إرفعوا التاج..

فلأكن مثلًا قطعة ملابس، ولنقل مثلاً بأنّني عباءةٌ سوداء لا تفاصيل فيها ولا ألوان. هكذا بدأت أتنقّل بلا رسم أو اسم، لا معالم واضحة، قد يُضيّعني من أكون معه وقد يخلط بيني وبين مئات من النسخ التي تمشي في المكان نفسه. من بعدها تحوّلتُ. زادوا على أطرافي تفاصيل، رصّعوني بحجارة برّاقة حتّى صرت أصنع تشكيلًا هنا وأزيد خيطًا هناك. ازددت اختلافاً، وقررت أن أجرّب تغيير الألوان، فتّحت الأسود
2015-03-05

نورة بنت عفش

باحثة اجتماعية من السعودية


شارك
| en

فلأكن مثلًا قطعة ملابس، ولنقل مثلاً بأنّني عباءةٌ سوداء لا تفاصيل فيها ولا ألوان. هكذا بدأت أتنقّل بلا رسم أو اسم، لا معالم واضحة، قد يُضيّعني من أكون معه وقد يخلط بيني وبين مئات من النسخ التي تمشي في المكان نفسه.
من بعدها تحوّلتُ. زادوا على أطرافي تفاصيل، رصّعوني بحجارة برّاقة حتّى صرت أصنع تشكيلًا هنا وأزيد خيطًا هناك. ازددت اختلافاً، وقررت أن أجرّب تغيير الألوان، فتّحت الأسود ليصبح دخانيّاً. فقلت، لنجرّب الرصاصي والرمادي والبني.
حياتي كرحلة العباءة، بدايةً كانت قطعة قماش جامدة تمتدّ من البيت خارجاً إلى القبر، أمّا اليوم فتتفرّع طريقي لتصل إلى المحالّ والأسواق والشركات. عرفني العالم بالكائن الوحيد الذي لا يُسمح له بقيادة السيارة، والنساء في بلادي ما زلنَ يحاولنَ الركوب خلف المقود، من دون جدوى. فحججٌ مثل الملكة والأميرة التي "تُخدم ولا تَخدم" جاهزة، والحبس هو جزاء من يُحاول. لُجين الهذلول اشتهرت بمقاطع فيديو تُوثّق فيها آراءها وهي في بلاد الابتعاث.. حاولت الهذلول أن تعبر الحدود الإماراتية السعودية في تشرين الثاني الماضي وهي تقود سياراتها، فأوقفت وحُبست لأكثر من شهر وأُطلق سراحها بعد تعهّدها بعدم القيادة في ربوع المملكة. لكن قيادة السيارة ليست إلاّ جزءاً بسيطاً من جبل الجليد الطافي في عمق الصحراء.
أنا أكبر القاصرات في العالم، قاصر مدى الحياة، منذ ولادتي أكون ابنة فلان أو أخت فلان. أكبُر لأصبح زوجة فلان، وأكبُر أكثر فأصبح أمّاً لعلاّن. لم أكن يوماً سوى ظلّ لجسدٍ آخر، اسمي يختبئ في الزوايا، يُهمس به، لعلّ معرفته تُعدّ نوعاً من أنواع الفضيحة. إذن وليّ الأمر شرطٌ أزليّ للسفر والتنقل والتعلم والتقاضي وإجراء العقود الخاصة والحكومية واستصدار وثائق الهوية وحتّى العلاج بالمستشفى. وسمر البدوي نالت جائزة أشجع النساء في العالم لتحدّيها قانون الولاية المعمول به في أرجاء السعودية. هربت البدوي من منزل والدها الذي كان يتحكّم بأموالها ويعنّفها جسدياً إلى إحدى دور الرعاية التي تستقبل حالات الفتيات الهاربات من قسوة الأهل أو النساء المعنّفات الباحثات عن مأوى، مُتحدّيةً المجتمع الذي يرى في خروج المرء عن طاعة ولي أمره فعلا مشيناً وعقوقاً يستلزم التأديب. جمعت حولها تعاطفاً ساهم في ربحها القضية وبالإفراج عنها بعد سبعة أشهر حبس.
