لم تظهر أمام وسائل الإعلام، ولم تعبّر عن مشاعرها، ولا عن انطباعاتها. اختفت وانسحبت بصمت. كان المقطع الجنسي الذي كشف عن وجهها كفيلاً باغتيالها معنوياً، بعد أن سربه صديقها السابق... وهو بعد ذلك انتشر كالنار في الهشيم في جل منصات التواصل الاجتماعي كما في المواقع الإباحية.
كانت هي محط إدانة جماعية، وليس صديقها السابق الذي ظهر معها في الفيديو. معظم المتابعين نصّبوا أنفسهم قضاة حكم جاهز، يرددون: "إنها مجرمة، وجزاؤها العقاب الإلهي أولاً، والسجن ثانياً".
هناء، السيدة التي لُقّبت على وسائل التواصل الاجتماعي بـ"مولات الخمار" (سيدة الخمار)، صدر عليها حكم من محكمة تطوان وحُبست لمدة شهر، ثم أفرج عنها خلال شهر شباط/فبراير الفائت. أما صديقها السابق والمقيم حالياً خارج المغرب، فصدرت بحقه مذكرة توقيف.
تطرح هذه القضية عدة مسائل، منها شيوع ممارسة الوصاية الأخلاقوية المجتمعية والجماعية على الأفراد والتلصص على حياتهم الخاصة، الذي وصل هنا إلى حد العنف والتنمّر باسم الدين والأخلاق. ومنها الفارق في الموقف المجتمعي ذاك، ما بين الحكم (بالغ القسوة) على المرأة أو (المتساهل) على الرجل، ومنها أن هناك جانباً مغيباً في القصة يتعلق بنيّة التشهير بامرأة، الذي يفترض أن يكون مداناً بقوة كسلوك منحط، والذي ظهر حين تم تسريب هذا الفيديو إلى المجال العام.. كما يطرح مسألة المتابعات الأمنية والقضائية التي تتم بموجب الفصل 490 من القانون الجنائي، الذي ينص على أن كل علاقة جنسية بين رجل وامرأة لا تربط بينهما الزوجية تعتبر بمثابة "جريمة فساد". وهو النص التشريعي الذي سجنت بسببه هناء وسواها، الذين وصل تعدادهم إلى 15 ألفاً و192 مغربياً ومغربية خلال عام 2019.
"ضحية مزدوجة"
كانت قضية هناء دافعاً لارتفاع أصوات مدنية مدافعة عن الحريات الفردية طالبت بإلغاء الفصل 490، أبرزها حملة ائتلاف "خارجة عن القانون" في الفضاء الإلكتروني، التي أثارت سجالاً محموماً بين فريق يقبلها، وآخر يرفضها وفق قناعاته، أو يتحفّظ عليها، ويعتبرها مجرد حملة عابرة ومناسباتية ليس إلا.
الائتلاف يعتبر بأن حملته ليست وليدة هذا الحدث بل بدأت قبل سنوات، ويفيد بأن"هذه المرأة كانت ضحية مزدوجة للاستغلال الجنسي، حيث صورت دون علمها، وبسبب الحكم الذي صدر بحقها".
المغرب: القانون في اليد والحقوق على الشّجرة
15-03-2018
وقال بيان الائتلاف بأن هناء تعيش ظروفاً اجتماعية "جد هشة"، إذ "تعرضت للاستغلال الجنسي لأغراض بورنوغرافية من قبل صاحب فيديو، صورها دون علمها، وقرر بعد عدة سنوات نشره دون موافقتها. واليوم تجد نفسها في السجن، بينما مرتكب الجريمة حرٌ".
سجال
أما الفريق المناهض لهذه الحملة، فيراها تكريس لـ"ثقافة دخيلة" على قيم المغاربة يطبعها، "الانحلال الأخلاقي"، كما أنه يعتبر فعل المطالبة بإلغاء هذا القانون "ليس ذا أولوية". وأنه لم يحن بعد دور المطالبة بهذه الحريات. هذا الكلام لا يقنع المدافعين عن حق المغاربة في ممارسة حياتهم الشخصية والحميمة بعيداً عن رقابة السلطة الأمنية وحراسة المجتمع، ويعتبرون أن إلغاء الفصل 490 ليس ترفاً، ولا ضرباً من الانفلات الأخلاقي. بل إن المسألة مرتبطة بفكرة أن الحقوق لا تتجزأ ولا يمكن المفاضلة بينها، ولا حاجة لوضع تراتبية لها.
