قطارات الفقراء... المصريون على دروب الموت

عبّر الرئيس المصري في خطاب له في العام 2019، عن عدم مقدرته إنفاق 10 مليار جنيه على ما يحتاجه مرفق السكك الحديد من تطوير. برر ذلك بأنه لا يحقق من الإيرادات سوى مليار جنيه في ظل إنفاق على تشغيله يفوق 4 مليار جنيه، مؤكداً أن الأكثر نفعاً في الوقت الحالي هو إيداع أموال التطوير في المصارف واستثمارها.
2021-05-02

رباب عزام

صحافية من مصر


شارك
تصادم قطارين بالقرب من الإسكندرية، آب/أغسطس 2017.

مزج أول

في العام 1851، وافق الخديوي عباس الأول على مشروع إنجليزي بمد أول خط للسكك الحديدية في مصر. وقّع الحاكم المصري عقداً مع روبرت ستيفنسن، بقيمة 56 ألف جنيه إنجليزي لإنشاء خط حديدي يربط بين القاهرة والإسكندرية بطول 209 كيلومترات. المبلغ كان ضخماً بمعايير ذلك الوقت، لكن أحداً لم يهتم، فالهدف من المشروع الجديد واضح ولا ريب فيه: خدمة المستعمر الإنجليزي، وتيسير طرق نقل بضائعه وجنوده عبر مصر إلى مستعمراته في الشرق والهند.

مزج ثان

في كانون الثاني/ يناير من العام الجاري، وقّعت الهيئة المصرية القومية للأنفاق، وشركة "سيمنز" الألمانية، عقداً لتنفيذ منظومة متكاملة للقطار الكهربائي السريع في مصر، بإجمالي أطوال تصل إلى ألف كيلومتر، وتكلفة إجمالية قدرها 360 مليار جنيه. وعلى الرغم من الفقر الطاحن في قرى مصر ونجوعها، إلا أن أحداً لم يهتم. فتنفيذ الخط الحديدي الذي سيربط العاصمة الإدارية الجديدة بمشروعات المستثمرين الجدد في كافة أرجاء مصر هو الهدف المنشود، وليس الفقراء.

مزج ثالث

عبّر الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في خطاب له في العام 2019، عن عدم مقدرته إنفاق 10 مليار جنيه على ما يحتاجه مرفق السكك الحديد من تطوير، برر ذلك بأنه لا يحقق من الإيرادات سوى مليار جنيه في ظل إنفاق على تشغيله يزيد عن 4 مليار جنيه، مؤكداً أن الأكثر نفعاً في الوقت الحالي هو إيداع أموال التطوير في المصارف واستثمارها.. بدلاً من تطوير قطارات خدمية لعموم المواطنين (1).

مزج رابع

منتصف يوم حار، القطار متجه بسرعة غير عادية على قضبان متهالكة إلى محطته التالية. كان الركاب المعتادون على ارتياده يومياً يجلسون في تململ راغبين في الوصول إلى مقاصدهم. دقيقةٌ فاصلة أوصلتهم إلى الموت المحقق. صرخات تحجرت في حناجر صائمة ودموع سقطت على وجوه فارقت الحياة. كان ذلك في القطار رقم 949 المميز، المتجه يوم 18 نيسان/أبريل الجاري من العاصمة القاهرة إلى مدينة المنصورة، شمال مصر. سقط على إثر انقلاب القطار 11 قتيلاً و98 مصاباً. هنا، وكما العادة، قررت النيابة العامة التحفظ على سائق القطار، وبضعة من الموظفين في الهيئة.

حصانة

منذ 26 آذار/مارس المنصرم وحتى تاريخ الحادث المذكور، وقعت خمسة حوادث للقطارات على طول الخطوط الممتدة بطول 9 آلاف و570 كلم، من شمال مصر إلى صعيدها، جميعها تحفظت فيها النيابة العامة المصرية على سائق القطار وبعض عمال المزلقانات، لكن لم توجه أية تهمة للمسؤولين عن القطاع.

