علـى بعد بضعه كيلومترات غرب العاصمة تونس يربض سجن المرناقية ممتد الأطراف هادئا يكاد الواقف امام بوابته الزرقاء الحديدية يظنه مهجورا. فأسواره الحصينة لا تسمح بالكشف عن الحياة التي تسري في أرجائه، حيث ستة آلاف سجين ومئات من الأعوان الذين يقاسمونهم أيامهم الطويلة.
ولكن السجن- القرية، على اتساعه، ضاق مؤخرا بساكنيه، فقد بني ليستقبل خمسة الاف نزيل. إكتظاظ دفع العدد الإضافي الكبير، الحبيب السبوعي، مدير الإصلاح والسجون بوزارة العدل، الى التصريح مؤخرا بأنه "أصبح من الصعب علينا تامين احتياجات المساجين، ليس فقط في سجن المرناقية، بل في السجون الستة والعشرين الأخرى، وفي مراكز الإصلاح الستة". وتتوالى الأرقام على لسان هذا المسؤول الحكومي لتزيد من قتامة الصورة: ففي بنزرت مثلا يفوق عدد السجناء 356 سجينا فيما لا يتجاوز عدد الاسرة 262.
اما في سجن سوسة الذي تبلغ طاقة استيعابه 842 سريرا، فيعد من أكثر السجون اكتظاظا إذ يتجاوز عدد السجناء 1748 سجينا مما يضطر بعضهم الى تقاسم السرير نفسه مع سواه، وينام بعضهم الآخر على الأرض أو في الرفوف المخصصة للملابس. يبدو مدير السجون حائرا أمام هذا الوضع، وتتحول حيرته الى غضب عند الحديث عن الحلول. فأنىّ له أن يغير الوضع والميزانية المرصودة لإدارته لا تنفك تتقلص من سنة الى أخرى.
لا يكفي "النزر القليل" لإطعام المساجين والتكفل بصحتهم، ناهيك عن بناء فضاءات سجنية أخرى وترميم الاجنحة التي اتلفت واحرقت ابان الثورة. يؤكد الرجل بأن إدارته كانت قد طلبت من الحكومة سنة 2012 مبلغ 3 مليون دينار لشراء سيارات لنقل المساجين، لكنها لم تحصل الا على 800 الف دينار. الهوة بين المبلغين شاسعة ولعلها تعكس الفرق بين الموجود والمنشود في منظومة اهترأت بفعل الزمن والإهمال والفساد. فالمشاكل هنا ليست وليدة الثورة.
هناك واحد وعشرون ألف نزيل يقبعون حاليا في السجون التونسية.وللتذكير فعدد سكان تونس هو أكثر قليلا من عشرة ملايين نسمة. تشرح المحامية ليلى الحداد الموقف: نصف هؤلاء موقوفون على ذمة التحقيق في انتظار محاكمتهم. علاج ظاهرة الاكتظاظ يبدأ إذا بترشيد السلوك القضائي، والتقليل من إصدار بطاقات الإيداع. فالإيقاف التحفظي يجب أن يكون الاستثناء لا القاعدة. أما النصف الآخر، فيتكون جله من مساجين يقضون عقوبات قصيرة لا تتطلب في غالب الأحيان زجرا شديدا، إذ تكفي بعض التدابير البديلة كالتسريح بكفالة أو الخدمة العامة لردع المذنبين وتجنيبهم تجربة السجن التي يمكن أن تقودهم إلى جرائم أخرى، فيما يعبر عنه ب"ظاهرة العود".ظاهرة العود تعد ظاهرة العود من أكبر المعضلات التي تعاني منها السجون التونسية. فحتى آخر سنة 2011، فاقت نسبة المساجين العائدين ال 55 في المئة.
ولا توجد حاليا أي مؤشرات موضوعية لانخفاض انتشار الجريمة. ويقول مدير السجون والإصلاح بخصوص فئة المساجين العائدين "ان ظاهرة العود منتشرة بين المساجين الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و39سنة .في هذه الفئة ستة ألاف سجين محاكمون في قضايا متعلقة بالمخدرات وستة ألاف آخرون مسجونون على خلفية السرقة.
