تم انتاج هذا المقال بدعم من مؤسسة روزا لكسمبورغ. يمكن استخدام محتوى المقال أو جزء منه طالما تتم نسبته للمصدر.
في قرية بناويط بمركز المراغة بمحافظة سوهاج في جنوب مصر، وقفت ليل، الصبية ذات الجدائل، مع صديقات لها، أعلى البناية الريفية البدائية التي تقطنها، توّدع في نحيب مكتوم خمسة نعوش حملها رجال القرية إلى الجبّانة. خمسة أشخاص صارعوا فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19) ليهزمهم في يوم غابت شمسه، بينهم صديقتها في الدراسة. وحسب وصفها، فإن القرية المصنفة من القرى الأكثر فقراً في مصر، والتي يقارب عدد سكانها 20 ألف نسمة، لا يخلو منزل فيها من حالة إلى ثلاث حالات أصيبوا بالفيروس في موجته الثالثة الأخيرة، أو فقد أحدهم حياته.
لم تكن قرية بناويط الوحيدة في سوهاج التي أضحت مركزاً لوباء كورونا. ففي نيسان/ أبريل من العام الجاري، ضجّت مواقع التواصل الاجتماعي المصرية بالاستغاثات المنادية لرئيس الجمهورية وحكومته ومحافظ سوهاج، تطالبهم بسرعة التدخل، بعدما تجاوزت أعداد المصابين بفيروس كورونا في موجته الثالثة - وفق تقديرات متوسطة من أطباء يعملون بمستشفيات مخصصة للعزل هناك، ما بين 250 إلى 350 حالة إصابة يومية.
الوفيات، والعجز الصارخ في أسرّة الرعاية المركزة وأسطوانات الأكسجين، أدمت القلوب وسيطر الرعب. فالمصيبة هذه المرة لم تكن متوقعة. ورغم الصورة القاتمة المنقولة من قرى المحافظة، واحدة تلو الأخرى، إلا أن التصريحات الرسمية من الوزيرة الأكثر إثارةً للجدل في تاريخ وزارة الصحة المصرية، استفزت المواطنين. فهي "أكدت عدم صحة" ما يتم تداوله عبر مواقع التواصل الاجتماعي من أخبار، ووصفتها بالمغلوطة، مع أن المحتويات المرئية الصادرة من المستشفيات والمنازل تُشير إلى تدهور الوضع الوبائي في المحافظة، وتؤكدها استغاثات نقيب الأطباء بسوهاج.
يتصّدر صعيد مصر (جنوبي البلاد) قائمة المحافظات الأكثر فقراً، وتسجل سوهاج نسبة 59.6 في المئة من سكانها على خريطة الفقر المصري، حيث تعاني 236 قريةً من الفقر من أصل 270 قريةً تابعة (ما يوازي 87 في المئة من قرى المحافظة)، مسجلةً النسب الأعلى بين أفقر 1000 قرية في مصر، وبالطبع تصنف المساكن في تلك القرى الفقيرة على أنها إسكان متدهور، يخضع لنمط الإسكان العشوائي في شكله العام، والذي وإن كان قائماً على أراضٍ مملوكة للأفراد وليس على ممتلكات الدولة، إلا أنه لا تتوافر فيه معايير السكن الملائم.
سياسات وعشوائيات
وجهت جائحة فيروس كورونا المستجد الأنظار إلى أشكال من الهشاشة الناتجة عن سياسات اقتصادية واجتماعية طُبقت منذ سبعينيات القرن الماضي، بدءاً من عصر الرئيس محمد أنور السادات، وحتى الوقت الحالي. لعل أبرزها تلك التي تتعلق بالصحة العامة للمصريين.
هناك أماكن على الخريطة الاجتماعية الصحية المصرية لا تحظى باهتمام رسمي حقيقي، وهي تتسبب بنقل العدوى بمستويات متسارعة، وتنتج عنها الغالبية العظمى من الإصابات حسب تقديرات الأطباء العاملين بالمستشفيات المخصصة لعزل مرضى كورونا. وهي مناطق السكن غير الرسمي (مساكن بنيت بدون تخطيط رسمي، وبعض المساكن الرسمية القديمة أو الشعبية)، والتي تُعرف باسم "العشوائيات"، ويقطنها فقراء حُرموا من الرعاية الاجتماعية والاقتصادية، وأصيبوا بصورة مدمرة بالفيروس، إذ ينتهجون نمطاً حياتياً يعرضهم للكثير من المخاطر، ولا يلتزمون بالشروط الصحية والتباعد الاجتماعي.
