خلال شهر رمضان المنصرم ظهرت مئات التدوينات عن التبرع وعمل الخير وبناء مؤسسات كاملة من جيوب المتبرعين، "من المصريين الى المصريين"، وهو ما يثير سؤال تعريف الخير.. "بلد فيها الخير"، تعبير يردده المصريون عن وطنهم منذ الأزل، فما هو الخير؟ هل هو أن يزيد عدد المحسنين بزيادة عدد المحتاجين، أم أن يكون الخير صفة لصيقة بهذا البلد يفيض به على أهله، حيث هو أصل الغنى والعطاء والمواد الوافرة التي تعطي من يحسن إليها ويعرف كيف يستخدمها.
وجوه لموضوع واحد
اثر الحملات المكثفة من أجل التبرع لأعمال الخير له أكثر من وجه، أوله "مبهر" ليس فقط بسبب حجم التبرعات نفسها، ولكن لحجم ونوعية المشروعات الأهلية الناجحة التى بدأت قبل أعوام كأحلام بسيطة وتمكنت عبر مجهودات بشرية وإرادة صادقة لفريق العمل، من إرساء مؤسسات خُلقت لتبقى، مثل مستشفيات السرطان والقلب والكبد، ناهيك عن مشروعات تنمية القرى التي ترزح في عمق بئر الفقر، وليس فقط تحت خط سطحه.
الوجه الثاني للأثر هو "مؤلم" بلا شك، حيث تجد نفسك ولمدة شهر على موعد مفتوح مع الألم ومتابعة عشرات الحالات والقصص الانسانية الصعبة التي تعيشها تلك الأسر التي يتم طرح حالتها على الملأ عبر شاشات التليفزيون والإعلانات، من أجل تشجيع المُشاهد على التبرع.
الوجه الثالث للأثر يأتي "ساخراً"، وإن كانت سخرية إيجابية، يحدثك عنها كل من يذهب لزيارة تلك المؤسسات مستفيداً أو متبرعاً، فيقول أنه إذا كان يمكن لمؤسسة داخل مصر أن تكون بهذا المستوى من النجاح والتنظيم، فلماذا تفشل الحكومة في تقديم الخدمات لمواطنيها؟ وهل يجدر أن نقول أنه من الأفضل أن تتحول الدولة ككل الى مؤسسة أهلية يديرها متطوعون؟ و في الوقت بنفسه يُساءل من أين يأتي كل هذا الكم من التبرعات في دولة يتحدث القائمون عليها طوال الوقت عن ضرورة التقشف وتقليل الخدمات من أجل سد العجز الدائم بالموازنة العامة.
الوجه الرابع و قد يكون الأخير، تجده"مُربِكاً" حين تقف أمام هذا المشهد المتسع فينطلق السؤال: هل هذا هو الحل؟ وهل هذا العمل الضخم هو الترجمة العكسية للنقص الشديد في الخدمات التي تقدمها الدولة؟ و هل من الصحيح أن نشجع المواطنين على التبرع وإنجاح "العالم الموازي" لتقديم الخدمات، أم علينا أن نشجعهم على المطالبة بحقوقهم المشروعة وإلزام الدولة بها؟
الخلط
المفهوم بسيط وواضح، ولكن واقعنا هو المرتبك بغير حدود. فالعمل الأهلي مكوِّن رئيسي في أي مجتمع، استمراره يعطي ملمحاً هاماً حول درجة حرارة الشعور والإدراك بين مواطني الدولة الواحدة، والقدرة على العيش المشترك، حيث فلسفة "فكر بغيرك، لا تنس قوت اليمام" كما يعرّفه "محمود درويش"، وانقطاعه ــ مهما كان مبرره ــ يعطي مدلولاً معاكساً.
العمل الأهلي هو كل ذلك، إلا إنه لا يمكن أبداً أن يكون بديلاً للدولة. وهذا يبدو لأول وهلة نفياً لأمر بديهي، له ما يبرره على أرض الواقع المصري حيث تدافع المؤسسات الحكومية قبل تلك غير الحكومية، وتندفع الشخصيات العامة وخاصة تلك المحسوبة على النظام، للمشاركة في تلك الأعمال والحملات الدعائية.
وقد كان النظام نفسه هو أول من بدأ هذا الطريق الذي ظاهره "خير" وباطنه "خلط"، حين أعلن فتح باب التبرع للمصريين و غير المصريين على حساب بنكي يحمل اسم "30 يونيو" (!) عقب عزل الرئيس المصري السابق محمد مرسي مباشرة، ثم وبعد وصول عبد الفتاح السيسي لرئاسة الجمهورية عبر صندوق الانتخابات، أدمج الحساب السالف في آخر يحمل إسم شعار حملته الانتخابية "تحيا مصر".
هذا "الحساب" كان ولا زال بوابة المرور للكثير، ومن أكثرها دلالة مشهد دعوة رئيس الجمهورية لأول لقاء ("مأدبة عشاء") مع كبار رجال الأعمال في مصر ومطالبتهم بالتبرع من أجل مصر.. مصر المريضة الفقيرة المحتاجة.
مشهد صفق له الإعلام المحتشد خلف الرئيس بكل ما أوتي به من قوة، بينما علت أصوات يتم حبسها في الهامش تطالب بوضع الأمور في نصابها. فليس هذا عمل الرئيس والدولة، وهؤلاء عليهم مستحقات متأخرة يجب دفعها وتأديتها، بل أن هناك مساءلات قانونية يجب أن يخضعوا لها بعد ما تم سلبه عنوةً من قوت الشعب المصري عبر سنوات طويلة، ولا عزاء للتحجج بصعوبة الإجراءات وعدم جدوى المحاكمات. أما المفهوم الأهم الذي لا يجب أن يخضع للخلط ــ ولكنه خضع كاملاً له عبر ترسانة الإعلام شبه الرسمي ــ فهو أن مصر ليست مجموعة من الفقراء المحتاجين، ولكنها شعب مسلوب الحقوق، وهو يأتي بالنظام تلو الآخر من أجل تنفيذ مطالبه، لا من أجل تسولها.
قالت تلك الأصوات كلمتها الموءودة وسط التصفيق، واستمر المشهد طوال عام حتى جاء خلال شهر رمضان الماضي بصورة تختصر الكثير، حين وقف العاملون والمتطوعون داخل المؤسسة الأهلية العريقة "بنك الطعام"، يُعدون العلب السنوية لمد آلاف المواطنين باحتياجاتهم ككل عام، ولكنها جاءت هذا العام مختومة بشعار "تحيا مصر". من يتبرع لمن؟ ولما ومن أجل ماذا.. هكذا أصبح أثر المشهد "كرِباً" و ليس فقط "مُرْبكاً".