يدور جدل في السنوات الأخيرة بيني وزملاء في الاقتصاد السياسي والتاريخ الفلسطيني حول العلاقة بين اتجاهات التكوين الطبقي الفلسطيني (خاصة في الأراضي المحتلة في العام 1967) وإمكانيات مواصلة عملية التحرر الوطني.
وفي الفترة التي بدأتُ في دراسة هذه المعضلة، كانت تجربة "بناء الدولة" الفلسطينية، واعتماد السياسات الاقتصادية التحريرية في قمتها، كما اندلعت في العام 2012، ولأول مرة، احتجاجات شعبية منددة بتلك السياسات وبالاتفاقيات الاقتصادية مع إسرائيل، في ظاهرة مصغرة لربيع فلسطيني. وهي امتدت من الحركة الشبابية وانتهت بتراجع السلطة الفلسطينية عن بعض إجراءاتها الضريبية والتقشفية، ثم باستقالة مهندسها الأول سلام فياض من رئاسة الوزراء. التوقعات كانت صحيحة في تلك الفترة بالنسبة لانسداد الطريق أمام صنّاع القرار الاقتصادي لتحقيق المزيد من التحرير التجاري والاقتصادي. لكن، وعلى ضوء الفشل في تجربة فرض وجود الدولة الفلسطينية من خلال التحسين في الأداء الاقتصادي والحكم الرشيد ونشر ثقافة ليبرالية، فلعل الأمل لم يكن ربما بمحله بخصوص التناقض الحتمي بين مصالح امتداد رأس المال والتكوين الطبقي المناسب له من جهة، ومن جهة ثانية الضرورة الشعبية بمواصلة وتجديد نضال التحرر الوطني الذي أجّلته اتفاقات أوسلو ونهج العملية السلمية الأبدية.
أي أنه رغم التفاؤل بأن يعيد رأس المال الفلسطيني حساباته بالنسبة للربح والخسارة الناتجان عن تماديه بالسلام الاقتصادي الذي يهيمن على العلاقات مع إسرائيل، وعلى عقلية نظام الحكم والنخب السياسية والاجتماعية ــ لأن ذلك لا يمكن أن يصبح بديلاً مقبولاً عن التحرير ــ فإن سجل السنوات الماضية لا يدل على مثل هذا الاستدراك. لم تظهر حتى الآن في تشكيلة رأس المال الفلسطيني (الخاص والعام، الصغير والكبير، المحلي والوافد) أو في الطبقة الوسطى المتحالفة معه، أية شريحة قائدة مستعدة لوضع ثقلها في معركة التحرر الوطني إلى جانب القوى المقاومة للاحتلال، من طلاب وشباب وعاطلين عن العمل وأبناء قرى ومخيمات.. وغيرها من الطبقات الكادحة التي تدفع أكثر من غيرها من فئات الشعب بالدم والأرواح أغلى الأثمان في المواجهة المتواصلة مع الاحتلال.
من المؤكد أن ما تم استثماره خلال السنوات الماضية في العقارات والمنشآت الصناعية والتجارية والخدمية والاستهلاك الخاص والمديونية الأسرية ليست بالقليل، وأن ما تم تكوينه من طبقة وسطى جديدة من الموظفين الحكوميين وذوي الدخل المتوسط، لها مصالح قوية في الحفاظ على الوضع القائم. هذه الحقائق وغيرها، تشكل عقبة فعلية أمام بلورة حالة نضالية جماهيرية وميدانية تتحدى الهيمنة الإسرائيلية الاستعمارية أو تغيِّر من موازين القوى - أو على الأقل - تؤكد بأن النضال من أجل التحرر الوطني لن يخمد مهما كانت الإغراءات المادية، ومهما فشلت النخب والنظام الحاكم بتحقيق النصر، أيَّ نصر ملموس كان. لكن الهبّة المتواصلة والموت السريري لآمال أوسلو مع بقاء أهم إفرازاتها (السلطة الفلسطينية) على قيد الحياة، تشير إلى أن الخيار بين الثورة والدولة أو بين المقاومة والرضوخ، الذي أخفاه منطق أوسلو القائل بأن التفاوض مع القوة الإسرائيلية هو الخيار الوحيد، بقي مطروحا على الأجندة الفلسطينية. وعلى فئات وطبقات الشعب اختيار طريقها.