تصّدر صعيد مصر (جنوبي البلاد) قائمة المحافظات الأكثر فقراً، وتسجل سوهاج نسبة 59.6 في المئة من سكانها على خريطة الفقر المصري، حيث تعاني 236 قريةً من الفقر من أصل 270 قريةً تابعة (ما يوازي 87 في المئة من قرى المحافظة)، مسجلةً النسب الأعلى بين أفقر 1000 قرية في مصر.
يتنوع الإسكان العشوائي في مصر ما بين الإسكان الهامشي وهو المعد لغير السكن مثل الكراجات والدكاكين وتحت السلالم (كمثال: في العاصمة القاهرة وحدها ووفقًا لتقرير جهاز الإحصاء الرسمي الصادر في العام 2020، والمحدد طبقا لنوع الوحدة السكنية وعدد الحجرات، يسكن الدكاكين 2.887 أسرة). وإسكان "العشش"، وتقع على محاور الترع والسكك الحديدية، وحرم المناطق الأثرية (تمثل 1.123 أسرة في العاصمة فقط)، وأيضاً معسكرات الإيواء، وهي خيام ومنازل بدائية بنيت من الدولة لمن تهدمت منازلهم في الزلازل، إضافةً إلى إسكان الجبّانات، والتي تنفرد بها العاصمة القاهرة (520 أسرة)، والإسكان الفوضوي المبني بدون ترخيص والمتدهور في الأحياء القديمة والشعبية، إضافةً إلى إسكان جامعي القمامة في مناطق حلوان ومحيط هضبة المقطم بالقاهرة (ليس هناك إحصاء رسمي بتعدادهم، لكن من الممكن أن يصنفوا ضمن الفئة التي تقطن في غرفة أو اثنتين ضمن وحدة سكنية، وعددهم حسب الإحصاء الرسمي 27.222 أسرة)، وأخيراً إسكان الغرفة الواحدة المستقلة في الأسطح وأفنية المنازل، أو في مناطق على أطراف الأحياء (يصلون إلى ما يقارب 93.210 أسرة في العاصمة، مع العلم أن متوسط الأسرة الواحدة 4 أفراد).
كما أن قرابة نصف سكان القاهرة الكبرى (تسمية تُطلق على كيان إداري في منطقة تشمل محافظات القاهرة والجيزة والقليوبية) البالغ عددهم وفقاً لأحدث بيانات المجلس القومي للسكان في العام 2020 حوالي 20 مليوناً و901 ألف، يعيشون في مناطق عشوائية. ووفقًا لتعداد مصر في العام 2017، فإن هناك ما يقارب من مليون ونصف مليون أسرة في عموم مصر تعيش في غرفة واحدة بنسبة تقدر بحوالي 6.4 في المئة من إجمالي الأسر المصرية البالغ عددها وقت التعداد 23.5 مليون أسرة، كما أن نسبة 2.6 في المئة يقطنون داخل حجرة أو أكثر ضمن وحدة سكنية .[1]
وجهت جائحة فيروس كورونا المستجد الأنظار إلى أشكال من الهشاشة الناتجة عن سياسات اقتصادية واجتماعية طُبقت منذ سبعينيات القرن الماضي، بدءاً من عصر الرئيس محمد أنور السادات، وحتى الوقت الحالي. لعل أبرزها تلك التي تتعلق بالصحة العامة للمصريين
وتفتقد المساكن العشوائية (تصل نسبة مساحة المناطق العشوائية الرسمية وغير الرسمية إلى 39 في المئة من إجمالي مساحة الكتلة العمرانية، والتي تقارب 7 في المئة من المساحة الإجمالية للبلاد) إلى معايير السكن الملائم من مياه نظيفة وصرف صحي، ومواصلات آمنة، ورعاية صحية مناسبة [2] . كل هذا أدى إلى تعرض سكانها المستمر للأمراض والأوبئة في سنوات ما قبل كورونا، وبالتالي جعلهم الأكثر عرضةً للعدوى بالفيروس المستجد، والتسبب في انتقاله إلى مناطق أخرى خارج حيزهم السكني، حيث يمارسون أعمالهم اليومية.
