في حوالي الواحدة بعد الظهر من يوم 9 كانون الثاني/ يناير 2014، وبعد لحظات احتبست فيها الأنفاس، اهتزت أرجاء المجلس الوطني التأسيسي بهتافات النصر وهتفت حناجر أغلب النواب التونسيين وممثلي المجتمع المدني في شرفة القاعة بالنشيد الوطني. كانت كل العيون التي أدمع بعضها فرحا متجهة نحو الشاشتين اللتين ٱارتسمت عليهما نتائج التصويت النهائي على الفصل الذي يكرس حقوق المرأة. 24 نائبا متحفظا و43 رافضون، لم يتمكنوا من غلبة 127 نائبا أيدوا ما سيصبح الفصل السادس والأربعين من دستور الجمهورية التونسية. إنه الفصل الذي بمقتضاه "تلتزم الدولة بـحماية الحقوق المكتسبة للمرأة وتعمل على دعمها وتطويرها". وتضمن "تكافؤ الفرص بين الرجل والمرأة في تحمل مختلف المسؤوليات وفي جميع المجالات". وتسعى "إلى تحقيق التناصف بين المرأة والرجل في المجالس المنتخبة". و"تتخذ التدابير الكفيلة بالقضاء على العنف ضد المرأة".
معركة الدستور
بعد أيام قليلة من التصويت على هذا الفصل، أكمل النواب التصويت علي بقية الفصول، ثم صادقوا في 26 كانون الثاني/يناير 2014 على الدستور برمته، بأغلبية 200 من أصل 216 نائب. هلل العالم آنذاك للإنجاز التونسي وهنأ التونسيين والتونسيات بدستور يضمن طيفا واسعا من حقوق وحريات الإنسان، رجلا كان أم امرأة.
لكن جموع المهنئين لا يعلمون ربما أن الطريق نحو هذا الإنجاز كانت طويلة شاقة، تخللتها مطبات كثيرة ولحظات شك أكثر. ولعل أحرج اللحظات وأدقها تلك التي تعود إلى شهر أغسطس من سنة 2012. كان مشروع الدستور قد بدأ في التشكل داخل اللجان التأسيسية المكلفة بكتابة النص الدستوري. حاول عدد من نائبات ونواب الحزب الإسلامي الحاكم حينها تمرير مقترح تتكفل بمقتضاه الدولة "حماية حقوق المرأة ودعم مكاسبها باعتبارها شريكا حقيقيا للرجل في بناء الوطن ويتكامل دورهما داخل الأسرة". أحدث هذا المقترح الذي يغيب المساواة ويعوضها بمفهوم التكامل رجة داخل المجلس الوطني التأسيسي وفي جزء كبير من المجتمع التونسي. أطلقت النائبة سلمى المبروك، المنتمية إلى الكتلة الديمقراطية، عريضة على شبكة الإنترنت استهلتها كالآتي: "أنا امرأة تونسية. ولكن، قبل أن أكون امرأة أو تونسية، أنا إنسانة ومواطنة كاملة". وقع ما يقارب 28 ألفا على عريضة النائبة، ونزل آلاف آخرون من التونسيين والتونسيات للتظاهر في الشوارع وأمام أسوار المجلس الوطني التأسيسي منددين بالمقترح الذي يختزل المرأة في كونها مكملة للرجل. واستنفرت المنظمات الحقوقية والجمعيات النسوية للتصدي لما ٱعتبرته "تراجعا كبيرا وخطيرا عن مكاسب النساء التونسيات".
سقط المقترح تحت الضغط الشعبي الكبير وانتصر الدستور لحقوق المرأة التونسية. لكن المعركة لم تزل بعد في بدايتها. إذ ما إن تمت المصادقة على النص الدستوري، حتى تعالت من داخل المجلس أصوات تنادي بالتراجع عن اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة أو "سيداو" اختصاراً. كانت تونس قد صادقت على هذه المعاهدة الدولية سنة 1985 وقدمت تحفظات على بعض ما ورد فيها. ثم رفعت الحكومة بعضا من هذه التحفظات سنة 2011. ضد هذا الرفع بل وضد الاتفاقية برمتها، يتحرك اعضاء الأحزاب والتيارات الدينية. وهم يبررون رفضهم بـ"تناقض وثيقة الحقوق الدولية للنساء مع مقاصد الشريعة وخصوصيات الهوية العربية الإسلامية" في عدة نقاط أهمها حرية التنقل والسفر والمساواة التامة في الملكية وأمام القضاء، وحق المرأة في إعطاء نسبها لأبنائها، وفي الزواج من غير المسلمين، والمساواة في الميراث.