كانت قضية هناء مناسبة لارتفاع أصوات مدنية مدافعة عن الحريات الفردية، طالبت بإلغاء الفصل 490، أبرزها حملة ائتلاف "خارجة عن القانون" في الفضاء الإلكتروني، التي أثارت سجالاً محموماً بين فريق يقبلها، على اعتبار أن الحقوق لا تتجزأ، وآخر يرفضها على اعتبار أنها تشجع على شيوع "الانفلات"، وثالث يتحفّظ عليها، ويعتبرها مجرد حملة عابرة ومناسباتية ليس إلا.
يرى بعض الفقهاء الإصلاحيين أن الفصل 490 "أكثر تشدداً من الدين". فالنص الديني يشترط وجوب شهادة أربعة شهود عاينوا الممارسة الجنسية بشكل كامل ودقيق بين رجل وامرأة. وهذا المعطى "تعجيزي"، والتاريخ الإسلامي لم يدون أي واقعةِ زنا بأربعة شهود طيلة خمسة عشر قرناً، وهذا يدل برأيهم على أن المنطلق الفقهي يذهب إلى حماية الفضاءات الخاصة.
ويحضر استنتاج جاهز لدى قطاع كبير من المغاربة، يعتبر أن إلغاء هذا التشريع سيساهم في تنامي مشاكل وظواهر اجتماعية غير مرغوب بها، من قبيل "اختلاط الأنساب" و"الأطفال المتخلى عنهم"، و"الأمهات العازبات"... ويعتبرون أن الإبقاء على هذا الفصل يمثل رادعاً "أخلاقياً" لكل "انفلات". بينما يرى معارضو هذا التشريع بأنه تسبب في استفحال هذه الظواهر القائمة فعلاً في الواقع. ويعتبرون بأن الطريق الأسلم للتخفيف من هذه الإفرازات الاجتماعية، يلزمه تكريس ثقافة تربوية للجنس والجنسانية، وأخرى حقوقية تتصالح مع الجسد، ولا تدينه، عبر إلغاء الفصول المجرّمة للحريات الفردية، وتقنينها بشكل يضمن ممارستها على نحو حر ومسؤول. أما أسباب الخطر المتمثل بما يعرف بـ"اختلاط الأنساب"، فلم تعد حاضرةً في زمننا المعاصر قياساً بالقرون الماضية، إذ حلَّ العلم وتقنياته المتطورة هذه النقطة من خلال إثبات هوية أب الطفل عن طريق الحمض النووي، واعتماد موانع الحمل ليصير الجنس معطىً إنسانياً خاصاً، مرتبطاً بالحالة الفردية الاستمتاعية أكثر من كونه مجرد وسيلة للإنجاب والتكاثر.
من "الزنا" إلى "الفساد"
انتقل توصيف فعل الممارسة الجنسية خارج إطار الزوجية من "الزنا" إلى "الفساد" في حقبة الاستعمار الفرنسي. وهذا لم يكن تطبيقاً حرفياً للنصوص الدينية، بقدر ما كان هجيناً، يجمع ما بين الردع الأخلاقوي المستوحى من الضمير الديني، والجزاء العقابي المدني المعاصر.
يرى قطاع كبير من المغاربة أن إلغاء هذا التشريع سيساهم في تنامي مشاكل وظواهر اجتماعية غير مرغوب بها، من قبيل "اختلاط الأنساب" و"الأطفال المتخلى عنهم"، و"الأمهات العازبات"... ويعتبرون أن الإبقاء على هذا الفصل يمثل رادعاً "أخلاقياً" لكل "انفلات". بينما يرى معارضو هذا التشريع بأنه تسبب أصلاً باستفحال هذه الظواهر.
