بصورة ما، يبدو الإصرار الإثيوبي على المضي قدماً في الملء الثاني لسد النهضة، وعدم تلبية الطلب المصري والسوداني بإنجاز اتفاق ملزم قبل عملية الملء، وكأنه رد فعل جاء متأخراً 62 عاماً على الرفض المصري السوداني لطلب إمبراطور إثيوبيا وقتها، هيلا سيلاسي، المشاركة في اتفاقية 1959 التي أبرمها طرفا المصب لتنظيم تدفق مياه النيل، وبها نصبّا نفسيهما القوة المهيمنة على النهر، على الرغم من أن إثيوبيا هي منبع رئيس للمياه المتدفقة.
ومع تضاؤل فرص التدخل الدولي لفرض اتفاق، سواء عبر الجهود الديبلوماسية وذروة سنامها مجلس الأمن، أو حتى بالشكوى إلى "محكمة العدل الدولية"، فإن عنصر الوقت الضاغط قد لا يساعد في تحقيق اختراق يُذكر. ويمكن لإثيوبيا أن تستخدم تكتيك استنزاف الوقت، والاستعانة بأصدقائها في بكين وموسكو لوقف أي ضغوط دولية، حتى يصبح الجميع أمام واقع اكتمال الملء الثاني، كما حدث مع الأول، بل وقيام السد نفسه أصلاً دون اتفاقيات ملزمة لطمأنة كل من القاهرة والخرطوم.
أحلام إثيوبيا في الاستفادة من ثروتها المائية لصالح شعبها أولاً، ولتصبح قوة إقليمية مهيمنة ثانياً، قديمةٌ ترجع إلى عقود خلت. لكنها فقط وفي مطلع هذا الألفية تمكنت من تهيئة الأرضية المناسبة سياسياً واقتصادياً والمشمولة بعلاقات دولية، وبالتالي تمّ إخراج هذا المشروع الاستراتيجي من أضابير الملفات إلى واقع يتم تنفيذه بمزيج من الدهاء السياسي والتخطيط الصبور والتحرك في الوقت المناسب لخلق واقع جديد.
يعود الفضل للزعيم الراحل ميليس زيناوي في بلورة رؤيته لإثيوبيا الجديدة، إثر توليه الحكم في العام 1991، بعد الإطاحة بالزعيم الأسبق منغستو هيلا مريام. جاءت تلك الرؤية فيما عرف بورقة "إثيوبيا الجديدة عبر الطاقة المائية"، وتتمحور حول الاستفادة من إمكانيات البلاد المائية المهدرة، وتحويل إثيوبيا من دولة معتمدة على الإعانات، وتعيش تحت رحمة تقلبات الطقس، الى تجاوز دورات الجفاف، والتوسع في الزراعة، واستخدام الكهرباء التي يمكن بيعها إلى دول الجوار، وأهم من ذلك أن تحتل إثيوبيا مكانتها في قيادة نهر النيل.
وقبل الشروع في تنفيذ هذه الرؤية، كان لابد من التعامل مع قضيتين سياسيتين: كيفية ضمان مشاركة مختلف القوميات بصورة ما في الحكم، وذلك لتحقيق قدر من الاستقرار السياسي، وهو ما تم إنجازه عبر تشكيل فضفاض هو "الجبهة الديمقراطية لشعوب إثيوبيا" الذي يقوم على اعتراف بفيدرالية أثنية تعطي كل إقليم تقطنه مجموعة عرقية معينة أن ينتظم في هذه الجبهة، بل وحتى السماح بحق تقرير المصير وفق بعض الضوابط.
التنظيم القائد
لكن لضمان ألاّ تخرج الأمور عن السيطرة، لعبت "الجبهة الشعبية لتحرير التيغراي" التي كانت رأس الرمح في الإطاحة بالنظام السابق، ويترأسها زيناوي نفسه، دورَ القائد الفعلي للتنظيم، المسيطر على المفاصل الأساسية للدولة، خاصة في أجهزة الاستخبارات والقوات المسلحة والاقتصاد، علماً أن التيغراي يشكلون أقل من 10 في المئة من سكان إثيوبيا، وتتفوق عليهم عددياً قوميات الأورومو والأمهرا.
نجح هذا الترتيب في تحقيق قدر من الاستقرار في إثيوبيا، وإلى جانب الفعالية التي أبداها زيناوي في تناول الملف الاقتصادي، وتحركاته الديبلوماسية، فإن الكثير من الدول الغربية والمنظمات الدولية بدأت تنظر إلى التجربة الإثيوبية بعين الرضى، وتدفقت عليها المنح والمعونات التي بلغت في المتوسط حوالي الأربعة مليارات دولار سنوياً، الأمر الذي مكن إثيوبيا من تحقيق نسبة نمو اقتصادي عالية تراوحت بحدود 8 في المئة على مدى عدة سنوات متصلة.
