بيد. ويغطّون على "أسرارٍ" يعرفونها، بغض النظر عن الانتماءات السياسية والفكرية، أو المذهبية والمناطقية التي تسود "الفولكلور" اللبناني. هناك، بينهم، خارج المسرح العلني للحياة، كل شيء هادئ. وهم لديهم شركاؤهم العالميون والإقليميون. فلا يعود المرء يفهم هل سوناطراك الجزائرية مثلاً، وهي الشريك المعتمد في إيصال النفط إلى لبنان – وفي الجزائر فساد مرعب على أية حال - هي حقاً سوناطراك الرسمية التي غضبت من اتهامها بالغش في تكريره، وهددت برفع دعاوي تحكيم دولية على لبنان وبإلغاء العقود، أم هي شركة متفرعة، أو شركة ظل، واسمها صحيح أنه سوناطراك، ولكن مع أحرف مضافة إليه. وما دخل الإمارات العربية المتحدة، التي تصدر تقارير الجودة، وما دخل إيطاليا، بلد المافيا الأصلي، التي يبدو أن الناقلات العملاقة ترسو في موانئها أحياناً، أو تتجاور بسواها في شواطئها ومياهها في مرافقة بحرية مشبوهة...
لبنان ينتفض
20-11-2020
وتندرج عن هذه أسئلةٌ أخرى ساذجة: كيف تُبتلع القصة "البريئة" لأطنان من حليب الأطفال التي وجدت مرميةً في الخلاء بعدما تجاوزت مدة صلاحيتها، بينما أمضت العائلات أشهراً في البحث المضني عن حليب لأطفالها. كيف تُبتلع القصة "البطولية" عن مداهمة مستودع أدوية ثانوي، وتوبيخ صاحبه للمخالفات المرتكبة من قبله في التسعيرة والتخزين، فيما المستودعات الرئيسية العملاقة معروفة، وفي مأمن عن أي إزعاج..
كيف صُدّر الدواء المدعوم عبر المطار إلى بلدان أفريقية، ولم يره أحدٌ يعبر؟ من خزّن نترات الأمونيوم التي انفجرت وقضت على مرفأ بيروت منذ عام؟ لماذا لا تنطق الأقمار الصناعية للقوى "العظمى"، القادرة على تصوير وجوه الناس على الأرض، بينما هي تتدخل في أدق التفاصيل السياسية لحارات لبنان وزواريبه؟ لماذا لا يقترح حزب الله حلولاً غير تصدير النفط الإيراني، والدواء الإيراني إلى لبنان؟ لماذا علينا أن نهتم بالثرثرة عن تسمية الوزراء، وعن الانتخابات المقبلة الخ؟.. وهل يُصدّق أصحابها أنفسهم، أم يعتقدون حقاً أن الناس تهتم لما يقولون ويفعلون؟ ولكن ما الذي يتعين عليهم القيام به؟ هل هناك إمكانيات لمبادرات وإنْ بسيطة، وإنْ موضعية، تقوم على أساس التنظيم الذاتي الجماعي لبعض نواحي الحياة؟ وفي هذا سجلٌ حافل وملهم من تجارب مجتمعات أخرى، ولعله ما يجب نقاشه والاهتمام به... أم أن الناس يُدفعون، بسبب التعب واليأس وانغلاق الأفق، لارتضاء أي شيء؟
***
عشر سنوات
ما زلنا نكتبُ ونصدر ونهتم بتفاصيل الإخراج ونُصرُّ على إتقان عملنا وعلى جماله، بينما أوضاع بلادنا في الحضيض. كنا نوينا الاحتفال بمرور عشرة أعوام على انطلاق "السفير العربي"، في 2 تموز/ يوليو 2012. لن نحتفل طبعاً، وندعوكم بدلاً من ذلك إلى قراءة نصنا التأسيسي المنشور في نافذة "من نحن" في آخر الصفحة الرئيسية. وهو يحمل الأفكار التي حرّكت إرادتنا، ومثّلت بوصلة خياراتنا طوال هذه السنوات، وعبّرت عنها آلاف النصوص التي كتبها بلا كلل مئات الشباب (خصوصاً)، نساء ورجالاً، ومعهم من بقي "مؤمناً" من الأجيال التي سبقتهم، على الرغم من توالي الضربات.