في عصر التحرر الوطني.. صعود الفكر والممارسة الاقتصاديين الفلسطينيين وسقوطهما

يمكن تحديد مراحل متميزة عدّة لتطور مفهوم «القطاع العام» الفلسطيني ذي الهوية الاقتصادية والاجتماعية المتميّزة وكذلك لأداء القيادة الفلسطينية في رعاية مهامه ووظائفه.إغواء الاشتراكية العربية في ستينيات القرن العشرينفي فترة ما بعد 1948، وعلى الأقل حتى بداية حركة المقاومة المسلّحة في 1965، عاودت النخبة الفلسطينية الثقافية والاقتصادية الظهور
2014-09-24

رجا الخالدي

باحث في التنمية الاقتصادية الفلسطينية


شارك

يمكن تحديد مراحل متميزة عدّة لتطور مفهوم «القطاع العام» الفلسطيني ذي الهوية الاقتصادية والاجتماعية المتميّزة وكذلك لأداء القيادة الفلسطينية في رعاية مهامه ووظائفه.

إغواء الاشتراكية العربية في ستينيات القرن العشرين

في فترة ما بعد 1948، وعلى الأقل حتى بداية حركة المقاومة المسلّحة في 1965، عاودت النخبة الفلسطينية الثقافية والاقتصادية الظهور (خصوصاً في المنافي) أو بناء نفسها من الصفر في أعقاب النكبة وصدمة المنفى. كان كثير منها منجذباً إلى مختلف تيارات القومية العربية أو الشيوعية، ولذلك لم يكن الفكر الوطني التحرري الفلسطيني يحظى بالشعبية آنذاك.
وبالنسبة إلى أولئك الفلسطينيين المشردين الذين كانوا يطمحون إلى العودة والتحرر، وتنظّموا من أجلهما، بدت نماذج الدولة التنموية التي أعلنها مختلف أنصار «الاشتراكية العربية» قابلة للحياة سياسياً وعادلة اجتماعياً في السياق العربي ما بعد الاستعمار وفي التجارب الموازية لكثير من البلدان في العالم النامي. وكان يوسف عبد الله الصايغ، الاقتصادي الفلسطيني البارز في ذلك الجيل، قد أكّد في واحدة من مساهماته المبكرة في الفكر الاقتصادي العربي (وهي عبارة عن كتاب نُشر في العام 1961 عنوانه «الخبز مع الكرامة») إمكانية قيام البلدان المستقلة حديثاً بمثل هذا الدور. أمّا بالنسبة إلى آخرين ممن اكتفوا بإعادة بناء سبل معاشهم في المنفى من خلال الاندماج في المملكة الأردنية الهاشمية أو العمل في دول الخليج العربي، فلعلّ ثمار الرأسمالية كانت بمثابة ترياق لما تنطوي عليه خسارة الوطن من ألم واغتراب. ولا عجب في أن أكثر الرأسماليين الفلسطينيين نفوذاً (وإثارة للريبة وسوء الفهم) هذه الأيام، آل المصري وشومان والخوري والصبّاغ والعقّاد، ينظرون إلى استثماراتهم في فلسطين من زاوية «العودة» و«الوطن» لا من زاوية الربح والخسارة فقط.