المياه النظيفة والصرف الصحي
ليس من الغريب عن مدينة حلوان الصناعية الواقعة جنوب القاهرة (تحتوي المدينة على ثاني أكبر التجمعات العشوائية في القاهرة الكبرى [3] )، أن تصنف في تشرين الثاني/نوفمبر من العام 2020، على أنها المدينة الأكثر إصابة بالفيروس. فالبيانات الرسمية التي فصّلت للمرة الأولى - والأخيرة! - أرقام الإصابات بالفيروس داخل مناطق العاصمة في شهر واحد، أوضحت أن الفيروس طالها بواقع 1932 حالة إصابة، تليها مناطق شرق مدينة نصر 1872 حالةً، والمطرية 1662 حالةً، والمرج 1416 حالةً، والبساتين 1331 حالةً، وجميعها مناطق تحوي تجمعات عشوائية.
وكنموذج للعشوائيات التي تأثرت بجائحة كورونا من داخل المدينة الجنوبية، فإنه في منطقة "المواصلة"، انتشرت الإصابات بالفيروس المستجد في موجته الثانية خلال شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2020، ولم يخلُ منزل من مصاب أو أكثر – حسب شهادات السكان. وليس هناك إحصائية تفصيلية رسمية بأعداد الإصابات في تلك المنطقة، لكن أطباء بالمستشفى العام الوحيد الذي يخدم المدينة (يخدم المستشفى مساحة شاسعة من مناطق "الصف" و"أطفيح" بمحافظة الجيزة، وحتى منطقة "طره البلد"، ويتجاوز عدد سكانها 3 ملايين نسمة)، أكدوا ذلك خلال مقابلات مباشرة.
في تشرين الثاني/نوفمبر من العام 2020، صُنِّفت مدينة حلوان الصناعية الواقعة جنوب القاهرة وهي التي تحتوي على ثاني أكبر التجمعات العشوائية في القاهرة الكبرى، على أنها المدينة الأكثر إصابة بالفيروس. ولم يخلُ منزل من مصاب أو أكثر، حسب شهادات السكان.
وتعد "المواصلة" من المناطق العشوائية التي أقيمت بجوار الجبّانات، وبها أكبر تجمع من حجرات الطين والصفيح والخشب منذ ستينيات القرن الماضي، وهي بيئة مناسبة للحشرات والقوارض يعززها تراكم الفضلات والقمامة والعقارب. والأهالي معتادون على انقطاع المياه المتكرر، ويلجؤون أحياناً إلى محطة السكة الحديد القريبة كمصدر للمياه، ولا يستطيعون غسل اليدين مراراً على مدار اليوم بسبب النقص الشديد فيها، أو بسبب استخدام أكثر من أسرة مرحاضاً مشتركاً (في الإحصاء الرسمي للعام 2017 رصد أن 386 أسرةً في حي حلوان ما زالت تقضي حاجتها في الفضاء، وليس لديهم مرحاض خاص أو عام من أصل 133.342 أسرةً، كما أن هناك 7 آلاف أسرة تستخدم مرحاضاً مشتركاً)، ما يعرضهم لانتقال الفيروس إلى أجسادهم عبر أياديهم وملابسهم المتسخة، أو عن طريق استخدام المرحاض نفسه والصنابير بدون تعقيم.
الجائحة في مصر: بين الطوارئ والاستثناء
07-08-2020
العلاج على نفقة الدولة.. سند الغلابة في مصر
09-10-2019
وعلى الرغم من أن الحصول على المياه الصالحة للشرب بكميات كافية، وبسعر يمكن تحمُّله، ومرحاض خاص أو عام يتقاسمه عدد معقول من الأفراد، هي من أهم معايير السكن الملائم التي أقرها برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية (الموئل) [4] ، فإن غالبية سكان المناطق العشوائية في مصر لا يستطيعون الحصول على مياه نظيفة – وهذا على الرغم من التقارير الرسمية الصادرة في نهاية العام المنقضي، والتي أشارت إلى أن نسبة تغطية مياه الشرب في عموم مصر وصلت إلى 98 في المئة (100 في المئة على مستوى الحضر – 97.4 في المئة على مستوى الريف). لكن تقارير رسمية أخرى صدرت في نهاية العام 2020، من الشركة الرسمية للمياه أظهرت أن نسبة التلوث في المياه المدفوعة إلى المنازل تصل إلى 35 في المئة، وتحوي الكثير من المطهرات وعنصري الكلور والشّبة، وهو اعتراف ضمني من الجهات الرسمية بأن المياه التي تصل إلى المنازل غير نظيفة تماماً.
