تواجه الحركة النقابية في فلسطين مشاكل واختلالات هيكلية تشترك عوامل خارجية وذاتية في مصدرها. وقد ظل العمل النقابي الفلسطيني طيلة العقود السابقة عرضة لمؤثرات منها إجراءات الاحتلال الإسرائيلي، والسياق التاريخي الذي نشأت وتطورت فيه الحركة النقابية، أي النضال ضد الاستعمار الاستيطاني الصهيوني ومن أجل تحقيق التحرر الوطني.
ويمكن تلخيص العمل النقابي الفلسطيني تاريخيا، منذ عهد نشأته إبان الانتداب البريطاني، بأنه نموذج حيّ لفعالية الأجسام التي توجه بوصلتها بشكل متواز ومزدوج: تجاه النضال الوطني السياسي، ولمناهضة انتهاكات حقوق العمال. لكن متابعة هذه المهمة المزدوجة تشكل بحد ذاتها تحديا رئيسيا. إذ إن عدم التقدم في تحقيق الأهداف النضالية الوطنية بعد 50 سنة، منذ انطلاقة الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة، يرخي بآثاره على التقدم في متابعة الأجندة الاجتماعية/الاقتصادية.
وكل ذلك، يعزز الاختلال في بنية الحركة النقابية. وهي تقف اليوم على منعطف هام في مسيرتها: هل تبقى على النموذج المزدوج، أم أن الظروف المادية على الأرض في فلسطين ستفرض «القضية المطلبية العمالية» كالمحرك الجديد الذي يقدم عربة «القضية الوطنية» المتوقفة، في تطبيق عملي أوسع لمفهوم التحرر؟
اعتبارات «الثانوي» و«الرئيسي» القاتلة
منذ إعادة تشكيل حركة نقابية فلسطينية في الشتات في إطار الثورة الفلسطينية، وتمثيلها في م.ت.ف. وفي مجلسها الوطني وأطرها القيادية، تحت راية الاتحاد العام لعمال فلسطين، فإن قضايا العمال أُخضعت تماما لاعتبارات وأولويات النضال الوطني.
بل أضحت ذخيرة جماهيرية وبشرية وقتالية ودعائية في سبيله، كما الحال مع قضايا المرأة والطلبة والمهندسين والأطباء والكتاب والصحافيين وغيرهم من الفئات المجتمعية المختلفة التي كان لكل واحدة منها اتحادها أو نقابتها «المهنية».
ومع أن لكل هذه الفئات مشاكلها الخاصة، فإن النظرة من الخارج لها ولمسبباتها وسبل معالجتها، استندت دائما إلى أنها ثانوية مقارنة بالتناقض «الرئيسي» مع العدو الإسرائيلي (في الخارج) والاحتلال (في الداخل). والالتزام العمالي بهذا المبدأ الثابت أجّل لعقود أية مناقشة عامة أو سياسية جدية للمسائل والعيوب المجتمعية والاقتصادية والطبقية المتراكمة سنة بعد سنة، والمهملة، بينما المشروع الوطني المتمثل بالثورة الفلسطينية يتلاشى ويسلم دفة الأمور لمشروع الدولة الفلسطينية العتيدة (والمؤجلة إلى اجل غير مسمى).
وبناء على ذلك، فقد طغت الصبغة السياسية والتغيرات المصاحبة لها على العمل النقابي الفلسطيني، وأصبح من الطبيعي أن تتكون النقابات من خلال تشكيلات حزبية سياسية بعد أن كانت حجرا أساسيا في دعم الحركة الوطنية بتنوع أحزابها في تلك الفترة. لكن هذا النموذج أصبح يعكس في وقت لاحق ثبات المحاصصة الفصائلية في م.ت.ف.، وبالغ في التأكيد على التمثيل الحزبي كداعم لبقاء النقابات وثبات توجهاتها على حساب ترسيخ العمل النقابي على الأرض، رغم إلحاح هذا الاخير نتيجة التحولات الاقتصادية وتغيرات السوق المتسارعة منذ إنشاء السلطة في العام 1994 وحتى الوقت الراهن.
خلط الحزبي بالنقابي
نشأة السلطة، والذهاب نحو بناء مؤسسات مجتمعية وأهلية، سياسية أو اقتصادية مناسِبة لإدارة دولة (وليست ثورة)، أديا إلى ضرورة التمييز بين العمل السياسي والعمل النقابي. وهو توجه تنظيمي طبيعي في حالة نشأة الدول وترسيخ الأنشطة المجتمعية على شكل مؤسسات أساسية في الدولة. إلا أن هذا التطور لم ينعكس بالضرورة على الممارسات داخل النقابات العمالية، بل ان النموذج السابق ساد متغلبا على إمكانيات التغيير. وقد رصد العديد من الأبحاث آثارًا سلبية للتمثيل والتقسيم الحزبي داخل النقابات، وهو ما دعا للبحث عن نموذج عمالي لا يقوم بالدمج بين الهدف العمالي والمنهجية الحزبية.
