جرَّة قلم كانت كافية لرئيس الحكومة السابق كي يحذف سلك الباحثين الفلاحين من الوجود. لم يتطلب منه الأمر سوى إصدار أمر بالرائد الرسمي (الجريدة الرسمية) للجمهورية التونسية بتاريخ 13 كانون الثاني/ يناير 2015. قد يعلل المسؤول السابق قراره هذا بشتى العلل، كأن يكون الحذف قد تم بالتشاور مع وزيري الفلاحة والتعليم العالي، أو أن يكون القرار ملائماً لرأي المحكمة الإدارية أو أن تكون هذه الخطوة مندرجة في سياق تطوير مناهج التّعليم العالي والبحث العلمي، إلى غير ذلك من المبررات. وقد يبدو أمر هذا الحذف عارضاً بسيطاً، فالقانون يخول رئيس الحكومة صلاحيات واسعة تمكنه من إصدار أوامر وقرارات تكاد ترقى إلى مرتبة القانون، ورئيس الحكومة يصدر، على شاكلة هذا الأمر، من الأوامر الشيء الكثير.
ولكن حذف خط الباحث الفلاحي وإلحاقة برتبة مدرس باحث، بالإضافة إلى أنه يدل على تقديم وتفضيل التدريس على البحث الزراعي، إنما هو عارض من أعراض علة مزمنة تغلغلت في أوصال الفلاحة التونسية ولم تبرحها. وأمر الفلاحة في تونس، على خطورته، لا يبدو أنه يؤرق المسؤولين وصناع القرار. وإن همَّ بعضهم، فإنه يبقى غائباً عن الرأي العام، أو لعله قد غيب تغييباً.
إن المتصفح اليوم لجرائد تونس، والمتابع لشأنها السياسي والاجتماعي والاقتصادي، يقابل بخطاب يكاد يكون موحداً بين جميع وسائل الإعلام: "على تونس أن تقوم بإصلاحات مؤلمة، قبل أن يفوت الأوان!". ما على قادة السياسة إلا الجهر بهذه الجملة المغرقة في الفزع والهلع، حتى تنخرط المنابر في جوقة واحدة لتعدد الإصلاحات المؤلمة: إصدار إطار الشراكة بين القطاع العام والقطاع الخاص، إصلاح الجباية والضرائب، ضخ المال العام في البنوك العمومية المفلسة، إعادة هيكلة صناديق التأمين الاجتماعي، الرفع من سن التقاعد وترشيد دعم المواد الغذائية الأولية..
هذه الإصلاحات التي يلوكها الجميع ويرددها منذ ثلاث سنوات، أمرها غريب يبعث على الريبة. ففي حين ينكر صندوق النقد الدولي أن يكون هو من فرضها شروطاً لقروضه، يسخِّر البنك الدولي أموالاً طائلة لتسويقها وتبسيطها لعامة الشعب التونسي. والحكومات المتعاقبة تؤكد أنها من أستنبط هذه الإصلاحات. والحال أن هذه الحزمة من الإجراءات والشروط تكررت، على الشاكلة نفسها تقريباً، في جل الدول التي استدانت من الدائنين الكبار. وأما السواد الأعظم من الخبراء، محليين كانوا أم أجانب، فإنهم وبرغم ما يتطلبه العلم والخبرة من موضوعية وحس نقدي وتعدد في الآراء والزوايا، ينساقون الى القول بحتمية هذه الإصلاحات وعدم وجود بدائل عنها.
ولا يحيد عن هذا المنهج إلا النزر القليل: بعض المعارضين السياسيين، أو بعض الدارسين الذين هدتهم بصيرتهم وأبحاثهم إلى عوالم أخرى ممكنة، لا تحكمها المؤسسات المالية الدولية وقروضها المجحفة.
أما أشد ما يريب في هذه السلسلة من الإصلاحات فهو سكوتها عن الفلاحة. لما لم ينطق حكام تونس ومن دانهم بذكر الإصلاح الفلاحي ولو سهواً؟ لما لا وتونس بلاد زراعية بالأساس، تحتل تمورها وزيوتها وغلالها مراتب متقدمة في الجودة العالمية؟ كيف يسكتون عن شأن الفلاحة والأراضي الخصبة تمتد على أكثر من مليون هكتار من شمال البلاد إلى جنوبها، في حين يناهز طول السواحل 1400 كلم؟
صحيح أن الرئيس الأسبق بورقيبة كان قد وقع في 12 أيار/ مايو 1964 قراراً بتأميم الأراضي المحتلة على الطاولة نفسها التي وقع عليها الباي معاهدة الحماية التي مكنت الفرنسيين من احتلال تونس في 12 ايار/مايو 1881. وصحيح أن الجلاء الزراعي كان مندرجاً في سياق تحرر شعب تونس. لكن استرجاع مقدرات التونسيين لم يخلُ من الفساد، إذ تشتت الملكية ومنحت أخصب الأراضي، على غير وجه حق، إلى المقربين من السلطة.
كما يمكن أن يرجع نفور الرأي العام من عبارة "الإصلاح الفلاحي أو الزراعي" إلى فشل البرنامج الاشتراكي الذي حاول من خلاله الوزير الأسبق أحمد بن صالح تطبيق نظام تعاضدي في القطاع الفلاحي في ستينيات القرن الماضي. هذا الفشل لم تزده سياسة بن علي الريفية إلا تأزماً، إذ حوصر الفلاح في صورة الكادح الذي يرضى بإعانة الدولة المتمثلة في خروفين أو ثلاثة أو كيسين من الأسمدة. وقد يذهب البعض إلى القول إن الإصلاح الزراعي إنما هو مبدأ من أدبيات الفكر اليساري الاشتراكي ليخلصوا إلى أن الصمت عنه منطقي في ظل سيطرة تيارات يمينية ليبرالية على مقاليد الحكم في تونس.
هذه التفسيرات وغيرها لا تبرر بأي حال من الأحوال إهمال قطاع الفلاحة. انجراف وتصحر وتلوث وتشتت ونقاط تنمية ضائعة وفرص مهدورة... الأخطار التي تتهدد الفلاحة لا تُحصى ولا تُعد. ولكن أخطرها على الإطلاق مساع حثيثة يقوم بها بعض أصحاب المصالح الاقتصادية ومجموعات الضغط النافذة. فمع كل الوهن الذي تعانيه الفلاحة الوطنية يسعى البعض إلى سن قوانين تبيح للأجانب امتلاك الأراضي الخصبة وتفتح الحدود أمام الاتحاد الأوروبي وفلاحته الكاسحة المتطورة.