الحر و "الموت المفتوح".. يوميات مصرية

الكوكب اهترأ.. لذا فعليكم توقع تزايد متواتر بدرجات الحرارة كل عام. هي الحقيقة التي أصبح العالم يدركها وقد جاءنا ــ نحن المنطقة العربية ــ نصيب وافر منها. لكن لم يقتصر الأمر في مصر على ارتفاع درجات الحرارة، حيث يبقى السؤال معلقاً في الفراغ ـ كمشنقة: لماذا هي وحدها شهدت هذا العدد الكبير من الوفيات تأثراً بارتفاع درجات الحرارة، فوصل وفق تقديرات رسمية صادرة عن وزارة الصحة المصرية الى 97 خلال
2015-09-15

منى سليم

كاتبة وصحافية من مصر


شارك
من مصر (getty)

الكوكب اهترأ.. لذا فعليكم توقع تزايد متواتر بدرجات الحرارة كل عام. هي الحقيقة التي أصبح العالم يدركها وقد جاءنا ــ نحن المنطقة العربية ــ نصيب وافر منها. لكن لم يقتصر الأمر في مصر على ارتفاع درجات الحرارة، حيث يبقى السؤال معلقاً في الفراغ ـ كمشنقة: لماذا هي وحدها شهدت هذا العدد الكبير من الوفيات تأثراً بارتفاع درجات الحرارة، فوصل وفق تقديرات رسمية صادرة عن وزارة الصحة المصرية الى 97 خلال الموجة الحارة التي بدأت أول تموز/ يوليو الماضي.
لم يعتد القوم من قبل على العيش تحت وطأة ارتفاع بالحرارة يصل الى 45 درجة مئوية، فاصطدمت تلك الحرارة بطبيعة الحياة وممارسة العمل وحالة البنية التحتية بالمؤسسات المختلفة لتتحول المشكلة الى "كارثة". موت في الزنازين بالسجون التي لا تعرف التهوية، فجاءت الفرصة للجهات المعنية لتثبت أن الأمر لا يتعلق بالتعذيب، ولكن وكما جاء دوماً في جميع التقارير: "هبوط مفاجئ حاد في الدورة الدموية". موت في عنابر مستشفى الأمراض النفسية بحجة أن "المراوح" خطر على المرضى النفسيين خشية استخدامها للانتحار، فماتوا "فطساً" من دون أدنى مبالغة. الموت إثر انعدام رفاهية التوقف عن العمل، حيث ما يقارب 40 في المئة من قوة العمل دون أجر ثابت ("أرزقية")، ولهذا لا بديل من الاستمرار تحت أشعة الشمس في مهام صعبة كالبناء والحفر بالمحاجر التي تنتشر على طول الطريق الفاصل بين الجبل والنهر بصعيد مصر.
وإن لم يكن الموت فهو الوقوف جنبه، هكذا جاء المشهد الذي زلزل مشاعر الكثيرين دون غيره.. وهذا غالباً لتجسّده في صورة ملونة لعشرات من الشيوخ والعجائز أمام بنك ناصر في طابور تسلم "المعاش"، بين براثن الشمس والرطوبة والانتظار والملل، مما تسبب في حالات إغماء وإعياء ودفع عدداً من الأهالي الى التبرع لهم بالدكك والمقاعد من أجل انتظار جديد.
 

السجون.. "مقابر طرة"

هكذا أسماها "شوكان" المصور الصحافي المحتجز قبل عامين.. وفي المقبرة لا مفاضلة بين "قيظ الصيف" و "برد الشتاء" فكلاهما جحيم. أضف إليه ما أثبته تقرير المجلس القومي لحقوق الإنسان عن الأوضاع المعيشية في السجون المصرية، من تكدس السجناء بالزنازين في أقسام الشرطة والسجون بما يصل الى 400 في المئة من حجم استيعابها، وهو التقرير الذي وصفته إدارة العلاقات العامة في وزارة الداخلية بأنه "مبالِغ" و "منافٍ للحقيقة"، وأنه يحدث أحياناً أن يحتشد المتهمون في أقسام الشرطة لمدة يوم أو يومين قبل عرضهم على النيابات وترحيلهم للسجون. هذا وقد أعلنت الوزارة قبل عام عن خطة لتركيب المكيفات داخل غرف الحجز وزيادة فتحات التهوية، ورغم هذا لم يتوقف الموت بالصيف، وكان آخره قبل أيام مع وفاة ثلاثة سجناء بقسم شرطة شبرا الخيمة، شرق القاهرة، وسبقهم عدد مماثل في أحد اقسام الشرطة بمدينة الاسكندرية لينضموا لقائمة مطولة تضم 268 حالة وفاة بأماكن الاحتجاز في مصر لأسباب مختلفة على مدار العامين الماضيين، وفق تقرير المفوضية المصرية لحقوق الإنسان.

المروحة والعنبر.. قصة حزينة

 

"الخانكة".. هي الكلمة الشهيرة التي يستخدمها المصريون للسخرية ممن يعاني من حالة نفسية او عصبية سيئة. لكن أحداً لم يكن يتخيل حجم العناء الذي يلاقيه نزلاء ذلك المستشفى العتيق والذي كشف الغطاء عن وفاة 11 مريضاً بيوم واحد داخله بسبب عدم وجود اي وسائل للتهوية، رغم الارتفاع الشديد في درجات الحرارة. في التحقيقات الرسمية، قال مدير المستشفى الحكومي "مستحيل نركب مراوح داخل عنابر المرضى لأنها خطر عليهم باعتبارهم مرضى نفسيين ومن الممكن أن يستخدمها أحدهم في الانتحار، ولا نستطيع تركيب مكيفات لأن ميزانية وزارة الصحة لا تسمح". قال وعاد إلى مكتبه، وذهبت الجثامين الى بيوت ذويها مع تقرير رسمي يشير إلى أن الوفاة حدثت لأسباب طبيعية.
أعلنت الحكومة في اليوم نفسه بدء حملة تركيب كاميرات للمراقبة داخل المساجد، فهل الميزانية تسمح بالكاميرات لمراقبة المصلين ولا تسمح بالتكييفات للتخفيف عن المرضى؟ المشهد يزداد غرابة مع تتابع الصور الفوتوغرافية لمدير المستشفى نفسه يقف الى جانب مجموعة من الشباب جاءوا للمستشفى ذاته من أجل تركيب مراوح بالعنابر بعد حادثة وفاة المرضى الذين قال عنهم الرجل إنه يحميهم من الانتحار!
وهكذا، وبينما يتابع خبراء الأرصاد الارتفاع والانخفاض الطفيف بدرجات الحرارة يوماً بعد يوم، عرفت مصر خلال شهرين تصنيفاً جديداً للموت داخل دفاترها الرسمية هو: "ضحايا درجات الحرارة".

 

للكاتب نفسه

عيش.. حرية.. إلغاء الاتفاقية!

منى سليم 2024-03-29

هل يستقيم ألا تغيِّر الحرب على غزة موازين الأرض؟ أو لا يصير الى صياغة برنامج سياسي مصري ينطلق من إلغاء هذه معاهدة كامب ديفيد، وأن يكون ذلك ركيزة للتغيير الجذري...