في إحدى زياراتي المسائية المعتادة لأبي صيف العام 2018، دار بينه وبيني حديث شاق عن التدخين في عائلتنا. عندما وصلتُ أمام البيت كانت السيجارة لا تزال بين أصابعي في حين كان المحارب القديم لا يزال يستريح على كرسيه الحجري في الركن الجنوبي للبيت، فور عودته من صلاة العشاء. أمي أيضاً كانت جالسة على المصطبة المجاورة لعتبة الباب. وفي حضرتهما توجّب عليّ رمي السيجارة بعيداً عن ناظريهما. دعى لي كلاهما بأن يقنّعني الله من التدخين، فهما لا يخفيان خشيتهما من أن أصل لمصيره الصحي الذي أوصله إليه التدخين. أكثر من 350 قرص دواء شهرياً، وجرعتين من الأنسولين يومياً، إضافة للمضادات الحيوية وعبوات الشراب المهدئ للكحة كلما هاجمته وعكة عابرة. أمّنت على دعواتهما بصدق من بات يشعر بالورطة مع هذه العادة المغوية التي تدفع المرء لاختلاق الأعذار من أجل الاستمرار فيها. بدأت بتدليك يده والجزء المقابل للقلب في ظهره، ثم سألته، لأول مرة، عمّا إذا كان جدي دخّن في حياته؟
كان دافعي للسؤال فكرة خطرت لي في تلك اللحظة إذا ما كانت عادة التدخين تنتقل في عائلتنا بالجينات الوراثية لابن واحد فقط من كل جيل. صمت أبي فكررت السؤال، لكنه حاول التهرب منه إلى الأنين من ضغط أصابعي على العصبات المتشابكة في جانب ظهره الأيسر. خفّفت ضغط أصابعي وكررت السؤال: هل كان جدي يدخّن أم أنه كان مثل عمي؟ قصدت بالتشبيه عدم التدخين، لكن ردّه كان سريعاً وحاسماً: أنا الذي أشبه جدك في كل ملامحه وصفاته، وطباعه. ومع ذلك فقد تهرّب من الإجابة صراحةً، ملقياً اللوم على ضعف الذاكرة.
لم أعرف جدي لأنه مات بعد ولادتي بأقل من سنة. وعلى الرغم من وفاته في منتصف سبعينات القرن العشرين الفائت، لا توجد صورة شخصية له مع أي من ولديه أو ابنته الوحيدة، الذين نجوا من أمراض وأوبئة أواخر القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين.
اليمن: ثقافة سياسية بنكهة القات
19-06-2014
كانت أمي تجلس بصمت على العتبة الخارجية للبيت بحثاً عن دفقات هواء بارد في حرّ تموز/يوليو، ولا بد أنها كانت تسبح في الذكريات. بعد أن قمع المحارب ذاكرته عن استعادة وجه أبيه خلف دخان التبغ، قالت أمي: كان يمر هنا لرؤيتك مع أختيك عند عودته من سوق الخميس، القريب من جبل "سَوْرَق" (أحد أكبر جبال اليمن شرق مدينة تعز، واسمه التاريخي جبل "الصرْدَف"). نعم وماذا بعد يا أمي؟ حوّلتُ أسئلتي باتجاهها وما زلتُ أدلّك أوردة وشرايين أبي المتصلبة. ومع توالي الأسئلة، كانت ذاكرتها تسترجع طريقة جدي عندما ينزل من فوق حماره الأبيض، وطريقته المتمهلة في إخراج قطع السكاكر الملونة التي كان يجلبها لنا من السوق. "هل كان يدخّن"؟ كررت السؤال لأمي، لكن أبي هو من تصدى للرد: هي لا تعرفه إلا وهو شيخ طاعن في السن، ما الذي تريده منها؟ لا، لم يكن يدخّن، وعليك أن تتحلّى بالعزيمة وتقلع عن هذه الآفة. أكدت الوالدة على عبارته الأخيرة، وأجبتهما بكلمتين: "إنشاء الله"، ثم سألتها وقد بات الأمر واضحاً، عن نوع السجائر التي كان جدي يدخنها؟ لم يكن يدخن سجائر، لكن "المَشْرَعَة" لم تفارقه إلى ما قبل وفاته بأشهر! أجابت.
"المشرعة" والحكيم المغربي والعثمانيون
"المَشْرَعة" هو الاسم المحلي للغليون في كثير من مناطق اليمن، لا سيما المناطق الوسطى. واستناداً للقول غير المنقوض حتى الآن، بأن التبغ كان من المزروعات الحصرية لشعوب "العالم الجديد" - الإنكا والمايا والأزتيك - قبل أن ينتشر في كل بلدان العالم، فإن وصوله إلى اليمن استغرق خمساً وستين سنة. حساب زمن الوصول هذا يعتمد على تاريخ إرسال سفير فرنسا لدى البرتغال جان نيكوت لنبتة التبغ الأولى إلى بلاط كاترين ميديتشي في السنة التي مات فيها زوجها الملك هنري الثاني، العام 1559.