بينما وفقاً للتقارير الرسمية ذاتها فإن شبكة الصرف الصحي غطت 65 في المئة من عموم مصر في العام 2020، منها 94 في المئة من سكان المدن، و34 في المئة من سكان المناطق الريفية، ما يعني حسب المعطيات الرسمية أن 6 في المئة من سكان المدن لا يزالون يعتمدون على الخزانات الأرضية، والتي تعتبر شبكة صرف صحي أهلية غير رسمية (خزانات تصنع من الأحجار دون بطانة ما يؤدي لتسرب المخلفات إلى التربة واختلاط مياه الشرب بالصرف)، بينما 66 في المئة من سكان الريف المصري بوجهيه الشمالي والجنوبي لا يزالون يعتمدون عليها، ولم يدرجوا ضمن شبكة الصرف الصحي العامة بعد.
الصحة العامة وتأثيرها على انتشار كورونا
في مجتمع العشوائيات، وخاصة الذي اتخذ شكلاً دائماً من التوطين، ترتفع الكثافة السكانية. ونتيجة إهمال المسؤولين للنظافة العامة لتلك المناطق باعتبارها مناطق سكن غير رسمية، ارتفعت معدلات انتقال العدوى بشكل متسارع للغاية، وكذلك أعداد المصابين بالأمراض المزمنة دون علاج (ليس هناك إحصاءٌ رسمي يُفندّ الوضع الصحي داخل المناطق العشوائية).
ويرتبط عدم الحصول على مياه نظيفة أو شبكة صرف صحي أو تناول أغذية رخيصة مضرة، ارتباطاً وثيقاً بالإصابة بأمراض المعدة والجهاز الهضمي والكُلى. وتؤكد التقارير والدراسات أن الأشخاص المصابين بأمراض الجهاز الهضمي المزمنة (ومنها ما هو ناتج عن تلوث مياه الشرب، واختلاطها بالصرف الصحي كما في حالة المساكن العشوائية أو تلوث الغذاء) أكثرُ عُرضةً بشكل خاص للفيروس، بما في ذلك أمراض الأمعاء الالتهابية والتي تبلغ ذروتها من شهر تموز/يوليو إلى تشرين الثاني/نوفمبر في مصر، وسرطانات الجهاز الهضمي (مثل سرطان القولون والمستقيم والمعدة والبنكرياس والمريء وسرطان الكبد) وأيضاً أمراض الكبد والكُلى (مثل محافظة كفر الشيخ في شمال مصر والتي ترتفع فيها نسب الإصابة بالفشل الكلوي في كل مراكزها). وهناك الأنيميا نتيجة نقص التغذية، وأمراض الجهاز التنفسي كالالتهاب الرئوي والنزلات الشعبية والسل، نتيجة عدم وجود التهوية المناسبة، بما يجعل سكان تلك المناطق أكثر عرضةً لفيروس كورونا نتيجة مناعتهم الضعيفة، وارتباط الفيروس بالأعراض التنفسية التي يعاني منها سكان العشوائيات في بعض المناطق، مثل مدينة حلوان الصناعية، وحسب وزيرة الصحة فإن 85 في المئة من حالات الإصابة أو الوفاة بالفيروس كانوا أصحاب أمراض مزمنة.
وهنا يجب الإشارة إلى أن البنية التحتية والخدمية الصحية في المناطق العشوائية فقيرةٌ للغاية، فترتكز الخدمات الصحية في أغلب مناطق مصر على المستشفيات الحكومية بأنواعها (العامة والمركزية والجامعية)، خاصةً في العاصمة، والتي وفقاً لبيانات رسمية في نيسان/أبريل 2021 بلغت 134 مستشفى في القاهرة بواقع 74.2232 ألف مواطن لكل مستشفًى!
في مجتمع العشوائيات، وخاصة الذي اتخذ شكلاً دائماً من التوطين، ترتفع الكثافة السكانية. ونتيجة إهمال المسؤولين للنظافة العامة لتلك المناطق باعتبارها مناطق سكن غير رسمية، ارتفعت معدلات انتقال العدوى بشكل متسارع للغاية، وكذلك أعداد المصابين بالأمراض المزمنة دون علاج... وليس هناك إحصاءٌ رسمي يُفندّ الوضع الصحي داخل المناطق العشوائية.