أدت التقلبات السياسية السابقة، ثم التركيز منذ أوسلو (خاصة في السنوات الـسبع الأخيرة) على عملية التحول من الثورة إلى الدولة، إلى وضع لم يؤد إلى إتمام الأولى ولا إلى بلوغ الأخيرة. فالنقابات العمالية تتجه نحو الاستقلالية والمزيد من التخصص والتنوع القطاعي، وهي شرعت في التعامل المهني والتقني المطلبي مع قضايا الطبقة العاملة الفلسطينية، كمحاولة لتحييد الخلط السابق ما بين العمل الحزبي والنقابي من جهة، وتفعيل العمل النقابي وترسيخ مبادئ الديموقراطية وتوسيع قاعدة التمثيل والمشاركة من جهة أخرى.
فأصبحت النقابات حديثة المنشأ أمام سؤال رئيس و«أولي»، وهو هل تحافظ على النموذج المعهود أم تتبنى النموذج الحديث؟ وذلك كان تحولا هاما أمام الحركة النقابية الفلسطينية. ولم يكن من السهل في البدايات النسبية للنموذج الحديث أن يكون فاعلا ومضمون النتائج.
المشهد النقابي
يوجد في فلسطين 5 اتحادات عمالية. وتختلف سياقات وظروف نشأة كل اتحاد عمالي، حيث تشير الباحثة سامية البطمة إلى أن نشأة غالبية هذه الاتحادات وتطورها لم يرتبطا بصراع الطبقة العاملة مع أرباب العمل والحكومة، بل ارتبطا في معظم الحالات بالصراعات السياسية بين الفصائل المختلفة، إضافة إلى خلافات وانشقاقات نشأت بين أطراف قيادية في الحركة النقابية.
وتركَّز التفاوت في توجهات فرقاء العمل النقابي الى تبلور ثلاثة اتحادات أساسية: الاتحاد العام لعمال فلسطين، والاتحاد العام لنقابات عمال فلسطين واتحاد النقابات المستقلة. أنشئ الأول خارج فلسطين تحت مظلة منظمة التحرير الفلسطينية، ونشأ الثاني نتيجة التطور الطبيعي للحركة النقابية في الداخل، ومن ثم دخل الاتحادان في صراعات عميقة منذ العام 1997 إثر آلية تعامل كل منهما مع التسويات التي طرحها الهستدروت الإسرائيلي إزاء قضية تعويضات العمال الفلسطينيين داخل الخط الأخضر.
وبينما بقي الاتحاد العام الاول يعكس التشكيلة السياسية الفصائلية نفسها التي سادت في مراحل العمل النقابي «الوطني»، اتجه الاتحاد العام الثاني إلى مسار اقرب للمطالب والقضايا العمالية الأساسية دون الابتعاد تماما عن التفاعل السياسي مع القضايا الوطنية والحزبية/الفصائلية. ومن خلال التحالف بين الحركتين: الوطنية/السلطة، والنقابية/العمال، نجد في هذين النموذجين بنية نقابية شبيهة بتلك التي هيمنت على المشهد النقابي العمالي العربي عموما عشية اندلاع ثورات الربيع العربي الاجتماعية والاقتصادية، حيث تعايشت الحركة النقابية الرسمية مع أنظمة الحكم التي لا تولي قضايا الطبقة العاملة اهتماما يذكر، والتي كان إسقاطها الهدف المباشر للعديد من الحركات الجماهيرية العربية خلال عام 2011 على الأقل.
أما النموذج النقابي الثالث فهو الاتحاد العام للنقابات المستقلة، الذي أنشئ حديثا في سياق التطور الطبيعي للحركة النقابية، وفي سياق الدعوة لمعالجة الاختلالات التي يعانيها العمل النقابي خلال الفترة السابقة.
ما يميز صعود هذا التيار النقابي الجديد هو تزامن ذلك مع بروز ظاهرتين:
1- في السياق العربي الأوسع، التوجه منذ 2011 لتفكيك أو تحجيم دور النقابات «الرسمية» السابقة وإنشاء أطر عمالية مستقلة فعلا عن مؤسسات السلطة (مهما كان لونها السياسي أو المذهبي)، وقادرة فعلا على نقد السلطة ووضع المطالب العمالية، الطبقية الاجتماعية والاقتصادية، على أجندة أنظمة الحكم القائمة (أو المتجددة)، كون هذه المطالب المؤجلة تشكل المسبب الرئيسي للحراك الجماهيري العربي (رغم جميع المحاولات لاختطافها من خلال نشر ثقافة الطائفية أو المال أو الأمن).