يميل هذا القانون إلى الإبقاء على منع الجنس قبل الزواج امتثالاً لأدبيات التشريع الإسلامي. وفي الوقت نفسه، يحاول هذا النص التشريعي أن "يُعَلْمِنَ" العقوبة الدينية للزنا التي تقول بالرجم والجلد باعتباره من الكبائر الدينية، ويعوضها بالحبس والغرامة، ويصنّفها ضمن الجنح المؤطرة تحت العقاب المدني. يرى السوسيولوجي المغربي عبد الصمد الديالمي بأن الفصل 490 يؤشر على "علمنة تخفيفية غير تحررية" بشكل كامل، ويقول بإن "هناك تلطيف من وزن الجنسانية قبل الزوجية، وخطورتها على المجتمع والفرد، وهو التلطيف الذي يتجلى في استبدال الحدود الشرعية القاسية (الرجم أو الجلد) بعقوبة حبسية. من هنا نلاحظ وجود ترابط بين قسوة الحد الشرعي وصعوبة الإثبات من جهة، وبين "لطف" العقوبة القانونية وسهولة الإثبات من جهة ثانية".
قانون "أكثر تشدداً من الدين"
أما دعاة الفقه الإصلاحي، فيرون بأن الفصل 490 "أكثر تشدداً من الدين". فالنص الديني يشترط بوضوح وجوب شهادة أربعة شهود عاينوا الممارسة الجنسية بشكل كامل ودقيق بين رجل وامرأة. وهذا المعطى "تعجيزي"، يجعل من التشريع الديني أكثر تساهلاً واحتراماً لخصوصية الفرد قياساً بالقانون المدني. ويرى باحثون في الشأن الديني بأن الشروط التي فرضها الإسلام لإثبات الزنا كان الهدف منها "عدم اقتحام بيوت الناس" والتجسس عليها. فالتاريخ الإسلامي لم يدوّن أي واقعةِ زنا بأربعة شهود طيلة خمسة عشر قرناً، وهذا يدل – بحسبهم – على أن المنطلق الفقهي يذهب إلى حماية الفضاءات الخاصة.
تجديد قشرة الخطاب الديني
30-09-2016
الإرث في المغرب: المساواة تستفز
28-05-2017
تقول أسماء المرابط، الباحثة في الفقه الإسلامي، والمعروفة بآرائها الإصلاحية، بأن الإسلام أدان العلاقات الجنسية الرضائية، لكنه في الوقت ذاته أمر بـ"ستر" الحياة الخاصة للأفراد، مستشهدةً بحديث نبوي حثّ مسلماً أدان ممارسة شخص ما للجنس غير الشرعي بالقول التالي: "لو سترته بردائك لكان خيراً لك". وترى بأن"احترام التحريم الديني أو رفضه تظل مسألة إيمانية وقناعات أخلاقية شخصية"، لأن "الله وحده القاضي"، وبالتالي "لا ينبغي للقوانين أن تقاضي، ولكن أن تنزع نحو التحكيم العادل، وتحمي خصوصية الناس وليس التشهير بهم".
سجال غير محسوم..
في المحصلة، يظل سجال إلغاء الفصل 490 من القانون الجنائي المغربي، وسواه من الفصول المجرّمة للحريات الفردية مستمراً وممتداً دون أن يُحسم. وبشكل عام، تُناقَش هذه الحريات أحياناً بنوع من المزايدات الأخلاقوية تارةً، وتارةً أخرى كاستعراض أيديولوجي وسياسوي على "السوشل ميديا"، من دون اقتراح مشروع مجتمعي حقيقي ومؤثر على الأرض، أو حتى من دون التحول إلى قوة ضاغطة تنهي زمن شيطنة الحميمية الجسدية، وتزيل فرض وصاية الدولة على مواطنيها لهذه الجهة. وأيضاً - وحتى لا نتجاهل هذا الجانب الذي تكررت بخصوصه الوقائع – بغاية القطع مع توظيف السلطات لهذا الفصل كوسيلة لتصفية الحسابات مع معارضين أو نشطاء أو مؤثرين، وضربهم معنوياً.