وفي الأحياء الفقيرة والعشوائية ينخفض وجود المستشفيات والمراكز الطبية المجهزة (هناك ما يقل عن 700 مستشفًى حكومي [5] تغطي عموم مصر)، كما أن المستشفيات تكافح من أجل إدارة التدفق المتزايد لمرضى كورونا، إضافةً إلى نقص المعدات الطبية وأهمها أسطوانات الأكسجين اللازمة، إضافة إلى نقص أسرة الرعاية المركزة، والنقص الشديد في الأطباء والهيئات الطبية المساعدة، فحسب سجلات النقابة العامة للأطباء في مصر فإن إجمالي عدد الأطباء المسجلين على رأس العمل بالقطاعين الحكومي والخاص بلغ 212835 طبيباً، وهناك أكثر من 120 ألف طبيب منهم يعملون في الخارج، أي أن حوالي 60 في المئة من عدد الأطباء المسجلين هجروا البلاد بسبب سوء أوضاعهم الاقتصادية وضعف التجهيزات الطبية. بينما أشارت دراسةٌ أعدها المجلس الأعلى للجامعات بالتعاون مع وزارة الصحة في العام 2019 إلى أن القوة الحالية للأطباء داخل مصر تمثل 38 في المئة من أعداد المسجلين، وأن 62 في المئة من الأطباء المصريين يعملون بالخارج، وتعاني وزارة الصحة المصرية من عجز في الأطباء العاملين بمستشفياتها الرسمية وصل إلى ما يقارب 50 ألف طبيب.
من المهم الاشارة إلى نقص الكوادر الطبية الشديد، والذي يتعلق بالطبع بالمناطق العشوائية والفقيرة التي لا يستطيع فيها الفرد سوى الوقوف في قائمة انتظار طويلة للحصول على مجرد فحص طبي في مستشفًى حكومي، أو التوجه إلى عيادة محلية فقيرة في الخدمات والأجهزة الطبية. وبسبب سوء الوضع والتكدس الكبير في المستشفيات التي يستطيع سكان العشوائيات ارتيادها، فضّل كثيرٌ منهم عدم الذهاب لاستشارة طبيب إذا ما شعروا بأعراض كورونا، والاكتفاء فقط بالعزل المنزلي إن أمكن، إما لأسباب تتعلق بتكلفة الخدمات الطبية المرتفعة بالنسبة إلى دخلهم الشهري، أو لانعدام توافر أماكن بالمستشفيات.
ومع انطلاق الموجة الثالثة من الجائحة، استمرت البيانات الرسمية في عرض يومي لعدد إصابات جديدة لا تتخطى 1000 إصابة ولا تتجاوز 60 حالة وفاة، وهي الحالات الرسمية فقط التي يُسمح لها بإجراء تحاليل الكشف عن كورونا (لفتت الدكتورة منى مينا - وكيلة نقابة الأطباء الأسبق - إلى أن معدل إجراء الفحص في مصر يعتبر محدوداً، حيث أنه بحسب موقع World Meter Egypt مطلع العام 2021، لا يتجاوز 9686 لكل مليون مواطن). غير أن الدراسة التي أجراها المركز المصري لبحوث الرأي - "بصيرة"[6] - أوضحت أن حوالي 684 ألف مصري في عمر 18 سنة فأكثر، أصيبوا بالفيروس خلال الموجة الثانية في شهري تشرين الثاني/نوفمبر، وكانون الأول/ديسمبر من العام 2020، فيما بلغ تقدير إجمالي عدد حالات الإصابة منذ بداية الجائحة، وحتى نهاية 2020 حوالي 2.9 مليون إصابة، حسب تقرير المركز المختص باستطلاعات الرأي العام. وهو الأمر الذي يتوافق مع تصريح مدير الطوارئ الصحية بالمكتب الإقليمي لمنظمة الصحة العالمية، في كانون الأول/ديسمبر من العام نفسه، من أن عدد الإصابات بكورونا التي تسجلها الصحة المصرية لا يعكس العدد الحقيقي للإصابات في البلاد، وهو ما يؤثر على سلوكيات المواطنين تجاه التعامل مع الأزمة ظناً منهم أن الأمور باتت طبيعية . [7]
المواصلات
يعد الإنفاق على التنقل والمواصلات بنداً رئيساً في ميزانية سكان العشوائيات، والتي يعمل كثير من سكانها في مناطق عمل خارج حيزهم السكني. وهناك وفرة في وسائل النقل الجماعي والمتمثلة في سيارات الميكروباص والتوك توك (وسائل نقل داخلية) وأخيرا مترو الأنفاق (يستخدمه ما يقارب 3.5 مليون مواطن يومياً داخل القاهرة الكبرى)، وجميعها تعتبر أرخص الوسائل المتاحة، رغم ارتفاع تكلفتها نسبياً بالنسبة للأسر الفقيرة، وتنعدم فيها إمكانية تطبيق الإجراءات الاحترازية نتيجة الزحام الشديد، ما جعلها من أكثر أماكن نقل العدوى بفيروس كورونا.