وفي العام 1604، قدم إلى اليمن طبيب شعبي من المغرب اسمه علي الحكيم. جلب معه كمية من التبغ الجاهز للتدخين وبذور صالحة للزراعة. يفيد مؤرخون يمنيون ومنهم المَوزَعي ومحمد محمد المجاهد وعبد الودود مقشر، بأن الحكيم المغربي كان متصوفاً كالعديد من "المتسيّحين" في تلك الفترة إلى اليمن. أما بذور التبغ فقد وجدت تربة خصبة لنموها. لكن قبل ذلك، كان لا بد من وجود قاعدة مستهلكين بحجم تجاري. ومثلما كان شائعاً في أوروبا القرن السادس عشر، بأن تدخين التبغ أو استخدامه بطرق أخرى، يشفي العديد من الأمراض، أقنع الحكيم المغربي مرضاه بأن عشبته بنّية اللون تشفي "الغشاوة الحاصلة في العينين من الرطوبة"، وتنبت لحم اللثة المتآكل، وتسهّل الهضم، وتزيل الاحتقان من الجيوب الأنفية، وكذلك البلغم المحتقن في الصدر.
كانت أمي تجلس بصمت على العتبة الخارجية للبيت بحثاً عن دفقات هواء بارد في حرّ تموز/يوليو، ولا بد أنها كانت تسبح في الذكريات. بعد أن قمع المحارِب ذاكرته عن استعادة وجه أبيه خلف دخان التبغ، قالت أمي: كان يمر هنا لرؤيتك مع أختيك عند عودته من سوق الخميس، القريب من جبل "سَوْرَق".
خلال فترتَي الاحتلال العثماني لليمن - الأولى في القرن السابع عشر، والثانية في القرن التاسع عشر - شجع ولاة "الباب العالي" نزعة التصوّف في اليمن، وكذلك فعل الأئمة الذين حكموا البلاد في فترات متقطعة خلال الألف سنة الماضية، لا سيما في شمال اليمن. هكذا ازدهرت تجارة وزراعة التبغ، وتصنيع أو استيراد أدوات تدخينه، ابتداءً بالغليون، "المَشْرَعة"، ثم الأرجيلة، "المَدَاعة" حسب التسمية اليمنية.
بعيداً عن الأرجيلة، بدأت صناعة الغليون في منطقة "حَيْس"، غرب اليمن، وهي المشهورة بصناعة الفخار منذ أزمنة موغلة في القدم. كان يُصنع من الطين، ثم امتدت صناعته إلى أكثر من مدينة من بينها تَعِزْ، التي يعود تاريخ نشأتها إلى القرن العاشر الميلادي. لم تقتصر صناعة الغليون على الطين فحسب، بل تفنّن الصنائعيون في نحته من الحجر، ناهيك عن التصاميم المستوردة من أوروبا والهند مع استمرار حركة التجارة من وإلى البلاد. وبعد الغوص في كل هذه التفاصيل، استجابت ذاكرة أبي لوصف أجزاء الغليون الذي كان يُصنّع محلياً، والذي استخدمه جدي قبل أن يحصل على آخر من النوع الإنجليزي هدية من أحد أصدقائه روّاد التجارة من عدن إلى المناطق الشمالية.
في العام 1604، قدم إلى اليمن طبيب شعبي من المغرب اسمه علي الحكيم. جلب معه كمية من التبغ الجاهز للتدخين وبذور صالحة للزراعة. الحكيم المغربي كان متصوفاً كالعديد من "المتسيّحين" في تلك الفترة إلى اليمن. أما بذور التبغ فقد وجدت تربة خصبة لنموها. لكن قبل ذلك، كان لا بد من وجود قاعدة مستهلكين بحجم تجاري.
كان صنّاع الغليون غرب ووسط اليمن، ينحتون تجويفه عادةً من الحجر الجيري مع إبقاء رأس بارز منه لتركيب القصبة المصنوعة غالباً من الخشب. يتراوح طول القصبة بين 25-30 سنتيمتر، غير أن هناك قطعة ثالثة من الحديد الرفيع القابل للثني تضاف للغليون لكي تكتمل أجزاؤه. تسمى القطعة الثالثة "المَرَدّ"، وهي قطعة متحركة يلفها المدخّن حول تجويف الغليون للتحكم بمقدار الهواء اللازم لإبقاء التبغ مشتعلاً. وفي مواصفات القصبة الجيدة، يجب أن تكون من خشب السدر، كما يتوجب اختيارها من الأغصان الرفيعة غير المعوجّة وقطعها طرية، ثم تجفيفها تحت الشمس حتى يصير لبّ الغصن هشّاً بحيث يمكن نخره بسنارة. أخيراً، يسمى الغليون بعد اكتمال صنعه باسم الجزء الأساسي فيه، وهو "المشرعة" - أي تجويف التبغ.