شنّ إعلاميون ومغرّدون حملةً غاضبة ضد وزير النقل والمواصلات، مطالبين بإقالته. إلا أن الوزير الذي يتمتع بحصانة مضاعفة بسبب خلفيته العسكرية، لم يمسسه أحد بسوء، وسط تخوفات من ذكر اسمه، على الرغم من تكرار حوادث القطارات منذ توليه المنصب، عقب حادث "محطة مصر" في القاهرة العام 2019. غير أنه خرج ببيان صحافي لتهدئة الرأي العام، وأصدر قراره بإقالة رئيس الهيئة، وفي الوقت ذاته عينه كمستشار رسمي معني بشؤون السكك الحديدية، في تحد صارخ للمصريين.

حوادث متزايدة

على الرغم من التصريحات المستمرة بشأن محاربة الفساد الحكومي، وما يتعلق بضخ أموال واستثمارات ضخمة لإعادة تأهيل السكك الحديدية المصرية وإصلاحها، إلا أن الأمر على أرض الواقع لم يتخط إصلاح بضعة مزلقانات وممرات جانبية بين المحطات. وعلى الرغم من نفي عدد من البرلمانيين والإعلاميين الموالين للحكومة لتقارير مرتبطة صدرت بشأن حوادث وخسائر مفجعة خلال السنوات الست الأخيرة، إلا أن "الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء"، وهو جهة حكومية، أصدر تقريراً هاماً في نهاية العام المنصرم أثبت فيه كذب ادعاءات الموالين للحكومة.

خلال الشهر الأخير، وقعت 5 حوادث للقطارات على الخطوط الممتدة بطول 9570 كلم، جميعها تحفظت فيها النيابة العامة على سائق القطار وبعض العمال، لكن لم توجه أية تهمة للمسؤولين عن القطاع. غير أن الحادث الأخير أجبر وزير النقل على إقالة رئيس هيئة السكك الحديدية. وبدلاً من تقديمه للمحاكمة، انتدبه في قرار إقالته ذاته لوظيفة مستشار الوزير لشؤون السكك الحديدية. 

التقرير تضمن تفاصيل حوادث القطارات منذ العام 2014 وحتى 2019، وأظهر أن واحداً من كل 1000 مواطن مصري تعرض لحادث قطار، وهو تقدير متوسط بالنسبة لعدد السكان، وفصّل في متنه عدد الحوادث التي وقعت، والتي بلغت 499 حادثاً في العام 2014، وتصاعدت إلى 1235 في العام 2015، ليرتفع المعدل إلى 1249 حادثاً في العام التالي له، وعلى الرغم من تصريحات ومؤتمرات رسمية تؤكد انخفاض أعداد الحوادث ونجاح الخطط المستمرة للتطوير، إلا أنه وفي العام 2017 ازدادت الحوادث إلى 1793 حادثة، وتصاعدت إلى 2044 حادثةً في العام التالي، وفقط العام 2019 شهد تراجع عدد الحوادث إلى 1863 حادثة.

وتعد مشكلة المزلقانات (منافذ على قضبان السكك الحديدية تُستخدم لعبور المشاة والسيارات وقت توقف القطارات)، والمقدرة بنحو 3100 مزلقان عشوائي، إضافة إلى 1332مزلقاناً رسميّاً، لكن معظمها ما زال يعمل يدوياً، وهي مشكلة رئيسة في حوادث القطارات المصرية. فالمزلقانات، والتي أسماها المواطنون بـ"مراكز الموت"، تصنف جميعها بأنها غير آمنة تماماً. فقد أُنشِئت وسط مناطق سكنية وزراعية، ولا توجد ممرات أو جسور لعبورها. وقدرت جهات رسمية أن 50 في المئة من نسبة الحوادث تقع خلالها، بينما يأتي سقوط القطارات على خطوط المسافات الطويلة، والخطوط الفرعية والقصيرة، وأيضاً في المخازن (أماكن لتخزين قطع الغيار والخردة الخاصة بالقطارات، وبعض العربات الجديدة التي ستدخل الخدمة أيضاً) في المرتبة الثانية من مسببات الحوادث، وأيضاً اصطدام القطارات بالمركبات على غير المنافذ، وحرائق القطارات في الترتيب التالي.

