لطالما وجدتُ تسليةً في إشارة خطاب التنمية الرسمي الفلسطيني والدولي إلى «الدور الريادي للقطاع الخاص» في فلسطين. لأن ذلك يفترض مسبقاً وجود (وربما تهديد) «قطاع عام» بالمعنى التقليدي للكلمة، حيث تمتلك الدولة مؤسسات اقتصادية أو تجارية أو مرافق عامة وتقوم بتشغيلها.
لكن الاقتصاد الفلسطيني كان على الدوام ولا يزال برمّته اقتصاد قطاع خاص، ولذلك يبدو هذا المصطلح أشبه بإشاعة كاذبة. كانت تسعينيات القرن العشرين قد شهدت كثيراً من البحث عن الريع وبعض محاولات لإدارته من خلال احتكارات عامة ومشاريع تجارية حللها مشتاق خان على أنها استراتيجيات عرفات العقلانية لمواجهة «الاحتواء اللامتكافئ» الذي أطلقته إسرائيل.
لكن المنظمة دخلت المشهد بعد إفلاس 1993 معتمدة بشدّة على إمكانيات إدارة الريع المحدودة وبعض الإيرادات العامة من التجارة والضرائب التي تتوسطها إسرائيل، فضلاً عما تلطفت به الجهات المانحة بعد أن ركّعت الانتفاضة الثانية منظمة التحرير. والحال، أن الأمر الأول لصندوق النقد الدولي في عام 2001، كان إنشاء آليات جديدة لقطع ما تبقى من مصادر الدخل غير المسجلّة التي نجح عرفات في الحفاظ عليها حتى في إطار معاهدة أوسلو، وخصخصة ما تبقى من أصول وريوع تديرها منظمة التحرير الفلسطينية.
رؤية منظمة التحرير..
حتى اوسلو
ربما كان البحث عن قطاع عام فلسطيني في مرحلة ما بعد أوسلو أمر عقيم. ولكن إلى أي مدى كان هدف ما قبل 1982 الرامي إلى إقامة «اقتصاد وطني» و«قطاع عام متحرر من البيروقراطية» يعكس رؤية وطنية للمستقبل، ضبابية بعض الشيء، على النحو الذي عبر عنه خليل الوزير حين رأى أنّ أهمية ما تقوم به صامد تكمن في «العمليات الإنتاجية التي أخذتها على عاتقها والتي تساعد في الحفاظ على المهارات الإنتاجية لشعبنا وفي تدريب المزيد منهم على تقنيات الإنتاج الحديثة، وأنَّ فلسطين التي نحلم بها سوف تعتمد على موارد شعبها وقدرتهم على إعادة بنائها»، أم أنَّ مثل هذه البلاغة تتعلق بطبيعة المشروع الاقتصادي الذي كان قائماً في ظروف بيروت، حين كان مسار التحرر الوطني الذي شرعت فيه المنظمة لا يزال غالباً، وكان لا يزال على إغراء السلطة والمال وحياة الرخاء أن توقع في حبائلها قادة المنظمة وكوادرها الهرمين والمتعبين والمخفِقين؟
منظمة التحرير الفلسطينية، على الرغم من جميع إنجازاتها المحدودة إنما المنسية على نحو متزايد، وجميع إخفاقاتها المعروفة في بناء مؤسسات اقتصادية في لبنان وأماكن أخرى، حافظت خلال الانتفاضة الأولى، وحتى أوسلو، على وفائها لنموذج التحرر الوطني حيث القطاع العام الرائد والسياسات الاجتماعية/الاقتصادية التي تلبّي حاجات جماهير الشعب الفلسطيني الواسعة. قد يرى مشككون اليوم أن التمسّك بتلك الرؤية الاقتصادية كان سطحياً ويهدف إلى البقاء السياسي في تلك الظروف أكثر مما يهدف إلى الإحكام الأيديولوجي أو الفكري، خصوصاً حين تمّ التخلي عنه فجأة في تسعينيات القرن العشرين.
بغض النظر عن العوامل الداخلية والخارجية التي ساهمت في السقوط السريع لأيديولوجيا القطاع العام التنموية، خصوصاً مع إفلاس منظمة التحرير الفلسطينية المالي الذي فرضته الدول العربية في أعقاب حرب الخليج الأولى، والانهيار النهائي للنظام الاشتراكي السوفياتي، فإنّ سجل بناء مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية الاجتماعية - الاقتصادية في لحظة «السيادة» العابرة التي كانت تتمتع بها في بيروت حتى عام 1982، يستحق أن يُعرًف معرفة تاريخية على ما كان عليه وما جسّده من تقاليد. كما تجسّد تلك الحقبة أيضاً جوهر (وربما ليس شكل) نموذجٍ بديلِ للحكم الذاتي الذي نراه اليوم في رام الله، نموذج تتولى فيه السلطات العامة زمام المبادرة في بناء المؤسسات السيادية إلى جانب نضال التحرر الوطني، و ليس عوضاً عنه.