مرحلة التحرر الوطني
تسبق النضال الاجتماعي والطبقي؟
منذ أواخر الستينيات، عندما رفعت الفصائل الفلسطينية الماركسية أعلاماً حمراء من المآذن في الأردن، كان التيار العام لمنظمة التحرير الفلسطينية يصر أنه حتى الانتهاء من "مرحلة التحرر الوطني"، يجب أن يتم تأجيل المطالب الاجتماعية حفاظاً على الوحدة الوطنية. وفي المراحل الأولى من النضال ضد الاستعمار قبل العام 1948، كانت النخب القومية التقليدية تعارض تعاظم نفوذ الحركات الاشتراكية والنقابية الفلسطينية التي وضعت على قدم المساواة المسائل الاجتماعية والنضال الوطني ضد الاستعمار. لكن كيف يمكن أن تظل فلسطين محصنة ضد عدوى التغيير بين الأجيال التي تجتاح المنطقة، رغم تحويل معظم زخمها إلى صراعات طائفية دينية وعرقية/قومية؟ وهل تستطيع الحركة الثورية الفلسطينية الأصغر سناً والأقل صبراً والأكثر إلحاحا للعمل على التحرر من "القيادة الوطنية" المتقدمة بالعمر، أن يُترك لها وحدها تحديد جدول أعمال التغيير الاجتماعي ومناهضة الاستعمار؟
صحيح أن "الليبرالية المحدثة" سجلت لدى الفلسطينيين (في القلوب والعقول على الأقل) إنجازات خلال العقدين الأخيرين، في تحويل انتباه الرأي العام من الكفاح من أجل إنهاء الاحتلال إلى هموم التضخم والضرائب والمديونية والبطالة والفقر، وفي كسر العقد الاجتماعي الوطني التاريخي بين الحكم والشعب (بأن التحرير على مرمى حجر وأن التنمية حليفة الاستقلال الوطني). لكن مع اللهيب المتجدد للحركة الثورية الفلسطينية المقاوِمة للاحتلال، والفروقات الشاسعة الظاهرة بين الغني والفقير وبين الموظف والعامل المياوم وبين من يقطن ضواحي رام الله الراقية ومن يقبع في غيتوهات القدس العربية المهملة.. يظهر تكوين جديد للقوى الاجتماعية، يُفترض في أية حالة مماثلة (غير استعمارية) أن يمهد الطريق إلى مرحلة جديدة من المطالبة الاجتماعية والاقتصادية لنظام السلطة، وهي مطالبة ليست في نظر المواطن العادي أقل شرعية وإلحاحا من مقاومة الاحتلال، بل إنهما ربما نضالان موازيان ومتكاملان.
انطوى نجاح جميع تجارب التحرر الوطني العالمية على بناء تحالفات وتكوين "جبهات وطنية" بين مختلف القوى والطبقات الاجتماعية استمرت حتى الاستقلال، على الأقل. ولهذه التجارب أطرها النظرية، ابتداء من تأييد لينين لنضالات الشعوب الخاضعة للاستعمار لتقرير المصير والتحرر، مؤكدا على مصلحة البرجوازيات الوطنية في طرد الاستعمار وتحقيق السيادة الوطنية الاقتصادية. ثم استراتيجيات ماو تسي تونغ للتحالف مع القوى القومية الصينية، والتجارب الفيتنامية والأفريقية والعربية في بناء جبهات واسعة معادية للاستعمار ومناضلة في سبيل ــ وتحت إمرة ــ حركة التحرر الوطني. في غالبية التجارب، تولت طبقة "البرجوازية الوطنية" دوراً رئيسياً أو قيادياً في إدارة حركة التحرر وفي الانتقال من مرحلة الثورة إلى مرحلة الاستقلال والدولة، وذلك بحسب قوتها المحلية، ودرجة تواطئها مع الاستعمار الأجنبي، ومدى بروز التيارات التقدمية في صفوفها إلى جانب القيادة الشعبية الثورية. وعادة ما ضمنت لمصالحها الرأسمالية حصة كريمة في توزيع موارد و "غنائم" الوصول إلى السلطة بعد رحيل المستعمر.