2- في السياق الفلسطيني، فإن الخيار الاستراتيجي الذي تبنته م.ت.ف في أوسلو وباريس للحاق بقطار العولمة والتحرير الاقتصادي، مثل سائر الجنوب المستعمَر سابقاً، أفرز نتائج مذهلة/مرعبة بعد 20 سنة من انتشاره في فلسطين، وخاصة في العهد الأخير لما بعد نظام عرفات.
فقد أحسنت السلطة الفلسطينية، المنزوعة السيادة، الأداء الليبرالي إلى درجة اعتُبِرت نموذجا ناجحا للحكم الرشيد من قبل مؤسسات «توافق واشنطن» المكلفة بـ«دعم عملية السلام». ومع ان تجربة السلطة الذاتية في إطار احتلال استعماري طويل المدى تبدو غير قابلة للدوام من حيث المبدأ (وتجربة الشعوب المستعمَرة الأخرى خير دليل)، فإن انعكاسات تلك السياسات السوقية الأصولية على الأسر الفقيرة والطبقة العاملة ليست اقل تدميرا عن مثيلاتها العربية، وتبدو بدورها أيضاً غير مستدامة.
وبالتعريج على بعض المعطيات الهامة حول المشهد النقابي الفلسطيني، يشير تقرير وزارة العمل (2011) إلى أن تأثير الأحزاب في بنية الاتحادات وهيئاتها يعتبر تأثيرا قويا وواضحا، وهو ما لا ينطبق على النقابات المستقلة، حيث وصف هذا التأثير بأنه محدود.
ومن حيث معايير أخرى، مثل المشاركة النسائية، والالتزام بالأنظمة الداخلية، والمشاركة في الاتفاقيات الجماعية الخ... فقد تميز أداء النقابات المستقلة ايجابيا عن سائر النقابات الأخرى، بحسب وزارة العمل. وقد أشار التقرير أيضا إلى أن تأثير اتحاد النقابات المستقلة في النزاعات الجماعية كان اكبر من تأثير الاتحادات الأخرى.
ومع ان هذا التقييم الايجابي قد يفسر من قبل البعض على انه دليل على شكل جديد من النموذج القديم (مباركة/تبني السلطة لطرف نقابي معين)، فانه يصف بشكل دقيق التحدي المهني الأساسي أمام الحركة النقابية الفلسطينية وهي تقف عاجزة حيال انسداد الرؤية التحررية الوطنية وحيال مسؤوليتها الأولى في تنظيم الطبقة العاملة وتحقيق مطالبها وتطلعاتها.
ما العمل؟
وهنا تكمن المواجهة الأكبر للحركة النقابية الفلسطينية بمختلف أطرافها: هل تستمر بالتصرف على أساس الولاء المطلق لنظام حكم (وليس نظام ثورة)، بينما الآثار المدمرة للبرلة الاقتصادية والتهميش الاجتماعي تحت الاحتلال ما زالت في أولى مراحلها؟ أم أن عملية التحول والتكوين الطبقي التي انطلقت حتما بفعل العولمة ونشر سياسات الليبرالية الجديدة، ستفرض على تلك النقابات الاختيار بين الوقوف مع النظام ضد عماله، أو حسم الازدواجية في الولاء، وبالتالي توظيف طاقتها وتعريف مهمتها بأنها الدفاع عن مصالح الطبقة العاملة وتمثيلها فعلا أمام أنظمة الحكم.
وكمثال لتجسيد الموقف، فعندما تكون اللامساواة في رواتب السياسيين في الحكومة الفلسطينية مقارنة بمعدلات دخل المواطنين، هي الأعلى بين كل حكومات العالم (باستثناء كينيا)، وتفوق بـ24 ضعفا معدل الإنتاج الوطني للفرد، وعندما تغطي شوارع رام الله اللوحات الدعائية العملاقة التي تشجع على المزيد من الاستهلاك والاقتراض ومعهما حسن المواطنة، بينما تختفي شعارات وملصقات الثورة وصور الشهداء، فكيف تقف تلك النقابات، عامة كانت أم مستقلة، ساكنة ودون تلبية مهمتها، والتي هي مبرر وجودها؟يظهر مما تقدم أن التنوع في التشكيل النقابي وفي تمثيل مصالح العمال، وبروز العمل النقابي المستقل، يشكلان لبنة أساسية في سياق النهوض بالواقع النقابي وتعزيز دوره ومشاركته في صياغة السياسات العامة.
وبالتأكيد فإن إقرار قانون عصري للتنظيم النقابي هو خطوة أولى نحو إصلاح الأجسام النقابية وتصويب أوضاعها بما ينسجم مع القانون، وبما يحقق الغاية الأسمى للحركة النقابية المتمثلة بالدفاع عن الحقوق العمالية والتأثير في صناعة القرارات التي تمس الواقع الاقتصادي والاجتماعي للمواطن والعامل على حد سواء.
(وهذا المقال يعبر عن آرائهما الخاصة)