بلغ عدد الحوادث 499 حادثاً في العام 2014، وتصاعدت إلى 1235 في العام 2015، ثم 1249 حادثاً في العام التالي له. وعلى الرغم من تصريحات رسمية تؤكد انخفاض أعداد الحوادث ونجاح الخطط المستمرة للتطوير، إلا أنه، وفي العام 2017 ازدادت الحوادث إلى 1793 حادثةً، وتصاعدت إلى 2044 حادثةً في 2018، لتشهد تراجعاً في العام 2019 إلى 1863 حادثة.

كل تلك الأسباب تدحض ادعاءات المسؤولين وقت وقوع الحوادث، والتي تندد بسائقي القطارات ومعاونيهم وعُمال الإشارات والمزلقانات. فالتقارير الرسمية نفسها تؤكد أن الأخطاء البشرية لا تتجاوز نسبةً ضئيلة من مسببات الحوادث، وأن الخطوط المتهالكة وعدم صيانتها هي الخطر الأكبر الذي يزهق أرواح المواطنين. غير أن جهات التحقيق اعتادت تقديم السائقين في البداية كمتهمين رئيسيين في القضية دون أي تطرق لمسؤول واحد، أو إلى الأسباب الحقيقية التي تتكرر بسببها الحادثة في كل مرة.

هيئة خدمية أم اقتصادية؟

عدم محاسبة المسؤولين في كل مرة تقع فيها حادثة، أدى أيضاً للاستهانة بحقوق المواطن، ووفقاً لآخر إحصاء رسمي العام الماضي، فإن 29.7 في المئة من المواطنين يقعون تحت خط الفقر، في تراجع عن العام 2018، والذي وصلت فيه النسبة إلى 32.5 في المئة. وهي تقديرات حكومية ترى العديد من منظمات المجتمع المدني ومن لهم صلة بالعمل العام والحقوقي، أنها نسبة لا تعبّر عن الواقع الشعبي في ظل مؤشرات متصاعدة علة اختفاء الطبقة المتوسطة وطبقة محدودي الدخل، وهي الشرائح التي ترتاد بشكل منتظم القطارات، لأنها تُعد وسيلة النقل الأرخص في مصر بين المحافظات.

وعلى الرغم من كون هيئة السكك الحديدية في أساسها خدمية، مملوكة بشكل كامل للشعب المصري وفقاً للدستور والقانون، صُنعت وطُورت من أمواله وضرائبه، إلا أن تعديلات دورية تحدث في أسعار التذاكر، آخرها إعلان الهيئة في حزيران/ يونيو 2020 عن رفع أسعار التذاكر مرةً أخرى. جاءت نسبة زيادة تذاكر القطارات الدرجة الأولى المكيفة ( vip ) 25 في المئة وتذاكر القطارات الدرجة الثانية المكيفة (VIP) 30 في المئة، وزادت في بعض قطارات النوم المميزة بنسبة 83 في المئة. بينما زادت أسعار تذاكر القطارات الدرجة الثانية المحسنة 150 في المئة، ليخرج الوزير بتصريحات تشيد بجهود رجاله، والتي حققت 40 مليون جنيه أرباحاً جديدة في شهور قليلة، في الوقت الذي ما زال فيه المواطن يعاني من سوء الخدمات المقدمة.

التقارير الرسمية نفسها تؤكد أن الأخطاء البشرية لا تتجاوز نسبةً ضئيلة من مسببات الحوادث، وأن الخطوط المتهالكة وعدم صيانتها هي الخطر الأكبر الذي يزهق أرواح المواطنين. وهو ما يدحض ادعاءات المسؤولين وقت وقوع الحوادث، التي تندد بسائقي القطارات ومعاونيهم وعُمال الإشارات والمزلقانات.

ولم تكن زيادة أسعار التذاكر فقط هي التعديلات الوحيدة التي تجريها الحكومة المصرية، ففي كانون الثاني/يناير 2020، سادت موجة من الغضب على صفحات السوشيال ميديا، بعد شائعات بأن الدولة تنوي خصخصة السكك الحديدية. إلا أن الجهات المسؤولة نفت ما تردد، مؤكدةً أن الأمر ليس كما أشيع، ولكن الدراسة مطروحة بشأن إمكانية دخول القطاع الخاص والمستثمرين في دعم عمليات التطوير وتمويل وإدارة بعض خطوط نقل البضائع الجديدة، كما وأن القطاع الخاص يمكنه الاشتراك في استثمار بعض أصول الهيئة من أراضٍ ومنشآت لتوفير عائد مادي لها، دون نقل ملكيتها أو تبعيتها للقطاع الخاص.