لماذا يعتبر التدخين قاتلاً؟
يفترض بمن يجيب عن سؤال كهذا أن يكون طبيباً، لكن يمكنني مشاركتكم إفادة طبيب متخصص بأمراض القلب والأوعية الدموية: تدخين التبغ يصيب وظائف الجسم المختصّة بالتوزيع الغذائي، بالاضطراب. بعبارة أخرى، لا تتمكّن من القيام بمهمتها في توزيع الغذاء بصورة صحية، ولهذا السبب - والحديث لا يزال لطبيب القلب - تتكدّس الدهون المشبعة في الشرايين فتبدأ بالانسداد تدريجياً، وترتفع نسبة الكوليسترول بغض النظر عمّا إذا كان الشخص المدخن نحيفاً أم بديناً. هذه معلومة مفزعة بالفعل، لكن قد يتساءل المرء: لماذا يُعمّر بعض المدخنين؟
في فترة ولاية الوزير محمد باشا على مدينة تعز عام 1617، كان يأمر بتجهيز قافلة الحُجّاج اليمنيين إلى مكة، بالقمح والعسل والأرز والبقسماط، و"كفتة" (من أوراق القات)، وبالأفيون! "كثيرون كانوا يتناولون الأفيون، ويستعينون به لتنشيط أعضائهم للعبادة، خاصة وهم في عمل تعبّدي صِرف من لحظة خروجهم من بيوتهم لأداء فريضة ركنيّة". هل تناول جدي الأفيون أيضاً!
في كتاب مقابلاته الأخيرة "الرماد والماس"، يقول المفكر الروسي الشهير ميخائيل باختين إن أحد مدرّسيه في الجامعة كان يدخن حتى وافاه الأجل في عمر التسعين. ليس التبغ فقط، بل الماريوانا أيضاً! قد يكون هذا سياقاً ملائماً لأفصح عن العمر الذي فارق فيه جدي غليونه: مئة وعشر سنوات! هل هي حالات فردية إذاً، أم أن الأمر ينطوي على سرّ لم يكشفه - أو لم يكتشفه - الأطباء بعد؟
لا يوجد تاريخ معروف لدخول نبات القنّب إلى اليمن، غير أن محمد محمد المجاهد - مؤلف كتاب "تعز غصنٌ نضير في دوحة التاريخ العربي" - يذكر أنه في فترة ولاية الوزير محمد باشا على مدينة تعز عام 1617- 1026هـ، كان يأمر بتجهيز قافلة الحُجّاج اليمنيين إلى مكة، بالقمح والعسل والأرز والبقسماط، و"كفتة" (من أوراق القات)، وبالأفيون! يضيف أن "كثيرين كانوا يتناولون الأفيون، ويستعينون به لتنشيط أعضائهم للعبادة، خاصة وهم في عمل تعبّدي صِرف من لحظة خروجهم من بيوتهم لأداء فريضة ركنيّة". هل تناول جدي الأفيون أيضاً! يا له من تاريخ عائلي يبعث على الخجل وفق المعايير الأخلاقية للقرن الحادي والعشرين، لولا أن نبات الأفيون ظل منتشراً في أسواق اليمن حتى ثمانينات القرن العشرين. يكفي أن تسأل رجلاً أربعيني أو خمسيني إذا ما كان تناول زهرة "الخشخاش" في طفولته، ليجيبك بسرعة: نعم! كان أبي يجلبه طرياً من السوق، وفي الغالب بناءً على توصية أمي أو جدتي، لأهميته في معالجة نزلات البرد والتهابات الحلق والمفاصل. وماذا عن تدخين التبغ؟ ببساطة، ارتبط هو الآخر بأراجيل الجدات وغلايين الأجداد.
في سياق متصل بطقوس تدخين الغليون، يقتبس مؤلف كتاب "من كوبنهاجن إلى صنعاء"، توركيل هانسن من تدوينات كارستن نيبور أثناء زيارته لليمن في ستينيات القرن الثامن عشر، ما مفاده أن الناس كانوا غارقين في هموم محلية بسيطة واجتهادات تجاوزها العصر، وأن المواطن اليمني في ذلك الزمن كان يقضي يومه "برتابة وعفوية ودون أمل". أما برنامجه اليومي، فيبدأ باستيقاظه "قبل شروق الشمس ليؤدي أول فروض الصلاة، ثم يشعل نار موقده ليزوّد منها غليونه الطويل ويحضّر قهوته، فيكون على رأس اهتماماته الحصول على نفَس الصباح من التبغ ثم فنجان القهوة مع من سيتواجد معه في تلك الساعة، ويدور حديث بالغ البساطة..." حتى تتوسط الشمس السماء. وفي موضع آخر من الكتاب، يورد وصف نيبور لتجهيزات "المسافر العربي" دون أن يغفل غليونه "الذي يضعه في كيس من الجلد". أما وصفه لإحدى القوافل التجارية المتوجهة من صنعاء إلى ميناء المخاء، فيؤكد فيه أن بضائعها لم يكن بينها "اللبان والبلسم كما كان قديماً"، لكنها تضم ما يعتبره الرحالة الأوروبي "أحسن" من ذلك وفقاً لـ"متطلبات الحضارة الحديثة": "المنتوجات العطرة والبُنّ والتمباك"... كان ذلك في زمن مضى، أما الآن، فجميع موانئ اليمن مشتعلة بحرب لا أفق لها.