تتمحور ورقة "إثيوبيا الجديدة عبر الطاقة المائية"، المبلورة في التسعينات الفائتة، حول الاستفادة من إمكانيات البلاد المائية المهدرة، وتحويل إثيوبيا من دولة معتمدة على الإعانات، وتعيش تحت رحمة تقلبات الطقس، الى تجاوز دورات الجفاف، والتوسع في الزراعة، واستخدام الكهرباء التي يمكن بيعها إلى دول الجوار، وأهم من ذلك أن تحتل إثيوبيا مكانتها في قيادة نهر النيل.
وفي هذه الأثناء، كان يتم التخطيط والإعداد بهدوء لمشاريع الخزانات، خاصة سد النهضة الذي كان يطلق عليه في البداية "المشروع أكس" للتعمية على ما يجري. وجاءت الفرصة إبّان فترة اضطرابات الربيع العربي التي طالت مصر وانشغالها بنفسها في مرحلة تغيير سياسي وقيادي كبير، لتبدأ أديس أبابا عملياً في التنفيذ. وتم تتويج هذا الإنجاز الإنشائي بإنجاز سياسي آخر، وهو التوصل إلى اتفاق مع كل من السودان ومصر على إعلان مبادئ تم توقيعه في الخرطوم في 2015، حيث لعبت العلاقات المتميزة مع الخرطوم وقتها دوراً في تعزيز وتقوية الموقف الإثيوبي وتهدئة المخاوف المصرية ولو إلى حين، خاصةً وهناك العديد من المكاسب سيجنيها السودان من هذا السد، مثل تقليل مضار الفيضانات عليه، وزيادة رقعة المساحات التي سيمكنه زراعتها عبر استغلال أفضل لكامل حصته المائية، والحصول على كهرباء بأسعار تفضيلية.
تحويل مجرى النيل، وقائع باردة
12-06-2013
وعلى الرغم من الضجة الصادرة عن الخرطوم والقاهرة حول مضار الملء الثاني بدون اتفاق ملزم، خاصة على السودان، إلا أن العاصمتين لم تتخذا خطوات عملية لوقف هذا الملء ابتداءً بالانسحاب من إعلان المبادئ، وهي الخطوة التي ستفتح الباب أمام خطوات أخرى، مما يشير إلى الرغبة في استمرار المساعي الديبلوماسية خاصة وأن السد أصبح حقيقة واقعة.
وقد تسعى أديس أبابا إلى محاولة فصل الموقفين السوداني والمصري، خاصةً وأن السودان دولة ممر وليست مصب فقط، وبالتالي فمصالحه تتمايز عن المصالح المصرية. لكن القناعة السائدة أن إثيوبيا تسعى إلى إعادة فتح ملف توزيع مياه النيل على أسس جديدة، وستستخدم قوتها المهيمنة على السد لتحقيق ذلك الهدف.
ملاحظات
على الرغم من الالتفاف الوطني الإثيوبي حول مشروع سد النهضة، وهو ما تمثل في الإسهام الشعبي في التمويل، إلا أن قدرة أديس أبابا على المضي قدماً في تنفيذ خطط هيمنتها الاستراتيجية على نهر النيل ستحدد بصورة أساسية من خلال قدرة جهاز الدولة الإثيوبي على إدارة هذه العملية، وهو ما ينقل النقاش إلى قضايا الاستقرار السياسي والأمني الداخلي، وعلاقات إثيوبيا الخارجية إقليمياً ودولياً.
وهنا من المفيد إيراد بعض الملاحظات:
أولها أن الترتيب السياسي والأمني الذي أعطى إثيوبيا قدراً من الاستقرار يمر بحالة انتقال إلى ترتيب جديد لم تتضح معالمه وقدرته على الصمود والاستمرار بعد. فباختفاء زيناوي من المسرح إثر وفاته في العام 2012، تعرضت صيغة الحكم القائمة على سيطرة التيغراي إلى تحديات إثر بروز الجانب القمعي، وانتهاكات حقوق الإنسان التي فرضت إعادة النظر في ذلك الترتيب، وكان أن استقال هايلي مريام ديسالين الذي خلف زيناوي مفسحاً المجال لرئيس الوزراء الشاب آبي أحمد في العام 2018، الذي بدأ شيئاً فشيئاً في تقليص نفوذ التيغراي في مختلف أجهزة الدولة، خاصة الجيش والأجهزة الأمنية.