ان المتأمل لهذه الأرقام يستنتج أن شبابنا تائه بين الربح السريع والهروب من الواقع". التصدي لظاهرة العود يمر اذا عبر الإصغاء الى هذه الشريحة وتلبية متطلباتها من شغل وكرامة وعدالة اجتماعية. ولئن بدت هذه المتطلبات صعبة التحقيق على المدى القريب فثمة حلول مؤقتة من شأنها تحسين الأوضاع. روح المبادرةساهمت ثورة " 14جانفي 2011" في تحرير روح المبادرة لدى الشباب التونسي الذي انخرط في العمل المدني بنشاط وهمة، وظهرت عشرات الجمعيات وتنوعت اختصاصاتها، لتشمل التثقيف والتوعية ونشر روح المواطنة والعمل الإنساني، واختصت جمعيات أخرى في ملفات الإصلاح الكبرى، كإصلاح منظومة الأمن وإصلاح القضاء وإصلاح المنظومة السجنية.
فبعد أن كانت السجون فضاءات محكمة الإغلاق يمارس في دهاليزها التعذيب وسوء المعاملة، أصبح بإمكان ناشطي المجتمع المدني أن يدخلوها ليعاينوا أوضاعها، ويرفعوا تقارير عن زياراتهم الميدانية الى المصالح المختصة.
كما قامت العديد من الجمعيات بانشاء علاقات تعاون وثيقة مع مسؤولي السجون لصياغة برامج مشتركة تهدف الى تأهيل المساجين وإعادة إدماجهم في المجتمع.
واختصت جمعيات أخرى برعاية الفئات الهشة داخل السجن كالنساء والقصّر والأقليات العرقية والدينية. يثمن كريم عبد السلام، رئيس "جمعية العدالة"، هذه التجربة الفتية ولكنه ينتقد بعض نواقصها، فالزيارات يجب أن تكون فجائية والجمعيات مطالبة بمزيد من التنسيق بينها، وتبني مقاييس ووسائل أكثر مهنية، بينما هياكل الدولة مدعوة إلى المسؤولية والشفافية والرقابة الذاتية.
مواضيع
سجون تونس : واقع الفضاء، وآمال الإصلاح
مقالات من تونس
رئاسيات تونس 2024: "العبور" إلى أين؟
تعيش تونس اليوم مأزقاً جماعياً، يتمظهر أساساً في طبيعة العلاقة بين أضلاع مثلث العملية السياسية: سلطة لم تُظهِر إلى حد الآن قدرة حقيقية على تغيير الأوضاع نحو الأفضل، وتُصر على...
القانون الجديد لعِطل الولادة والأمومة في تونس: مكاسب ونقائص وحسابات
عطل الولادة والأمومة في تونس، قبل اصدار القانون الجديد، كانت من بين الأقصر مدة في المنطقة، ولا ترتقي إلى الحد الأدنى الذي وضعته "منظمة العمل الدولية"، كما أنها تميّز بين...
تونس: قطار "الجمهورية الجديدة" يسير على السكك القديمة
سيتكرر هذا المسار الطويل والمعقد من الانتخابات والقرعة كل بضع سنوات، على الرغم من أن السواد الأعظم من التونسيين هجروا مراكز الاقتراع. حوالي مليون تونسي فقط (من جملة أكثر من...
للكاتب نفسه
الفلاحة في تونس بين التبعية والقرار المستقل
حذف خط الباحث الفلاحي وإلحاقة برتبة مدرس باحث، بالإضافة إلى أنه يدل على تقديم وتفضيل التدريس على البحث الزراعي، إنما هو عارض من أعراض علة مزمنة تغلغلت في أوصال الفلاحة...
تونس الخضراء عطشى
هي حسناء خضراء العينين تلبس ثوباً خِيط من السندس وأوراق الريحان والزيتون. هكذا ترتسم تونس في خيال الأدباء والشعراء والفنانين. جلهم اعتبروها آيةً من آيات الخصب والنماء وتغنوا بنضارتها عبر...
نساء تونس وأمهات المعارك
في حوالي الواحدة بعد الظهر من يوم 9 كانون الثاني/ يناير 2014، وبعد لحظات احتبست فيها الأنفاس، اهتزت أرجاء المجلس الوطني التأسيسي بهتافات النصر وهتفت حناجر أغلب النواب التونسيين وممثلي...