تمويل الثورة في سبعينيات القرن العشرين

بعد ظهور حركة المقاومة المسلحة المتمركزة في الأردن وسوريا ولاحقاً في لبنان، أصبح تمويل جناحيها العسكري والسياسي وإدارتهما المالية مهمة رئيسة لفتح وفصائل منظمة التحرير الفلسطينية. وشهدت سبعينيات القرن العشرين قيام أولى المشاريع الاجتماعية والصناعية المولّدة لفرص العمل والتي أدارتها فتح وموّلتها، بدءاً من الأردن. وكانت الحاجة إليها قد جاءت أساساً من ضرورة النهوض بالمسؤوليات الاجتماعية المتنامية التي أخذتها على عاتقها قيادة سياسية سعت إلى تعبئة موارد الشعب الفلسطيني وتنظيمه في كلّ مكان في صراعها مع إسرائيل بعد معركة الكرامة في الأردن العام 1968. وأدت «مؤسسة الشؤون الاجتماعية» التابعة لفتح دوراً متنامياً في تقديم مخصصات الضمان الاجتماعي إلى أسر الشهداء والأسرى (وهذا الأمر متواصل إلى اليوم، وتشمل عشرات الآلاف من الأسر في فلسطين وخارجها)، وراحت لاحقاً تقدّم الخدمات التعليمية والصحية وغيرها لأبناء الشهداء. ولعلّها كانت أول هيئة تابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية يُطلَق عليها اسم «المؤسسة».
بعد اقتلاع منظمة التحرير الفلسطينية من مخيمات الأردن لتنغرس في مخيمات لبنان، جرى استكمال وظائف الرعاية الاجتماعية بالأنشطة الاقتصادية. وركّزت هذه الأنشطة على تأمين مزيد من أشكال الإمداد الفعّالة غير المكلفة والمعتمِدة على الذات وتقديمها لإدارة منظمة التحرير الفلسطينية، فكان التدريب المهني وتوفير فرص العمل لقوة العمالة الموجودة في المخيمات وتمويل بعض أنشطتها الأخرى. وكانت صامد («جمعية معامل أبناء شهداء فلسطين») المشروع الأبرز في هذا الصدد. وإلى جانب التشجيع على التعبئة الشعبية من خلال المنظمات الجماهيرية، كاتحادات العمال والطلاب والكتّاب والمهندسين والأطباء والنساء (وغيرها)، شُجِّعَت أيضاً أشكال إضافية من الاهتمامات والمبادرات الاجتماعية - الاقتصادية، مثل التعاونيات الاستهلاكية والإنتاجية ومشاريع الإنتاج المنزلي المعتمِدة على الذات في المخيّمات (كالتطريز، والحرف اليدوية، وإعداد الطعام)، ناهيك عن تقديم الخدمات الثقافية والتعليمية والاجتماعية. وقد أَثْرت مراكز منظمة التحرير للأبحاث والمعلومات والتخطيط في بيروت مشهد «مؤسسات الدولة» بنشرها الكتب والمجلات التقنية/الأكاديمية ومواد الدعم التي شملت تغطية للأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية الفلسطينية داخل فلسطين وخارجها من جميع أوجهها.