لا تشكل حركة التحرر الوطني الفلسطينية استثناء لذلك التيار العالمي العام. ومن دون الخوض في كل جوانب التحالفات الاجتماعية التي ساندت الثورات ومقاومة الاستعمار خلال القرن الماضي، حصل تحول رئيسي مع انتقال قيادة الشعب الفلسطيني وحركة تحرره الوطني من طبقة الأعيان والنخب المدنية الاقتصادية والعائلية المدعومة بجماهير عمالية وفلاحية، إلى جيل جديد من اللاجئين وأبناء الطبقات الكادحة والمتوسطة، يحملون الفكر القومي والوطني والتحرري المنتشر في تلك الحقبة، ويمارسون بسواعدهم الكفاح المسلح. وأقام هؤلاء منذ الانطلاقة تحالفات مع فتات "البرجوازية الوطنية" (التاريخية والناشئة الجديدة) المنتشرة في أنحاء البلاد العربية وفلسطين. وعمل الجميع معاً في إطار منظمة التحرير ووفروا لها شرعيتها التمثيلية حتى فترة أوسلو على الأقل، وربما طوال عهد عرفات، حيث أدارت "الجبهة الوطنية" بمشاركة كافة أطيافها وطبقتها الرأسمالية "المُلك العام" والقرار السياسي على أرضية مشتركة ومصالح متبادلة ومبرر وطني. فمن "ضريبة التحرير" المفروضة على الفلسطينيين العاملين في الدول العربية، والتبرعات المتواصلة للثورة من أثرياء فلسطين، وصولاً إلى المحاصصة الكريمة في إدارة الريوع وتوزيع الامتيازات والاحتكارات منذ أوسلو بين السلطة وشركات كبرى.. كانت دفة حركة التحرر هي التي تحدد شروط وشكل مشاركة هذه الطبقة في الحكم وفي توزيع الموارد العامة والدخل القومي.
خيانة البرجوازية الوطنية
بعد التحرر الوطني.. وقبله؟
لكن في تحليل الكاتب الأفريقي المناهض للاستعمار، فرانز فانون، مؤلف "معذبو الأرض" (العام 1961)، فإن البرجوازية الوطنية في مراحل ما بعد التحرر الوطني خاصة، ليست سوى "طبقة وسطى وطنية" لها "مهمة تاريخية كوسيط" بين شعوبها والاستعمار. وتتضمن فئات ما يسميه فانون "البرجوازية التجارية والجامعية"، "الجيش والشرطة"، "البرجوازية الوطنية الشبابية"، "الحزب"، "الطبقة المتنفذة"، "البرجوازية الأصيلة"، "المثقفون النزيهون" و "برجوازية الخدمة المدنية". وفي رؤية فانون لهذه الطبقة الطفيلية غير المنتجة و "غير المفيدة عامة"، لا يوجد دور هام لا للصناعيين المحليين أو المهاجرين الذين يفتقرون إلى قاعدة تكنولوجية صناعية منتجة، ولا لرؤوس الأموال المالية التي تربطها علاقات دونية مع رأس المال العالمي، وبالتالي لها موقف معاد من حيث المبدأ تجاه مشروع التحرر الوطني، حتى ولو عقدت صفقات تحالفية معها في مراحل معينة.