إعلان المبادئ الموقع في الخرطوم في 2015، بين اثيوبيا والسودان ومصر، لعب دوراً في تعزيز وتقوية الموقف الإثيوبي، وتهدئة المخاوف المصرية ولو إلى حين، خاصةً وهناك العديد من المكاسب سيجنيها السودان من هذا السد، مثل تقليل مضار الفيضانات عليه، وزيادة رقعة المساحات التي سيمكنه زراعتها عبر استغلال أفضل لكامل حصته المائية، والحصول على كهرباء بأسعار تفضيلية.
جبهة التيغراي وجدت في قرار آبي أحمد تأجيل الانتخابات الإقليمية والعامة فرصةً لإشهار تحديها العلني، واتهامه أنه ينوي إقامة ديكتاتورية جديدة، ومن ثم قررت المضي قدماً في إجراء انتخاباتها، وتأسيس سلطة تستند إلى شرعية واضحة، وبعد ذلك بدأت في بسط سيطرتها حتى على المرافق التي يفترض أن تكون تابعة للحكومة الفيدرالية، وآخرها كما يقول آبي أحمد هجومها على قاعدة عسكرية للجيش الفيدرالي، وهي الذريعة التي استخدمها لشن هجوم عسكري على جبهة التيغراي متوعداً قيادتها بالقبض عليهم ووضعهم أمام المحاكم.
ومع أن الحرب كانت سريعة، ونجح الجيش الفيدرالي في دخول عاصمة التيغراي، إلا أن جبهة التيغراي التي أعادت تسمية نفسها "قوات دفاع التيغراي" لجأت إلى الريف لتذوب بين السكان ولتبدأ حرب استنزاف. العملية العسكرية في إقليم التيغراي لم تقتصر على الجيش الإثيوبي الفيدرالي فقط، وإنما شاركت فيها إريتريا وقوات من أثنية الأمهرا، ولكل حساباته التي يريد أن يصفيها مع التيغراي. فإريتريا بقيادة أسياس أفورقي ترى في التيغراي ناكري جميل، لما قدمه لهم من عون وتدريب عسكري أبّان حربهم ضد نظام منغستو، كما أنه يحمّل التيغراي مسؤولية الحرب الحدودية بين البلدين في العام 2002. أما الأمهرا فهم يرون أن التيغراي كانوا الأساس في إنهاء سيطرتهم على السلطة المستمرة عبر التاريخ وانتهاءً بمنغستو، وأنه أبّان سيطرتهم على الحكم أعطيت أجزاء من مناطق تتبع للأمهرا إلى التيغراي. وهم بدعمهم العسكري لآبي أحمد يعملون على استعادة تلك المناطق إلى إقليمهم.
وهكذا أصبح إقليم التيغراي مسرحاً لأربعة جيوش: قوات دفاع التيغراي التي تشن حرب عصابات في الريف وخاصةً المناطق الوسطى، الجيش الفيدرالي الإثيوبي الذي يسيطر على المدن والطرق الرئيسية، قوات من الأمهرا التي تنشط في غرب التيغراي وجنوبها، وقوات من إريتريا في المناطق الشمالية.
اعتماد آبي أحمد منهج الحل العسكري للصراع، ورفضه لأي تدخل أجنبي يعني أمراً واحداً وهو أن الصراع مرشح للاستمرار، وربما ينتقل إلى مناطق أخرى من إثيوبيا، خاصةً وأن منطقة أوروميا تشهد بدايات تكوينات معارضة مسلحة، وكذلك بني شنقول التي يقام عليها سد النهضة. ومع استمرار العمل العسكري، فقد بدأت تتسرب التقارير عن الانتهاكات الواسعة لحقوق الإنسان، واستهداف المدنيين، واستخدام سلاح الاغتصاب المريع، بل وهناك حديث عن تطهير عرقي. وقد طالت الاتهامات القوات الإريترية وقوات الأمهرا، الأمر الذي دفع حتى حكومة التيغراي التي نصّبتها أديس أبابا لرفع صوتها ضد الوجود العسكري الإريتري، مما اضطر آبي أحمد للاعتراف بوجود هذه القوات، بعدما كان الخطاب الرسمي ينكر ذلك. بل وقطع الوعد بانسحابها للمبعوث الأمريكي كريس كوونز. ثم أن استمرار العمليات العسكرية والانتهاكات التي تصاحبها بدأت تدفع بالتيغراي إلى رفع سقف مطالبهم والمطالبة بالانفصال عن الدولة.