غير أن منشوراً رسمياً من رئيس الدولة صدر في الفترة نفسها، أقر تعديل مادتين من مواد تأسيس هيئة السكك الحديدية المصرية، بما يسمح بحق الامتياز والانتفاع للقطاع الاستثماري - أشخاصٌ طبيعيون أو مستثمرون - في أصول ومشروعات الهيئة الحكومية، دون التقيد بأحكام القانون القديم، وإنشاء شركات مساهمة بمفردها أو مع شركاء آخرين، يجوز تداول أسهمها. كما أقرت الحكومة إعادة تقييم الأصول والممتلكات تمهيداً لبيع بعضها وطرح البعض الآخر للاستثمار. كل هذا ولم يتطرق أحد المسؤولين إلى مصير المواطن الفقير من مرتادي القطارات، ووضعه بعد تحويل الهيئة من خدمية إلى اقتصادية استثمارية!

وحسب تقرير "صندوق النقد الدولي" الصادر في العام 2018، يتفاوت تقدير تكلفة النهوض بالبنية التحتية الخاصة بالنقل في مصر، ومنها السكك الحديدية، إلى المعايير القياسية العالمية، ما بين 3 إلى 5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، في حين تبلغ أقصى نسبة من الناتج المحلي الإجمالي وصل إليها القطاع العام على أرض الواقع 1.2 في المئة، وهو ما يترك فجوة تمويلية تبلغ على الأقل 6 مليار دولار سنوياً. غير أن ذلك لم يمنع الجهات الحكومية من بدء تنفيذ مشروعات لخطوط جديدة، وسط خسائر اقتصادية وبشرية مستمرة في الشبكة القديمة المتهالكة، والتي وفقاً لتقديرات رسمية تعتبر من أعلى السكك الحديدية في العالم من حيث كثافة الحركة، إذ نقلت أكثر من 32 مليار راكب لكل كلم في عام 2016/ 2017 على سبيل المثال (2)، بينما وفي مطلع العام الجاري، كشف وزير النقل خلال كلمته أمام مجلس النواب أنه تم التخطيط لتنفيذ 257 مشروع سكة حديد بإجمالي تكلفة 220 مليار جنيه حتى العام 2024، وأنه تم بالفعل الانتهاء من تنفيذ 177 مشروعاً بإجمالي كلفة هو 45 مليار جنيه.

جرى في مطلع 2020 تعديل مادتين من مواد تأسيس هيئة السكك الحديدية، بما يسمح بحق الامتياز والانتفاع للقطاع الاستثماري - أشخاصٌ طبيعيون أو مستثمرون - في أصول ومشروعات الهيئة الحكومية، دون التقيد بأحكام القانون القديم، وإنشاء شركات مساهمة بمفردها أو مع شركاء آخرين، يجوز تداول أسهمها. كما أقرت الحكومة بإعادة تقييم الأصول والممتلكات تمهيداً لبيع بعضها وطرح البعض الآخر للاستثمار

.. كل هذا ويظل التساؤل المطروح بشكل ملح: متى يتوقف نزيف الدماء على دروب القطارات المصرية، ومتى ستصبح خدمة المواطن هدفاً للحكومات المتعاقبة؟ 

______________

1) https://bit.ly/3sQJpzW
2) https://bit.ly/3aB6jVQ    

مقالات من مصر

للكاتب نفسه

كيف تدير القاهرة مساحاتها الخضراء؟

رباب عزام 2024-06-21

يبدو بشكل ملموس أن هناك ما يشبه "الانقلاب" الطبقي، ليس فحسب بفعل الإهمال الصريح للشرائح الدنيا المفْقرة بشكل متسارع ومريع، والتي لا يلقى إليها بالٌ أبداً، بل بـ"الانتقام" ممن كانوا...