ومع أن فانون كان يحلل أداء البرجوازيات الوطنية في الدول المستقلة حديثا، فما هو مثير في رؤيته للأمور (وما هو شبيه بالحالة الفلسطينية) هو وصفه "لخيانة" هذه الطبقة لأهداف التحرر الوطني في مرحلة ما بعد الاستعمار، بصفتها "طبقة متوسطة" (وليست طبقة رأسمالية برجوازية لها وعي وهوية مميزة). ومن بين صفاتها الطبقية: الاستعداد للتخلي عن الأهداف الاجتماعية والاقتصادية لمرحلة الثورة، التنافس على تولي الوظائف التي كانت تؤديها البرجوازية المتحالفة سابقاً مع الاستعمار، وعلى الموارد الوطنية وتوزيعها بين كوادر الحزب والأمن والنخب المتنفذة، بالإضافة إلى فقدانها للقوة الإنتاجية المحلية واندماجها الوثيق مع رأس المال الاستعماري والدولي.
ومع اكتفاء رأس المال الفلسطيني خلال العقد الماضي بتأسيس أسواق استهلاكية محلية لعقاراته ووارداته السلعية وخدماته الخلوية وتسهيلاته الائتمانية إلخ..، وبالتالي خروجه عن دوره التاريخي في سياق حركة التحرر الوطني، فثمة خطر حقيقي بأن يتحقق الآن في فلسطين ــ التي ما زالت في مرحلة ما قبل التحرر ــ سيناريو فانون لما بعد الاستقلال. أي أن تكون قد وصلت الثقافة والعقيدة الليبرالية إلى مرحلة من الهيمنة على المصالح الخاصة والعامة، وكأن التحرر والاستقلال تحققا فعلاً، بينما تمدد الاستعمار الاستيطاني على الأرض يحول دون "وطن" يمكن تحريره بالمفهوم الاعتيادي للتحرير.
طالما لا توظف هذه الطبقة نفوذها لصالح قضايا التحرر الوطني والتجديد الديموقراطي والمؤسسي، وفي دعم الصمود الشعبي في وجه الاحتلال، فإن المنطق القائل بضرورة تأخير التحرر الاجتماعي إلى ما بعد التحرر الوطني يفقد مصداقيته، مما يؤكد صواب إصرار بعض المحللين بأن البرجوازية الوطنية لا يمكن أن تتضمن "تياراً تقدمياً"، كما أنها ليست "وطنية" لأن مصلحتها تكمن في استمرار الوضع القائم وارتباطاتها التجارية والمالية تُبقيها أسيرة في "مصفوفة السيطرة" الاستعمارية على الاقتصاد المحلي. وكلما تفادت هذه الطبقة دورها التاريخي في إغاثة المنكوبين من شعبها وتمويل التنمية الغائبة وممارسة سياسة "المسؤولية الاجتماعية للشركات" إلى أبعد حدودها، واهتمت فقط بالأرباح وحماية استثماراتها وممتلكاتها وقروضها من أخطار امتداد المواجهات مع الاحتلال، ستتحقق اليوم، قبل التحرير، أسوأ الانحرافات في مسار حركات تحرر والدول المتحررة من الاستعمار المتمثلة بعدم تحقيق أهداف النضال الوطني "بتحرير الأرض والإنسان".
ليست في الوضع الاقتصادي أو النظام السياسي الفلسطيني في نهاية العام 2015، و بعد 70 سنة من انطلاقة عصر التحرر الوطني العالمي أية بشرى سارة من فلسطين، سوى أن أي وهم متبقٍ قد تبدد حول إمكانية إنهاء الاحتلال وبناء الدولة وتحقيق السيادة بالتراضي واللطف ودون انتزاعها قسراً، وأن الغالبية الساحقة من المواطنين، الميسورين والمحرومين والمنتفعين منهم على السواء، باتوا يعرفون أن لا قيمة للرفاه الشخصي دون الثراء المجتمعي، وأن السلام الاقتصادي لا يمكن أن يكون سوى بديل مؤقت ومرحلي عن تحقيق السلام العادل والحقوق الفلسطينية، الوطنية والاقتصادية الاجتماعية على حد سواء.