كشفت دراسة لجهاز الإحصاء الرسمي عن العام المالي 2019 / 2020 صدرت في آذار/ مارس 2021، عن انخفاض دخول 74 في المئة من المصريين كنتيجة لإجراءات مواجهة الفيروس، فاتجهت 50.3 في المئة من الأسر إلى الاقتراض من غيرها
وانخفض إنفاق الأسر على مصاريف النقل والمواصلات بنسبة 6.1 في المئة في العام 2020، مقابل 18.8 في المئة من العام 2019، وفقاً للدراسة التي أجراها جهاز الإحصاء الرسمي في آذار/مارس 2021، والتي استهدفت معرفة أثر فيروس كورونا على حياة الأسرة المصرية خلال الفترة من تشرين الأول/أكتوبر حتى نهاية شهر كانون الأول/ديسمبر 2020.
مرضى ولكن فقراء
حدد جهاز الإحصاء الرسمي وفقاً لتقرير له في العام المالي المنقضي 2019 / 2020 خط الفقر القومي للفرد في السنة - وهو تكلفة الحصول على السلع والخدمات الأساسية للفرد - عند 10.2 ألف جنيه سنوياً بمتوسط قيمة شهرية تقدر بـ 857 جنيه، وتختلف قيمة خط الفقر باختلاف المنطقة [8] ، فيما كشفت الدراسة نفسها التي أصدرها جهاز الإحصاء الرسمي في آذار/مارس 2021، انخفاض دخول 74 في المئة من المصريين كنتيجة لإجراءات مواجهة الفيروس، فاتجهت 50.3 في المئة من الأسر إلى الاقتراض من غيرها (أعلن الجهاز المركزي للإحصاء أنه وفقاً لتقديرات السكان في 1/1/ 2021، بلغ عدد الأسر المصرية 25.1 مليون أسرة)، فيما اعتمدت 17 في المئة من الأسر على المساعدات، و5.4 في المئة من الأسر على منحة العمالة غير المنتظمة التي أعلنت عنها الحكومة، واتجه 1.5 في المئة من الأسر إلى بيع جزء من الممتلكات الخاصة، وهم الأيسر حالاً، وهو ما يتناقض مع القدرة الشرائية للفرد في المناطق الفقيرة والعشوائية، فيما يتعلق بأدوات النظافة والمطهرات والكمامات الطبية الضرورية كإجراء احترازي ضد كورونا.
هل مصر بلد فقير حقاً؟
25-10-2018
قطارات الفقراء... المصريون على دروب الموت
02-05-2021
وكشفت شعبة المستلزمات الطبية بغرفة القاهرة التجارية في نيسان/أبريل 2021، أن هناك تراجعاً في الطلب على شراء الكمامات الطبية خلال الموجة الثالثة من كورونا بنسبة تتجاوز 50 في المئة، وأن المواطنين لا يرتدون الكمامات إلا في حال وجود زحام فقط، كما يفضل مواطنو العشوائيات شراء كمامات مجهولة مصدر التصنيع من بائعين متجولين عن الشراء من الصيدليات، نتيجة ارتفاع أسعارها التي تتراوح ما بين 5 إلى 150 جنيهاً حسب نوع الكمامة. ووفقاً لخط الفقر الذي حددته الحكومة المصرية، فإن دخل الفرد الذي لا يتجاوز شهرياً 857 جنيهاً لا يكفي لشراء كمامة يومياً، فالفرد قد يتكلف وحده 150 جنيهاً شهرياً (حوالي 17 في المئة من مجمل الدخل) للإنفاق على الكمامات الطبية فقط، مع إغفال شراء باقي أدوات النظافة والتعقيم.