تدفق التقارير عن انتهاكات حقوق الإنسان أدى إلى تصاعد الانتقادات من الدول الغربية والمانحة، ووصل الأمر بالاتحاد الأوروبي إلى تعليق مبلغ 107 مليون دولار كانت تذهب لدعم الميزانية، كأول مؤشر على حالة الاستياء، وبدأت المطالبات ترتفع لفتح الباب أمام عمليات الإغاثة لإنقاذ أكثر من أربعة ملايين إنسان معرضين للجوع. الحرب من جانبها كان لها تأثيرها الاقتصادي سواءً في الإنفاق المستمر، أو في تحطيم العديد من المرافق، وهو ما يمكن أن يكلّف الحكومة حوالي المليار دولار فقط لإعادة الترميم.
وكل هذا سيؤثر على برنامج الحكومة للتركيز الاقتصادي، ومن ثم إلى زيادة العجز في ميزان المدفوعات، وتصاعد التضخم في الوقت الذي يتقلص فيه حجم الدعم بالعملات الصعبة.
على أن أهم من ذلك، أن الدعوات الدولية لوقف الانتهاكات وسحب القوات الإريترية والبحث عن حل سياسي، لن يكون لها حظ يذكر من النجاح، وذلك بسبب القيود التي تكبل حركة آبي أحمد. فبدايةً، ليست له قاعدة سياسية أو أثنية صلبة يستند إليها. والأورومو الذين ينحدر منهم منقسمون تجاهه، وهناك قيادات بارزة منهم تعارضه، وقد انتهى بها الأمر إلى السجن. ثم أنه يسعى إلى تغيير صيغة التحالف الأثني من خلال الجبهة إلى ترؤس تنظيم سياسي عابر للقوميات العرقية أسماه "حزب الرفاه" ويفترض أن يخوض به الانتخابات ليكتسب له شرعية جديدة. ولهذا يبدو الوضع مفتوحاً على كل الاحتمالات، خاصةً إذا لم ينجح خلال الفترة المقبلة في إلقاء القبض على قيادات التيغراي وتقديمهم للمحاكمة كما وعد، الأمر الذي سيثير التساؤلات عن مدى قدرة الدولة التي يديرها على مواجهة التحديات.
أصبح إقليم التيغراي مسرحاً لأربعة جيوش: قوات دفاع التيغراي التي تشن حرب عصابات في الريف وخاصةً المناطق الوسطى، الجيش الفيدرالي الإثيوبي الذي يسيطر على المدن والطرق الرئيسية، قوات من الأمهرا التي تنشط في غرب التيغراي وجنوبها، وقوات من إريتريا في المناطق الشمالية.
ثم هناك التحدي الكبير المتمثل في كيفية فرض قراره على القوات الإريترية بالانسحاب، وكذلك تحجيم الأمهرا، وإبعادهم من مناطق التيغراي التي يسعون للسيطرة عليها، وهو الوجود الذي تعارضه حتى حكومة التيغراي الإقليمية الموالية له، وتطالب بإبعاد الأمهرا عن تلك المناطق. وهكذا فإنه حتى على افتراض نجاح آبي أحمد في حمل الإريتريين والأمهرا على الانسحاب، فإن مثل هذا التطور سيتبعه ثمن سياسي باهظ، إذ سيجعله مكشوفاً، وربما لهذا السبب تشير بعض التسريبات إلى أن كلاً من آبي أحمد ونظيره الإريتري أسياس أفورقي ناقشا أقامة شكل من الوحدة بين البلدين، بما يزيل حرج التواجد الإريتري السياسي والعسكري في إقليم التيغراي من ناحية، ويشكل قوة جديدة بازغة في القرن الأفريقي وداعمة لآبي أحمد داخلياً. ومع أنه تم نفي تلك التسريبات، إلا أنه في ظل المأزق السياسي الحاصل، لا يستبعد بعض المراقبين أن يتم الاتفاق على أن يرتدي الجنود الإريتريون أزياء الجيش الإثيوبي، الأمر الذي سييسّر تحركاتهم خاصةً وهم يتكلمون اللغة نفسها.
يبقى القول أنه على الرغم من نجاح إثيوبيا في بناء سد النهضة، واستخدامه رمزاً قومياً لتحقيق التفاف شعبي داخلي، إلا أن انسداد الأفق السياسي والأمني بسبب تداعيات حرب التيغراي، واتخاذها مساراً على خطى الانقسام الإثني في البلاد، ينذر بحرب استنزاف طويلة الأمد ستضع إنجاز سد النهضة، ووضعها القيادي في نهر النيل، بل ومستقبل آبي أحمد نفسه على المحك.