في الجهة المقابلة، يتمركز المدافعون عن اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، تحت لواء المنظمات النسوية ذات التوجه العلماني، وأبرزها الجمعية التونسية للنساء الديموقراطيات، ويعتبرون معاهدة سيداو "مهمة جدا لأنها تعطي الإطار العام والفهم الكامل لمسألة المساواة وعدم التمييز بين الرجال والنساء، منطلقة من مبدأ كونية حقوق الإنسان". وتعتقد أحلام بلحاج جازمة أن هذه الأطر لا تتجزأ وأنه "لا يمكننا أن نكون مع المساواة في الفضاء السياسي أو فضاء الشغل وأن نرفضها في الفضاء العائلي".
وتذهب هذه الناشطة النسوية إلى أن معارك نساء تونس على أرض الواقع أشمل من معركة التشريع والقوانين. وتعتبر أن أم المعارك هي تلك التي تخاض ضد تأنيث الفقر والخصخصة (الخصاصة).
الميدان
بعد سقوط نظام بن علي، تنقل فريق البحث التابع للجمعية إلى المدن الثائرة مثل تالة والقصرين والرقاب، وقام على مدى أشهر باستجواب عشرات من النساء والفتيات اللاتي وجدن صعوبة في الحديث عن العنف الجسدي والنفسي والجنسي الذي مورس عليهن. تضمن تقرير الدراسة الميدانية الذي نشر في أيلول/سبتمبر 2011، روايات مفزعة تراوحت بين القمع والظلم الاجتماعي والتهميش والإهمال التي تعاني منها هذه المناطق المنسية من تونس منذ أكثر من نصف القرن.
ولحق بالجمعية التونسية للنساء الديموقراطيات، "المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية" وهو من أبرز المنظمات التونسية المدنية التي تابعت قضايا عائلات الشهداء والجرحى، من خلال الدعم والمناصرة وتنظيم التظاهرات "ضد النسيان". عمل المنتدى منذ تأسيسه سنة 2011، على المناداة بإعادة الاعتبار لدور الدولة خاصة في مجال إعادة توزيع المداخيل والممتلكات والعناية بالخدمات العمومية مع توفيرها لكل الفئات. وأولى اهتماما خاصا بالاحتجاجات الاجتماعية، منطلقا من مبدأ "ضرورة عدم الفصل بين السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وإعطاء مكانة قصوى للحقوق الاقتصادية والاجتماعية بالتوازي مع الحقوق السياسية". أحاط أعضاء المنتدى في هذا الصدد باحتجاجات النساء العاملات المطالبات بظروف عمل لائقة، وبمحنة العائلات التي فقدت أبناءها المهاجرين خلسة. روت السيدة ربح بوثوري، وهي واحدة من آلاف الأمهات التونسيات اللاتي فقدن أبناءهن في البحر، بعضا من فصول معاناتها. هي تقطن بمنطقة شعبية وفقيرة من العاصمة، وقد بدأت محنتها يوم 22 آذار/مارس 2011. "إنه يوم لا ينسى"، غادر فيه إبراهيم، ذو العشرين ربيعا، بيت والديه وإخوته الستة. "كان حزينا بعد طرده من مصنع الجلود، أعطيته مبلغا من المال ليجتاز اختبار السياقة، لكنه رحل دون عودة". تسترجع الأم أنفاسها، لتشير إلى صورة بثتها قناة إيطالية يظهر فيها إبراهيم حيا رفقة عدد من رفاقه. تتشبث السيدة بهذه الصورة، كمن يتشبث بطوق نجاة. وهي تحيا إلى اليوم على أمل لقاء ولدها، وعلى أمل وطن أكثر عدلا.