انطلاقاً من نقطة الأفضلية التي تحتلها رام الله واسترجاعاً للمسار الذي اتُّخِذَ لثلاثين عاماً منذ بيروت، وأهمّ من ذلك، المسارات التي سُلكت منذ أوسلو، ما الذي ينبغي على واضعي السياسات الفلسطينية وقادة منظمة التحرير الفلسطينية أن يستخلصوه عن نوع «الدولة» التي يستحقها الشعب الفلسطيني بعد سنوات طويلة من النضال الثوري والتحول الاجتماعي وبناء المؤسسات (إعادة بنائها ثم إعادة بنائها...)؟
"روح الثورة" ما زالت قائمة
من السذاجة أن نتوقع، بعد كل هذا القدر من استنزاف مفهوم القطاع العام الفلسطيني، أن يلاقي أي تغيير في السياسات الاقتصادية للسلطة الفلسطينية تأييداً من قيادة منظمة التحرير الفلسطينية وحركة فتح، على الأقل ضمن توازن القوى الاقتصادية والسياسية السائد في فلسطين.
ولا يعود هذا إلى أنّ الفكر والقيم النيوليبرالية باتا مقبولين، بل ومرغوب فيهما لدى النخبة الحاكمة، بل ودوائر السلطة الفلسطينية الواسعة من الطبقة المتوسطة. ولا يعود أيضاً إلى الدرجة التي بلغها استثمار رأس المال في التزامه بمشروع السلطة الفلسطينية في شكله الحالي. الأهم من ذلك، أن أجندةً اقتصادية اجتماعية وطنية تفترض مسبقاً حركة تحرر وطنية وكفاح تحرر وطني، الأمر الذي لا يزال معلّقاً بـ«عملية سلام» لا تنتهي على الرغم من جميع النوايا والمقاصد. وما من دائرة فعلية في القيادة السياسية والرأسمالية الفلسطينية اليوم لتحقيق مطالبة عرفات الخيالية باقتصاد فلسطيني مستقل وقطاع عام فلسطيني متحرر من البيروقراطية ومفعم بالعزيمة وروح الثورة.
والحال، إنّ هوية البديل لما نراه من تراجع مستمر في الفكر والممارسة الاقتصاديين التحرريين الفلسطينيين يمكن أن توجد لا في بعض المراحل السابقة من التاريخ والممارسة، على النحو الذي رسمنا خطوطه العريضة فحسب، بل أيضاً في بعض علامات الحياة التي لا تزال قائمة في تراث اقتصاديات الصمود الذي كان ذات مرة السردية الفلسطينية الوحيدة، خصوصاً في التجارب الشعبية على أرض فلسطين. وفي حين يبقى حتى إعلان منظمة التحرير مؤخراً عن إنشاء مزمع لشركة نفط وغاز «وطنية» منسجماً مجازياً مع هذا التراث، فعلينا أن نرى ما إذا كان منصب «القَيِّم على الخير العام» الذي اتخذته مؤخراً الذراع الاستثمارية لمنظمة التحرير الفلسطينية، أي صندوق الاستثمار الفلسطيني (PIF)، أكثر من مجرد إبهار للجمهور.
تبقى «روح الثورة» الفلسطينية قائمة، تدلّ عليها اليوم أمثلة عديدة من «المقاومة الاقتصادية» وصمود التجمعات الفلسطينية في المنطقة «ج» من الضفة الغربية، واستمرار وجود اقتصاد فلسطيني مميز في القدس الشرقية المحاصرة، وبقاء مجتمع مؤلّف أساساً من أهل الريف والفلاحين واللاجئين على امتداد فلسطين، وأبعاد أخرى من صمود الخير التنموي العام الفلسطيني، على الرغم من التقدم العنيد للرأسمالية الليبرالية تحت الاحتلال. لم تظهر هذه الظواهر المتباينة حتى الآن بصورة متماسكة تعزز الدفاع عن دولة فلسطينية تنموية، كما لا يمكن إغفال الحاجة إلى تمكين الدور المؤثر حتماً (والكامن) لرأس المال الفلسطيني الخاص والعام، أو اعتبار ذلك ضرب من الإيمان الساذج بـ«الجناح التقدمي للبرجوازية الوطنية".
النص باللغة الانكليزية على موقع مجلة "جاكوبين" الأميركية