وكانت المفاجأة غير المتوقعة، إعلان جهاز الإحصاء الرسمي تراجع معدلات الفقر إلى قرابة الـ 29 في المئة خلال العام المالي المنقضي 2019 - 2020 مقارنةً بـ 32 في المئة في العام السابق له، على الرغم من كل المعطيات الرسمية السابقة، ما يكشف عن تضارب البيانات الرسمية. ففي الوقت الذي تباهت فيه القيادة السياسية بانخفاض معدل الفقر بين المصريين في ظل أزمة كورونا، توقعت دراسة ل"معهد التخطيط القومي" أن تتسبب الجائحة في استمرار انخفاض الدخول في مصر وزيادة عدد الفقراء، ووضعت الدراسة سيناريوهات عدة، جاء الأسوأ بينها متوقِعاً ارتفاع معدل الفقراء ليتراوحوا ما بين 5.6 إلى 15 مليون فرد خلال العام المالي المقبل والذي يبدأ في آب/ أغسطس 2021.
مع استمرار الجائحة، استمر أيضاً انخفاض الإنفاق العام على قطاع الصحة، والمبرر الرسمي المعلن هو أن مصر لا تتمتع بالحيز المالي الذي يسمح لها بإنفاق المزيد على القطاع. لكن الحكومة أعلنت أن استثمارات وإنشاءات العاصمة الإدارية الجديدة تتراوح كلفتها ما بين 700-800 مليار جنيه. أما ميزانية تطوير العشوائيات فلا تزيد عن 17 مليار جنيه فقط.
ومع استمرار الجائحة، استمر أيضاً انخفاض الإنفاق العام على قطاع الصحة، والمبرر الرسمي المعلن هو أن مصر لا تتمتع بالحيز المالي الذي يسمح لها بإنفاق المزيد على القطاع. لكن لا نجد ذلك في تخصيص الحكومة لمخصصات تفوق ميزانية الإنفاق على الصحة في مشاريع عملاقة. وفي الوقت الذي أعلنت الحكومة أن استثمارات وإنشاءات العاصمة الإدارية الجديدة تتراوح ما بين 700-800 مليار جنيه (وفقاً لرئيس الشركة التي تديرها)، فإن ميزانية تطوير العشوائيات وفقاً لصندوق تطوير العشوائيات لا تزيد عن 17 مليار جنيه فقط.
ولعل جائحة كورونا قد كشفت وبشكل واضح أن العشوائيات أصبحت قنبلةً موقوتة في الداخل المصري، ومركزاً رئيسياً للوباء، يحتاج من السلطة إعادة النظر بسياساتها تجاه سكان تلك المناطق، وأيضاً إعادة هيكلة المنظومة الصحية المتهالكة بما يخدم الغالبية العظمى من المصريين.
محتوى هذا المقال هو مسؤولية السفير العربي ولا يعبّر بالضرورة عن موقف مؤسسة روزا لكسمبورغ.
[1] البيانات المستخدمة عن العام 2017 صدرت في الدليل الإحصائي لمصر في العام 2020.
[2] وزارة الإسكان الظل :حقوق السكن والعمران - متاح على: https://cutt.ly/PmdJ9Iz
[3] https://www.hindawi.org/books/68184917/2/
[4] https://unhabitat.org/ar/node/3140
[5] للتعرف على وضع مفصّل للرعاية الصحية في مصر ونقص الخدمات يرجى الإطلاع على https://bit.ly/3xeWTss
[6] http://www.baseera.com.eg/RecentPolls2.aspx?ID=182
[7] "الوباء والقطاع الصحي في مصر: الضوء يعيد تشكيل الظلال" لمنى سليم، "السفير العربي".
[8] كانت أعلى خطوط الفقر بين أقاليم مصر ببحث الدخل والإنتاج 2019 /2020 المحافظات الحضرية لتبلغ 11285 جنيه سنوياً، بينما كان خط الفقر المدقع يقع عند 7071 جنيه سنوياً وأقلها بحضر الوجه البحري بقيمة 9755 لخط الفقر الكلي و6304 لخط الفقر المدقع.