تونس الخضراء عطشى

هي حسناء خضراء العينين تلبس ثوباً خِيط من السندس وأوراق الريحان والزيتون. هكذا ترتسم تونس في خيال الأدباء والشعراء والفنانين. جلهم اعتبروها آيةً من آيات الخصب والنماء وتغنوا بنضارتها عبر العصور. ففيما مضى، عندما كان القرطاجيون يعبدون "تانيت"، آلهة الخصب والأمومة، كانت حقول تونس وسهولها تجود بأحسن أنواع الحبوب والكروم والزيتون، حتى أن الرومان عندما أحكموا سيطرتهم على البلاد سمّوها
2015-03-05

حفاوة ربحي

صحافية من تونس


شارك
أسماء وحادة - تونس

هي حسناء خضراء العينين تلبس ثوباً خِيط من السندس وأوراق الريحان والزيتون. هكذا ترتسم تونس في خيال الأدباء والشعراء والفنانين. جلهم اعتبروها آيةً من آيات الخصب والنماء وتغنوا بنضارتها عبر العصور. ففيما مضى، عندما كان القرطاجيون يعبدون "تانيت"، آلهة الخصب والأمومة، كانت حقول تونس وسهولها تجود بأحسن أنواع الحبوب والكروم والزيتون، حتى أن الرومان عندما أحكموا سيطرتهم على البلاد سمّوها "مطمور روما" أي مخزنها الذي يفيض بأطنان من القمح والشعير. وفي العصور الوسيطة، أبدع سكان تونس في علوم الزراعة وهندسة الري، فشيّدوا السدود والنواعير والخزانات الأرضية التي ما زال بعضها قائماً إلى يومنا هذا، مثل "الفسقيات" التي بناها الأغالبة في مدينة القيروان في القرن التاسع الميلادي لتخزين مياه الأمطار واستعمالها وقت الحاجة.
أما في الأزمنة الحديثة، فما زار شاعر أو فنان تونس إلا وانبهر بجمالها ونضارتها. يجيء نزار قباني تونس الخضراء عاشقاً وعلى جبينه وردة وكتاب، وعندما يغني فريد الأطرش "تونس الخضراء" مطنباً في المدح والتقريظ، فلا غرابة إذاً أن يلتصق اللون الأخضر بتونس التصاقاً وألّا يُذكر اسمها في ربوع الوطن العربي إلا مردفاً بنعت الخضراء. كان هذا في الماضي عندما كانت مياه تونس وفيرة نظيفة.
أما الآن.. الآن تبدو تقارير علماء البيئة ودراساتهم حول الماء في تونس متجهّمة جافة. إذ تتوقع الأمم المتحدة أن تعاني تونس في أفق سنة 2025 من نقص حاد في المياه وأن لا يفي المخزون المائي باحتياجات البلاد من المياه الصالحة للشرب، حتى أن خضرة تونس في خريطة الدراسة الأممية استحالت إلى اللون الأحمر في دلالة على خطورة الوضع ودقته.
وتتفق الدراسات العالمية مع العديد من الدراسات والتقارير المحلية، وخاصة منها تقارير دائرة المحاسبات. ففي تقريرها لسنة 2014، ركزت هذه الهيئة الرقابية المعنية بحسن التصرف في موارد الدولة على منظومة معالجة المياه المستعملة واستغلالها، فكانت نتائج الدراسة مفزعة. إذ أن 90 في المئة من المناطق الريفية لا تتمتع بخدمات التطهير شأنها في ذلك شأن 99 من جملة 264 من المناطق البلدية التي لا تشملها خدمات الديوان الوطني للتطهير. وفسر مستشارو الدائرة هذه الوضعية الخطيرة بـ "تقادم محطات التطهير وشدّة تلوث المياه الصناعية الوافدة عليها".
كما بين تقرير دائرة المحاسبات أن نسبة المؤسّسات الصّناعيّة التي تسكب مياهاً مستعملة غير مطابقة للمواصفات قد بلغت 74 في المئة العام 2011. وأرجع التقرير كثرة التجاوزات إلى محدوديّة رقابة الدّيوان الوطني للتّطهير التي لم تتعدّ 20 في المئة في سنة 2011. إلى جانب ذلك، ساهمت محدودية تطبيق الأحكام القانونيّة على المخالفين في تردي الوضع، إذ لم تتعدّ المحاضر المحرّرة من قبل الدّيوان ضدّ المخالفين 4 في المئة ممّا هو مستوجب، وذلك إضافة إلى ضعف نسق إحالتها على المحاكم المختصّة.
لكن هذه التقارير والدراسات، على قتامتها وخطورتها، لا تفي الحقيقة حقها. وضع الماء في تونس مؤلم، وشأنه أضحى حيوياً الى حد يوجب أن يخرج من أوساط الخبراء والأكاديميين إلى فضاء الحوار المجتمعي الواسع، ليشمل الساسة والإعلاميين والفنانين. "قابس لاباس"، باللهجة الدارجة التونسية، أو "قابس بخير" بالعربية الفصحى، فيلم وثائقي يحكي حكاية موت بطيء. اختار المخرج السخرية اللاذعة ليروي قصة هي أشبه بالمرثية. فهذه الولاية (المقاطعة) الواقعة جنوب تونس ليست على ما يرام.
بدأت مأساة قابس في سبعينيات القرن الماضي، عندما أنشأت فيها الدولة وحدات صناعية لتحويل الفوسفات المنقول من ولاية قفصة المجاورة. استبشر السكان في البداية خيراً، لكن مصانع الفوسفات تحولت إلى لعنة، تُلوِّث الهواء بما تنفثه من غازات سامة، وتسمم مياه البحر والتربة بالمخلفات. وقد انتشرت الأمراض الجلدية والسرطانية والتنفسية، وعلى مر السنين تزايدت حيرة السكان الذين أعياهم الاحتجاج والمطالبة بحقهم في بيئة سليمة ومياه نظيفة. بعضهم تحدث إلى مخرج "قابس لاباس" فخانتهم الكلمات، واغرورقت عيون بعضهم الآخر بالدموع وهم يتذكرون جمال واحة قابس الغنّاء قبل أن تحل عليها لعنة الفوسفات.
واحة قابس هذه شاطئية فريدة في العالم، تجمع بين رطوبة البحر وعذوبة المياه الجوفية التي تغذّيها. وكانت في ما مضى من أجمل الأماكن في تونس، أما الآن فقد جفت عروقها وسلبتها ماءها المصانع التي تستخدم كميات هائلة من المياه لغسل الفوسفات. وجفّ نخيلها ونباتها. فهل من يغيث الواحة العطشى ويبعث فيها الحياة من جديد؟

 

للكاتب نفسه

نساء تونس وأمهات المعارك

حفاوة ربحي 2014-03-09

في حوالي الواحدة بعد الظهر من يوم 9 كانون الثاني/ يناير 2014، وبعد لحظات احتبست فيها الأنفاس، اهتزت أرجاء المجلس الوطني التأسيسي بهتافات النصر وهتفت حناجر أغلب النواب التونسيين وممثلي...

نساء تونس وأمهات المعارك

حفاوة ربحي 2014-03-05

في حوالي الواحدة بعد الظهر من يوم 9 كانون الثاني/ يناير 2014، و بعد لحظات احتبست فيها الأنفاس، اهتزت أرجاء المجلس الوطني التأسيسي بهتافات النصر وهتفت حناجر أغلب النواب التونسيين...