لم تقف سمر البدوي عند هذا الحدّ، بل تحوّلت إلى مدافعة عن حقوق الإنسان (أخوها رائف البدوي، محبوس بتهمة إنشاء موقع لحقوق الإنسان في المملكة، وزوجها وليد أبو الخير محامي وناشط حقوقي حُكم عليه بالسجن لمدة 15 عاماً بتهمة ازدراء القضاء) وخاصّةً حقوق المرأة، ورأت أن السبب الرئيسي لغياب أيّ حقوق للمرأة السعودية يكمن في عدم مطالبتها هي نفسها بحقوقها. فالعديد من النساء يجهلنَ حقوقهنَّ التي يملكنها لتجاوز ما يواجهنه من انتهاك. ولعل غياب قانون واضح للأحوال الشخصية في السعودية يجعلهن لا يعرفنَ ما لهنَّ وما عليهنَّ. جميع الأحكام تخضع لاجتهادات القاضي، فقد لا يرى الأخير ما يُلزم العقاب لرجل ضرب زوجته حتّى يتسبب بإغمائها، وقد يكتفي بإلزامه بحفظ أجزاء من القرآن أو الحديث كعقوبة.
في حين يرى قضاةٌ آخرون في الولاية نوعاً من الخضوع المُطلق غير المحدود، حيث لا رحمة.
في عهد الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز، تحسّن وضع النساء السعوديّات، سُمح لهنّ بالمشاركة في الانتخابات البلدية لأول مرة، وانتُخبوا أعضاء في مجلس الشورى على الرغم من اشتراط الفصل بين الجنسين في المجلس. وكذلك فتحت أسواق العمل أبوابها لهنّ، بوصفهن قوى هائلة ضخمة. تنهّدت النسوة وأصبح البحث عن الفرص عنوان المرحلة، صارت الأسواق تعجّ بالنساء بعد أن كانت حكراً على الرجال. ورويدًا بدأت المرأة تتخفّف من أثقالها، وترفض وتتمرّد. وثّقت العديد من النسوة مشاهد تحرش ونشرنها على صفحات التواصل الاجتماعية، وأطلقن حملات إلكترونية ونفذن اعتصامات لدفع الدولة إلى تأمين وظائف لمتخرجات جامعيّات لا زلنَ عاطلات عن العمل. لكن هذا التغيّر في هيكلية سوق العمل لم يوقف الانتقادات الموجهة اليهن، وما زال الرجل السعودي يرفض أن يأتمر من امرأة يكون منصبها أعلى من منصبه. المرأة السعودية تستفزّ الرجل بكلّ حالاتها. إذا ما وضعت برقعاً تستفزّه، وإذا ما خلعته وكشفت وجهها.. وأما إذا ما أسدلت شعرها فيطير عقله ويبدأ بالحديث عن مدّ الكفار وطغيان الأفكار الليبرالية على مجتمع محافظ.
وليست آخر الاستفزازت التي شعر بها الرجل السعودي حديث عضو الوفد المملكة في الأمم المتحدة منال رضوان وهي كاشفة الوجه والشعر، ما أحدث ضجّة كبيرة بوصفها ممثلة لبلاد الحرمين الشريفين. واستدعى تحرّك الحكومة للتحري عن الحادثة.
هم يقولون إنهم خلف النقاب يخبئون ملكة. لكنّني كسعوديّة لا أريد أن أكون صاحبة التّاج. كلّ ما أبغيه هو أن أكون إنسانة عادية على كوكب عاديّ، وفي رأسي تضجّ أحلامٌ أرضيّة. كلّ ما وصلتُ إليه قد يعود إلى نقطة الصفر الآن، فاليد المتشدّدة أُطلقت من جديد لتتكفّل بالمحافظة على "الروح الأصيلة" لمجتمعٍ يرى البعض من أهله في انفتاحه تغرّبّا عن ماضٍ يحنّون إليه.
لكن التغيير الذي نريده نحن راهنّا عليه بالوقت. والوقت وحده جعل ذكر اسم الفتاة أمراً عادياً في السعودية، وجعل تعليم الفتيات ضرورة، ولعبهنّ الرياضة نهضة، ودخولهن الأسواق طاقة.
الوقت وحده غَيّر العقول وزرع الأخضر في أطراف الصحراء.

 


وسوم: العدد 135

للكاتب نفسه

مزاح الذكور في السعودية

المزحة كانت ثقيلة هذه المرّة، لم يستسغْها المشاهدون. ربما وضعوا نساءهم مكان الفتاة التي رُميت أرضاً. قالت الفتاة إنّ عدم تغطية وجْهها هو الذي دفع رجال الهيئة إلى ملاحقتها بطريقة...

ما الذي يهم السعوديين؟

قالت المملكة إن الأمر إنجاز، أن تنتخب النساء وتترشحن، أن تفوز سعوديات في مكة والإحساء والقطيف، ويدخلن العمل البلدي. يتحدث الجميع عن الإنجاز السعودي الذي دخل التاريخ، لكن الإنجاز في...