دعم الصمود في الأراضي المحتلة في ثمانينيات القرن العشرين

ما إن أُبعدت منظمة التحرير بعد العام 1982 في الفيافي العربية، مزيداً من الإبعاد عن قرى الشعب الفلسطيني ومدنه ومخيمات لاجئيه، حتى بات من الضروري إعادة اختراع مشروعها الاقتصادي من جديد. وهذا ما دعت إليه أسباب عملياتية (تمويل) وكذلك لانفصال قيادة المنظمة وقواتها المسلحة عن قاعدتها الشعبية للمرة الأولى خلال عشرين عاماً من وجودها. وقد رافقت هذا التحوّل إعادة تموضع بؤرة التركيز السياسية والديبلوماسية الفلسطينية من مخيمات الشتات إلى المناطق المحتلة، وكذلك إلى أراضي 1948. وسرعان ما استؤنفت العمليات العسكرية الفلسطينية ضد إسرائيل من خارج فلسطين وداخلها، معرّضةً جميع نشاطات المنظمة أينما وجدت إلى إجراءات الانتقام والردع الإسرائيلية.
مع ذلك، وقبيل اندلاع الانتفاضة الأولى، وضعت المنظمة برنامجها الأول لـ«دعم صمود الشعب الفلسطيني داخل الأراضي المحتلة». وهذا التحوّل في الاهتمام من التجمّعات الفلسطينية في سوريا ولبنان والأردن التي لم تعد المنظمة قادرة على التفاعل معها، إلى فلسطينيي الأراضي المحتلة وإسرائيل، كان نوعاً من إعادة رسم استراتيجية للوجهة السياسية. لكن ذلك وفّر للمنظمة فرصة ترجمة رؤيتها الوطنية الاقتصادية، من الظروف التجريبية والخاصة التي صاغت تلك الرؤية في لبنان إلى مشاريع/برامج ملموسة تستهدف الحاجات الاجتماعية والاقتصادية الأساسية للفلسطينيين المقيمين تحت الاحتلال. وقد أُقِرّ هذا البرنامج (الذي أعدّه اقتصاديو فتح ومخطّطوها بصورة أساسية) في مؤتمر القمة العربية الذي عقد في بغداد في العام 1978 تحت عنوان «الصمود والمقاومة»، وموّلته الدول العربية (جزئياً) في السنوات اللاحقة. كما أُنشئت لجنة فلسطينية - أردنية لتقدّم ما يقارب 500 مليون دولار من التمويل العربي (أقل من نصف المبلغ المُتَعَهَّد به) على مدى عشر سنوات لمجموعة واسعة من المشاريع السكنية والزراعية والصناعية والبحثية والثقافية والتعليمية والصحية في جميع أنحاء الأراضي المحتلة بما فيها القدس، وغالباً ما كان يتمّ ذلك على شكل قروض ميسّرة. وقد أمدّ ذلك كثيراً من التجمّعات بشريان حياة مهم، وكان أداة حماية للمصالح الأردنية ومصالح منظمة التحرير الفلسطينية عكستها اللجنة الأردنية/الفلسطينية الأردنية المشتركة.
كانت اللجنة الفلسطينية - الأردنية محطّ أول «معونة تنموية» منظّمة ومنهجية وموجَّهة مهنياً، تُقدّم للشعب الفلسطيني. وخلافاً لتدفقات المعونة الدولية اليوم (و80 في المئة منها عبارة عن مدفوعات محوَّلة للمساعدة في تغطية الرواتب وعجز الميزانية)، كان تمويل اللجنة الفلسطينية الأردنية يذهب بأكمله إلى مشروعات وبرامج ملموسة، وإلى بناء المؤسسات وتطويرها بالمعنى الواسع لهذا المصطلح. وفي هذه الفترة ذاتها، أُطلقت أولى برامج وأفكار التنمية الفلسطينية الشعبية في الأراضي المحتلة مع «مؤتمر الصمود من أجل التنمية» (1982)، ومع سلسلة من الدراسات الاقتصادية والاجتماعية، ما قدّم دليلاً آخر على تزايد تركيز النضال الوطني الفلسطيني ـ في فترة ما بعد بيروت ـ على الحفاظ على أرض فلسطين وشعبها ومواردها بوسائل غير عسكرية، بل بتعبئة جماهيرية لم يسبق لها مثيل تحت راية التنمية والصمود.

النص باللغة الانكليزية على موقع مجلة "جاكوبين" الأميركية 

مقالات من فلسطين

خالدة جرار مسجونة في قبر!

2024-11-21

"أنا أموت كل يوم، الزنزانة أشبه بصندوق صغير محكم الإغلاق، لا يدخله الهواء. لا يوجد في الزنزانة إلا دورة مياه ونافذة صغيرة فوقه أغلقوها بعد يوم من نقلي إلى هنا...

اقتصاد البَقاء: الدّلالةُ والمفهوم في ظلّ حرب الإبادة

مسيف جميل 2024-11-17

لا توجد جدوى للصمود، ما لم يرتبط بالتصدي للاحتلال. استخدم المانحون "الصمود" كإطار جديد، يتماشى مع المرحلة الفلسطينية، ويراعي المشاعر الفلسطينية والحس الوطني السياسي، وكأن التنمية تحدث بتسمية وتبنِّي مصطلحات...

كلّ ما يتحدّى اكتمال الإبادة..

صباح جلّول 2024-11-10

شبعت أعين العالم أكلاً في مأساة غزّة. لن تغيِّر صور الموت ما لم يغيّره الموت نفسه. لذلك، فهذه هنا صور لقلبٍ ما زال ينبض، لملمناها من صور شاركها الصحافي يوسف...

للكاتب نفسه